يمكن للحجج العامة في مصر والعالم العربي أن تتخذ بسهولة ستارًا دينيًا. فظاهرة تصاعد النقاش والجدل العام من على أرضية الدين -خاصة الإسلام- ظاهرة متكررة تشبه الموجات المتداخلة المتعاقبة، لا تكاد ننتهي من قضية حتى نبدأ في أخرى، وتمتد إلى المجالات كافة، سياسية واقتصادية واجتماعية وفنية وثقافية. وهي لا تقتصر على قضايا المجال العام فقط. بل بسهولة تتحول العلاقات الحميمة في الأسرة إلى نقاش عام. ومن السهل استدعاء الديني إلى أي قضية وإن لم يكن لها تعلق بها من قريب أو بعيد.

فالدين أحد اللغات الرئيسية للنقاش العام في المنطقة. والطريف أن قضايا الجدل تتكرر بشكل دوري منذ السبعينيات من القرن الماضي ولا تحسم أبدًا. وأضفت عليها السوشال ميديا من أمراضها، ففرقت الناس وزادتهم تشرذمًا واستقطابًا وتشتتًا وتسطيحًا.

وهي ظاهرة لا تقتصر على المتدينين أو الإسلاميين أو علماء الدين. بل يشترك فيها الجميع. فهناك من يحرص على ركوب “التريند” من مدخل إثارة الجدل الديني، واستغنى بها السياسيون عن الفعل السياسي، في ظاهرة عجيبة لا نشهدها إلا في مصر والمنطقة. وهي تحول السياسة إلى فعل ثقافي.

والملفت أن ما أطلقت عليه “فائض التدين” في المجتمع المصري -كما ظهر في الجدل العام منذ سبعينيات القرن الماضي- لم يواكبه تحسن حقيقي في معيشة الناس، في مفارقة واضحة لعلاقة الدين بالدنيا. فإذا كانت الأخيرة مزرعة الآخرة، فمعنى ذلك أنه إذا فسدت فسد الدين– كما يرى الماوردي الفقيه التراثي.

في هذا المقال، لن نناقش كيف وأين تتم مناقشة الدين علنًا، ولا قضايا الجدل وأطرافه، ولا طبيعة المجال الديني المصري القائم على التعدد، ولا علاقة الدين بالدولة. لكن نخصصه لتأثير هذا النوع من الجدل على السياسة الواقعية. بمعنى التأثير على نتائج السياسة: ببناء التحالفات، أو تغيير القوانين والسياسات والميزانيات المخصصة، أو حتى الوصول إلى تسويات وحلول وسط.

ما يستحق المتابعة -إذن- هل حيوية الجدل السياسي حول الدين من شأنها أن تغير السياسة فعلًا أم تؤدي إلى التغطية عليها؟

سياسة الحجج

الأطروحة الأساسية التي يقدمها لنا ناثان براون في كتابه الهام “مجادلة الإسلام” -الصادر بالإنجليزية 2017- أنه باستثناء خلق توجه عاطفي تجاه بعض الممارسات والقوى السياسية، فإن جمهورية الحجج والجدل الديني لا تؤثر في السياسة الواقعية في مصر ولا تفرض عليها تغييرًا ملموسًا، وأن الحجج العامة حول الإسلام تقنع وتؤثر في تغيير السياسة فقط في مناسبات نادرة.

ترك هذا بصمته على السياسة:

1- فهي استقطابية، لأن أطرافها لا يجادلون على التوصل إلى اتفاق أو التأثير على قرار، وطبيعتها غير الفعالة أكثر بكثير من محتواها، بما يجعل الحجج مثيرة للانقسام بشكل متزايد.

إن الفشل في الاتصال بالحجة على الحكم يعزز الاستقطاب، ولا يعطي مساحة صغيرة للإقناع، ويوفر القليل من الحوافز للتسوية أو محاولات التوصل إلى اتفاق وحلول وسط.

2- كما نشهد جدالات ساخنة منفصلة عن أي نتيجة، ويجري تسخينها بشكل خاص لهذا السبب تحديدًا.

3- لا يتم إدارة الجدل حول الدين سياسيا، ولا تكمن المشكلة في أن الخلافات الدينية غير قابلة للإدارة، ولكن في أن الأنظمة والمؤسسات السياسية بشكل عام غير مهيأة لتعكس الحجج السياسية من أي نوع.

هنا تبرز مشكلة ضعف الهياكل السياسية، مع وهن ثقافتها المؤسسية وقدرتها على إدارة التنوع والتعدد، فهي لا تجيد غير لغة الإقصاء أو القمع.

4- قدرة السياسة على تضخيم بعض الأصوات على حساب أخرى، خاصة أن بعض هذه المساحات تعمل تحت أعين أجهزة الأمن الساهرة.

5- تتحول السياسة إلى العمل في اتجاه واحد وليس اتجاهات متعددة، حيث يكون الاتصال فعالا من القائد للأتباع وليس في اتجاه الآخرين -أخذا وعطاء، وكلها تسمح لمن تلقوا تدريبًا متقدمًا أو موارد متفوقة بالتحدث بأصوات مضخمة للغاية.

6- بما أن العنف والقمع متجذران بعمق. في الخطاب والممارسة، فيتم نسجهما في نسيج الجدل العام بدلا من تقويضهما، كما أن الخطاب يخرج عن نطاق السيطرة إذا لم يجد أي قوة دفع في نتائج السياسة.

المشكل أن جل الفكر الديني لا يستند إلى الحرية ولا يعلي من قيمة العدل -القيمة العليا في التصور الإسلامي، بل إنه فكر محافظ وأبوي وقمعي جدًا، والأهم من ذلك، شديد السلطوية، وهذا يمنح النظام مستوى غير مسبوق من السيطرة والسلطة الاجتماعيتَين.

كما تستخدم الاتهامات بـ”ازدراء الدين” في محاولة لترويج مبادئ سلطوية ومحافظة جدًا، وهذا بدوره يضمن الامتثال الاجتماعي والإذعان للدولة باعتبارها حامية هذه القيم، وأداة محافظة لتثبيت الاستقرار الاجتماعي.

7- يؤدي طغيان الديني على السياسي، والسياسي على الديني إلى إرباك الجميع، والأهم هو التغطية على أولويات الناس والقضايا، فالسقف المرتفع للجدل الديني لا يوازيه نفس السقف في السياسة أو توزيع الثروة، والجرأة على الدين لا تناظرها جرأة على السلطة، والخلاف على صياغات مواد الدستور لا يكافئه الجهد في تفعيله.

وهنا تكمن إحدى المفارقات، فالبرغم من أن الدولة تحرص على احتواء أي نقاش حول المشاكل الاقتصادية والسياسية بمنتهى الحزم، إلا أنها لا تمانع في السماح للجدل الديني أن يشتد ويقوى، وبرغم هزال السجل التشريعي والرقابي للبرلمان المصري، إلا أنه تحول إلى منتدى أساسي لإشهار المناقشات الدينية الجدلية.

8- نمو السياسة بشكل أيديولوجي مع غياب البرامج والسياسات، فمن المفارقات أنه رغم احتدام الجدل الإسلامي العلماني منذ دخول الإخوان إلى ساحة العمل العام منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، إلا أن الطرفين لم يقدما سياسات بديلة للحكم بعد يناير، أو على حد قول أحد قيادات حركة كفاية: “كنا نعرف ما لا نريد، ولا نعرف ما نريد”.

9- وأخيرا وليس آخرا، فإنها تؤدي إلى تصاعد الطائفية متدثرة بلبوس الأمن القومي، فالطريقة التي تُفهم بها ممارسات تغيير الدين والملة من قبل المجتمع وسلطات الدولة ليست مجرد مسائل تتعلق بحرية الضمير، ولكن باعتبارها قضايا أمنية يمكن أن تهدد “الوحدة الوطنية” أو “السلام الاجتماعي”.

كما يؤدي مزيد من الجدل دون فعل سياسي إلى مزيد من تصاعد التسلطية، حين يتم استخدام الجدل قنبلة دخان للإجراءات القمعية، وتتحول الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني إلى فرض نسخة هرمية للإسلام مدعومة من الدولة ومتجذّرة في القيم الاجتماعية المحافظة، باعتبارها أداةً للسيطرة الاجتماعية.
أما الحالات النادرة التي أثر فيها الجدل على السياسة -وهي استثناء يؤكد القاعدة- فهي:

1- حين ينفتح المجال العام للفعل السياسي -كما جرى بعد يناير 2011.

2- وحين تقوم إحدى هياكل السلطة أو طرف بها بدور ريادي لتحويل الجدل إلى سياسة واقعية [كما قامت سوزان مبارك مع قانون الأحوال الشخصية]، وهو للأسف نادر الحدوث في مصر حيث السلطة مستعلية على مجتمعها، ولا ترى في السياسة تدافع مصالح قوى متعددة.

النتيجة النهائية لسياسة الحجج كما يقدمها لنا ناثان براون في كتابه هي: “جعل المصريين أكثر وعيًا باختلافاتهم دون إعطائهم الأدوات لحلها، لأنه ليس لها انعكاس سياسي”.

المشكلة -إذن- ليست ندرة في الجدل والحجج، ولكن في ضعف الآليات المؤسسية لترجمة المناقشات العامة إلى سياسات عامة، وبهذا يجب أن ينشغل الجميع.