أصدر الأزهر قبل يومين بيانه حول رأيه في الإبداع بعد انتقادات موسَّعة وجهها جمهور المشاهدين أولا لدراما مسلسل “فاتن أمل حربي”. وقد لقي البيان ترحيبًا واسعًا من دوائر متعددة ونال في المقابل انتقادات كبيرة من دوائر الكُتّاب والمهتمين بالفنون بشكل عام.
لقد كان البيان واضحًا وقويًا وغاضبًا. ولا يمكنك استيعاب ذلك دون معرفة كافية بسياق السجال حول الموقف من تجديد الخطاب الديني. تلك الدعوة التي أطلقها الرئيس قبل سنوات ولم تلق ترحيبًا من الأزهر. ويمكنك بالتأكيد أن تتوقف عند قضايا محددة أو مشاهد بارزة كان على شيخ الأزهر أن يتدخل ليحسم الجدل بشأنها. كقضية الطلاق الشفهي التي أنهاها تماما بفتوى هيئة كبار العلماء وسجاله الإعلامي مع رئيس جامعة القاهرة على هامش مؤتمر لـ”تجديد الفكر الديني بالأزهر” يناير 2020م. بالإضافة إلى قضايا متعددة كان الأزهر بطلها. وكان موقفه موضع أخذ ورد كالمواريث وضرب المرأة ورفض تكفير داعش…إلخ.
لا يمكننا فهم هذا البيان بعيدًا عن هذا السياق. ولذلك فقد جاء البيان عامًا. صحيح أنه يشير إلى الدراما إلا أنه يثير مجمل هذه القضايا التي وضعته بشكل واضح في دائرة المتهم. وطالبته بتغيير الخطاب الديني أو تجديده. ووضعت على كتف الأزهر -وحده- أوزار عقود طويلة من الفشل الملحوظ في ملفات كثيرة. وعلى رأسها ملف التعليم. وكأن الأزهر يعيش في جزيرة معزولة عن غيره. ونسي الجميع أن الخطاب الديني مجرد خطاب يعيش مع غيره من الخطابات المتقاطعة معه والمؤثرة فيه. ولن يتجدد الخطاب الديني بمعزل عن غيره. فالتشدد السياسي -مثلا- ينعكس بالضرورة على غيره من الخطابات وكذلك انفتاحه.
الأزهر: محلك سر..!
تحدث الأزهر في بيانه عن تقديره لحرية الإبداع أو ما يصفه بالإبداع “المُستنير الواعي” دون أن يقدم لنا مفهومًا واضحًا للإبداع المستنير. فالجميع -بما فيهم صنّاع المسلسل- يتحدث عن دعمه للإبداع الواعي. ولكننا نختلف بعد ذلك حول مفهومنا لهذا الإبداع. فهناك من يقيده بقيود الدين كالأزهر. وهناك من يقيده بالأعراف الاجتماعية أو ما تعارف عليه الناس في الفضاء العام من “أخلاق”. وهناك من يرفض أي قيد أو شرط على الإبداع ويرى أن أي شرط على الأعمال الفنية يخصم من فنيتها ويجعلها مجرد عمل دعائي. فالفن سيغدو دعاية سياسية إذا وضعنا عليه شروطًا سياسية وسيغدو عِظة أخلاقية إذا وضعنا عليه شروطًا دينية.!
ورغم عدم وضوح “مفهوم الإبداع المستنير” في بيان الأزهر فإن ذلك لا يمنعنا من محاولة فهم المقصود به. وذلك إذا أخذنا في الاعتبار تحذيراته المباشرة. يقول:
“ونحذر من الاستهزاء بآيات القرآن الكريم وهدم مكانة السُّنة النبوية وإذكاء الأفكار المتطرفة وتشويه صورة عالِم الدّين في المجتمع”.
يبدو التحذير هنا غاضبًا إلى حد كبير ولا يمكنك بالتأكيد أن تفهمه على الوجه المراد دون الرجوع إلى الوراء قليلا. فالكلام هنا ليس حول المسلسل فحسب ولكنه ينتقد مجموعة من الكتاب والدارسين (الإعلاميين) الذين وجهوا في السنوات الأخيرة اجتهادات موسعة لبعض النصوص. ويأتي على رأسها الأحاديث أو كتب الصحاح. وهي الحملة التي انتهت بسجن الإعلامي ومقدم البرامج الدينية “إسلام بحيري”.
لقد جاء تحذير الأزهر عامًا وشاملا. لا يقصد هذه الدراما وحدها. بقدر ما ينتقد السياق كله. ولعلك لو تأملت قليلا لوجدت نفسك أمام دلالات أكبر من أن تكون مجرد تحذير. فأنت في الواقع إزاء جملة من الاتهامات شملها هذا التحذير. ومهما كان تقديرك لمكانة الأزهر ومهما كان خلافك مع التيار التنويري إلا أنه يصعب عليك أن تتفق مع الأزهر حول اتهامه لهم بـ”الاستهزاء بآيات القرآن الكريم”.
لنتجاوز هنا ما اعتبره البيان محاولة للنيل من قيمة خريج الأزهر بتقديمه في صورة الجاهل. إذ يمكنك بالتأكيد أن تضم هذه الفقرة من البيان إلى غيرها من الفقرات التي تشبهها في السنوات الأخيرة. فكم استنكرت فئات ونقابات مهنية تناول الدراما أحد المنتسبين إليها. والجميع لا يتقبل النقد في هذه النقطة وكأنّ هذا الطبيب أو ذلك المعلم الفاسد رمز لجميع المعلمين. وهو ما يعكس تراجعًا لمفهوم الفن نفسه في أذهان المنتقدين.
لا كهنوت في الإسلام..!
في الفقرة التالية يرد الأزهر على تهمة الكنهوتية التي يوجهها له خصومه باستمرار. ويقصدون بها انتقاد هيمنة الأزهر و(رجال الدين) بشكل عام على الفضاء الاجتماعي. والكهنوتية -كما تعلم- مفهوم كنسي و(سِرُّ الكَهَنُوتِ: هو أحد أسرار الكنيسة السبعة المقدسة. وبه يتولى الكاهن تلاوة القداس لتقديس جسد المسيح ودمه والحل من الخطايا). ويأخذ الأزهر من هذا المفهوم الكنسي دلالة “العصمة” التي ينفيها عن نفسه تمامًا. يقول:
“ولم يدَّعِ أحد من الأئمة والفقهاء العِصمة لنفسه على مرِّ العصور. بل كلهم بيَّن ما رآه حقًّا وَفق أدوات العلم ومعايير التخصُّص على وجه الإيضاح -لا الإلزام- ونسبة هذه الأوصاف الشائنة للعلماء تدليسٌ ووصِاية وخلطٌ مُتعمَّد يهدف إلى تشويههم”.
وهذه فقرة من الفقرات الخطرة. فلم يقل أحد بعصمة الفقهاء أو الأئمة رحمهم الله. بل لعلنا نتذكر جميعًا ما نقل عنهم جيلًا بعد جيل من أن “كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر/النبي”. أو مثل هذه العبارة: “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”. ولكن هذه العبارات الرحبة أو المتسامحة ليست كذلك في الممارسة. وذلك يرجع إلى أمرين:
الأمر الأول: التخصص المعاصر في علوم الدين: التفسير والحديث الفقه والكلام. إلخ. فالأزهر لا يقبل النقاش إلا إذا جاء على لسان رجل أزهريّ. فمن أراد أن يناقش فيجب أن يكون دارسًا أو مختصًا. أما من هم غير ذلك (أي غير الدارسين) وهم عموم الناس فيجب عليهم السمع والطاعة. تمامًا كما يرضخ المريض لكلمات طبيبه ولا يجادله في تشخيصه إلا إذا كان طبيبًا مثله.
وهذا من وجهة نظري قياس خاطئ، فعلاقة المريض بالطبيب جزئية تنتهي بعد أن يشفى المريض أو تبرأ جراحه. كما أن المريض يختار الطبيب الذي سيضع جسده بين يديه. ولا يفكر في عقيدته أو نوعه (ذكر أم أنثى). لا تشغله سوى كفاءته وقد يقاضيه إن أخطأ في تشخيصه وأصابه بضرر.
أمّا الشيخ فليس كذلك. الشيخ يقدم لي عقيدة وتصورات عن الكون وتفاصيل حياتي. فكل فعل من أفعال العباد يدرجه في حكم ما كأن يكون (واجبًا أو مندوبًا أو محرمًا أو مكروهًا أو مباحًا (أو حلالًا). الشيخ موجود منذ لحظة الولادة إلى دخول القبر. والطريقة التي يوضع بها الجثمان ويتحدث عن المصير فيما وراء الحياة.
من الصعب أو قل من المحال أن يخضع الإنسان لرجل يرى أن هذه وظيفته. من الصعب التسليم له لمجرد أنني لم أتلق تعليمًا أزهريًّا. لا يمكنني أن أتبعه دون مناقشة وفي الوقت نفسه لا يمكن لجميع الناس أن يتخصصوا في الأزهر. وإنما يكفي الشيخ أن يخبر الناس بالأحكام المختلفة دون أن يخفي منها حكمًا مهما كان بعيدًا أو شاذًا. عليه أن يقدم هذه المادة/ الفتاوى -(وهي آراء فردية أو مذهبية)- للناس وهم يختارون ما يناسبهم أو ما تطمئن إليه قلوبهم.
الأمر الثاني: إصرار الأزهر على مفهوم الإجماع أو حُجيّة الإجماع باعتباره أصلًا من أصول التشريع بعد القرآن الكريم والسُّنة الشريفة. حيث يقول:
“إجماع العلماء المُتخصصين المُجتهدين في أحد العصور على حكم شرعي حُجَّة مُعتبرة لا يجوز مخالفتها”.
لقد وجّه الدارسون انتقادات كبيرة لـ”أصل” الإجماع. فمن الصعوبة بمكان أن يُجمع الناس أو العلماء منهم على رأي من الآراء. فدائمًا هناك رأي مختلف في مكان ما لم نعرف به أو لم نسمع به. وهذا الرأي ينال بالتأكيد من معنى الإجماع أو من حقيقة وجوده. وحتى إذا افترضنا وجود هذا الإجماع طبقًا للخيال الأزهري فماذا يعني الإصرار على إلزام الناس به؟ أليس يعني هذا أن الرأي قد حاز العصمة. أي إنه لا يقبل النقد؟!.
صحيح أنّ العصمة هنا انتقلت من المجتهد الفرد إلى جماعة المجتهدين إلا أن القول بإلزام الناس بهذا الاجتهاد يعد ضربًا من الكهنوت أو درجة منه.!
ودع عنك هذا كله. فإصرار الأزهر على إجماع أهل الاختصاص يحرمه من خبرات حقيقية متجددة لا يمكن الحصول عليها إلا عبر النقاش الحرّ مع الناس بوصفهم المستهدفين من هذا الاجتهاد. فما يميز عصرنا أنه معقد وسريع التغير والتفاصيل في أنساقه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية كثيرة جدا. ومن الصعب مقارنته بأي عصر مضى. وهذه الخبرة الهائلة لا يمكن الوصول إليها إلا بالنقاش مع الناس ولن يحدث ذلك في سياق الإلزام والتسليم والطاعة.!
الشريعة والتاريخ..!
لا يقبل الأزهر بالفكرة التاريخية لأحكام الشريعة ويحذّر من هذه الدعوى باعتبارها نقيضًا لفكرة الوحي ذاتها. فالشريعة فيما يؤكد البيان:
“شريعة الإسلام شريعة مُتكاملة معصومة تُصلِح كلَّ زمان ومكان، واجتهادات الفقهاء على مَرّ العصور رسَّخت منهجًا للفهم والتطبيق يستفاد منه في استخراج آراء جديدة تُناسب تطوّر الواقع ومُستجداته، وتراعي مصالح النّاس”.
ولا أريد هنا أن أناقش الفكرة التاريخية في حد ذاتها. فهي تحتاج إلى مقام غير هذا ولكنك لن تختلف معي في أن بعض الأحكام قد تعارضت -مبكرًا جدًا- مع الواقع. ما اضطر المسلمين إلى التوقف عن العمل بها. وأنت تتذكر بالتأكيد موقف عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) من قطع يد السارق أيام المجاعة. وموقفه من سهم المؤلفة قلوبهم. وهو نص صريح واجتهاده الشخصي في نصيب الأخوة لأم (المسألة العمرية). بالإضافة إلى الأحكام التي تتصل بزوجات النبي الكريم وحكم الجزية والأحكام التي تخص الإماء والعبيد. إلخ.
وهذه كلها أحكام يتلوها المسلم اليوم في القرآن دون أن يجد لها صدى في الواقع. ولا يعني هذا أنها ليست من القرآن ولكن الذي حدث أن الواقع قد تغير. مما أدى إلى تغير الأحكام. فالأحكام -في هذا النظر- وسائل إلى غايات أكبر ولا ينبغي أن تحجزنا الوسائل عن رؤية الغايات.
وصحيح أن الفقهاء قد طوّروا تاريخيًا منهجًا أو مناهج معتبرة في استنتاج الأحكام واختلفت مدارسهم ومذاهبهم تبعًا لاختلاف هذه المناهج. ولكن هذا لا يمنعنا اليوم من إعادة التفكير في مناهج الاستدلال ذاتها. أي نفكر في المنهج الذي أخرج لنا كل هذه الآراء كي نتمكن من تقديم آراء تتناسب مع العصر الذي اختلف بشكل مذهل عن غيره من العصور التي وجدت فيها هذه المناهج.
**
يقدم البيان بعد ذلك فقرات مركزة حول قضية المسلسل بما يؤكد تكامل نصوص الشريعة ومراعاتها المصالح وحول منح الأم حق حضانة أطفالها وذلك بما يحقق مصالح الطفل وبما يراعي حقوقه النَّفسية والتَّربوية وسلوكه المجتمعي. إلخ.
وينتهي البيان بالتحذير مما وصفه بالشّحن السَّلبي (المُمنهج) في بعض الأعمال الفنيّة تجاه الدّين. وذلك بنسبة كلّ المعاناة والإشكالات المُجتمعية إلى تعاليمه ونُصوصه. والبيان في هذه النقطة يؤكد الطبيعة المركبة للمشكلات أو الظواهر الاجتماعية. فكثيرًا ما نتحدث عن النصوص الدينية وهي لا تخلو من إشكالات بالفعل، ولكننا نفعل ذلك في تجاهل تام للأسباب الأخرى التي تفاقم الأوضاع، وعلى رأسها الأسباب الاقتصادية وتراجع التعليم.
وأخيرًا، لك أن تعد هذا البيان حلقة من حلقات السجال بين المؤسسة الدينية وبعض التيارات المدنية في المجتمع. وهو السجال ذاته الذي افتتح به القرن الماضي عقوده الأولى مع الشيخ علي عبد الرازق وطه حسين. وهو ما يعني أن قرنًا كاملا لم نتعلم فيه كيف يمكننا أن نتحاور أو نهتدي إلى آلية يمكن التحاور بها حول كثير من القضايا القديمة والمستجدة.