بعد ظهوره المؤثر خلال افتتاح المهرجان القومي للمسرح قبل نحو 3 أعوام، لاحقت الفنان الكبير توفيق عبد الحميد دعوات تطالبه بالعودة مجددا إلى فنه الذي أحبه وأخلص له وإنهاء العزلة الاختيارية التي فرضها على نفسه منذ عام 2010.

كنت ضمن عشرات الكُتاب والنُقاد الذين دعوا هذا العملاق إلى الاستجابة لنداء جمهوره، فبعد أن تابعت مشهد تكريمه وتفاعل الجمهور مع صعوده إلى منصة التكريم، وكيف تفاجأ الرجل بهذا التفاعل، كتبت مقالا أناشد فيه عبد الحميد بقبول ما يُعرض عليه عسى أن يَعدَل به الله وبأمثاله حال الدراما المايل منذ سنوات طويلة.

كان الفنان القدير أحمد عبد العزيز رئيس الدورة الـ12 للمهرجان القومي للمسرح قد أعلن في أغسطس 2019 عن تكريم عدد من عملاقة الفن، وما أن صعد عبد الحميد إلى خشبة المسرح حتى ضجت القاعة بالتصفيق والهتاف، فتسمر الفنان الكبير للحظات وتسربت دموعه وزاغت عيناه وهو يتفحص القاعة ولسان حاله يقول «من هؤلاء؟ وهل هناك من لايزال يتذكرني؟»، فتعالى الهتاف واشتد التصفيق فانهمرت عيناه بالدموع، وانحنى المسرحي العظيم ليحيي جمهوره الحضور كما اعتاد أن يفعل منذ سبعينيات القرن الماضي.

تحول عبد الحميد حينها إلى «تريند» وتم استضافته في العديد من البرامج التلفزيونية، وتوقع المراقبون والنقاد أن يتسابق المنتجون للتعاقد مع الفنان الغائب، إن لم يكن تقديرا لفنه فاستغلالا للحالة التي صُنعت حوله بعد مشهد التكريم المؤثر، لكن الرياح لم تأت بما تشتهي السفن، واستمر غيابه عاما بعد عام دون سبب واضح، وإن كان البعض فسر ذلك بأن الشركات التي سيطرت على الإنتاج الدرامي خلال السنوات الأخيرة لن تحتمل هذا الفنان الذي يقدس عمله ويتعامل مع الفن باعتباره رسالة وليس تجارة.

بعد مرور 3 أعوام على تلك الواقعة أعلن توفيق عن عودته للدراما التلفزيونية ليشارك في مسلسل «يوتيرن» بعد غياب 12 عاما، ليلعب فيه دور الطبيب ووالد الفنانة ريهام حجاج، «يقدم الدور نموذجا للعلاقة بين الأب وابنته، وتدور أحداثه في إطار اجتماعي تشويقي، فضلا عن وجود خطوط متعددة تتنوع بين الدراما والغموض والرومانسية».

وعن سبب قبوله لهذا الدور بعد هذا الغياب الطويل يقول عبد الحميد: «وجدت في العمل ما كنت أبحث عنه طوال الفترة الماضية، من سيناريو مُحكم وصناع جيدين قادرون على تقديم عمل جيد، جيد ودور مهم ومؤثر.. هذه التجربة ستكون الفيصل في أن أستمر أو أعود للتوقف».

عقب أيام قليلة من عرض المسلسل الرمضاني، أعلن توفيق اعتزال التمثيل نهائيا بعد الانتهاء من تصوير الحلقات، ورغم تكهن بعض مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي أن هناك أسبابا حدثت أثناء تصوير المسلسل دفعته للاعتزال نهائيا، ألا إنه أعاد قراره إلى حالته الصحية.

في البداية نشر توفيق عبدالحميد، عبر حسابه الرسمي بموقع «فيسبوك»  خبر الاعتزال، وكتب: «أيام معدودة وينتهي تصوير مسلسل (يوتيرن) على خير إن شاء الله، وأُعلن بعدها اعتزال التمثيل نهائيا»، الإعلان أثار عاصفة من الجدل وتفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي بشكل كبير مع الخبر، وألمح بعض المتابعين إلى أن السبب هو تدخلات بطلة المسلسل ريهام حجاج «السلبية» والتي لم يعتد عليها ولم يطقها الفنان الكبير الذي شعر أنه لا مكان للكبار في مرحلة «الهلس».

وإثر تصاعد الجدل أتبع عبد الحميد منشوره الأول بآخر يوضح فيه سبب الاعتزال، وكتب: «قراري سببه حالتي الصحية ولا علاقة لأي شخص به، وأرجو احترام رغبتي في عدم الكلام».

بعد التجربة الأخيرة أدرك عبد الحميد أن الأمور في عالم الفن تسير في اتجاه معاكس لا يمكن أن يسايره، فهو لا يستطيع أن يجاري آليات سوق الدراما في السنوات الأخيرة، فكرامته لن تقبل أن يطل على جمهوره كسنيد لأبطال وبطلات تلك المرحلة، أدرك الرجل أنه أكبر من ذلك، فقرر أن يأوى مجددا إلى بيته، ليعود إلى هوايته المفضلة «يشاهد ويرصد ويتابع إلى أن يقضي الله أمرا».

لم يقبل توفيق في بداياته أن يعمل وفق قواعد سوق «المقاولات الفنية» التي ظهرت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ولأنه موهوب ومُخلص تعامل مع الفن بحالة من الحب والشغف، فلم يلعب سوى الأدوار التي تشبع شغفه وتحترم رسالته، احترم فنه فقدره جمهوره حتى وإن تأخر هذا التقدير، وعندما شعر أن سوق الدراما تحول إلى «سبوبة» يهمين عليه التسطيح والابتذال قرر الاحتجاب قبل أن يحجبه الصغار.

في حوار له نشرته مجلة «عين» مطلع عام 2019، لخص عبد الحميد أسباب ابتعاده عن الفن حينها وقال: «أنا راجل مزاجاتى فن، أسعى للاستمتاع بالتمثيل، ولست مظلوما وتوقفت برغبتى، مفيش حد موقفنى ولا معطلنى، أنا اللى اخترت، لأنى أريد دورا جديدا أعيش معه فى حالة دهشة وقلق».

كان مسلسل «سي عمر وليلى أفندي» الذي عرض  عام 2010 هو أخر أعمال عبد الحميد قبل فترة العزلة الأولى، وذلك رغم تلقيه العديد من العروض لكنه رفضها لأن التمثيل بالنسبة له حالة استمتاع، «دائما أبحث عن الدور الذى أشعر بالاستمتاع وأنا أؤديه، فيشغلنى طوال الوقت ويجعلنى أفكر فى الشخصية وأستغرق فى تفاصيلها ومحاولة اكتشاف أسرارها».

يبحث عبد الحميد ومن على شاكلته عن القيمة التي ستُضاف إلي رصيدهم من أي عمل يشاركون فيه، فلما غابت القيمة وساد الرُخص وتحكم تُجار الضحالة على الوسط الفني غُيب أهل الفن الحقيقيون وصعد إلى القمم الهشة «النطيحة والمتردية ما أكل السبع».

في خريف 2001، أعاد مسلسل «حديث الصباح والمساء» اكتشاف توفيق الذي أدى شخصية عزيز أفندي المصري، المواطن والزوج والأب والأخ، المتصالح مع ذاته ومع من حوله. وبفضل إتقان عبد الحميد لدوره، تعلقت القلوب بشخصية عزيز أفندي التي صنعها الأديب الكبير نجيب محفوظ، وأعاد بناءها وتضفيرها مع باقى شخصيات الرواية المبدع محسن زايد، وظل الجمهور يتتبعه حتى جاء دوره في متوالية «الحياة والموت» التي بنى عليها محفوظ روايته فأسلم الروح وهو ساجد فوق سجادة صلاة في صباح يوم من أيام الخريف في بيت الغورية.

انطلق بعدها ذلك الفنان الذي عافر 20 عاما قضاها فيما سماه «محنة عنق الزجاجة»، ليقدم أدوار الدكتور رياض فى «أين قلبى»، وكمال أبو العزم فى «حضرة المتهم أبى»، وحسن عوف فى «كفر عسكر» وغيرها عشرات الأدوار التي أحبها وحاول اكتشاف أسرارها  فصنعت منه نجما يزاحم الكبار.

كان توفيق قد مر بعدة مراحل في تلك المحنة التي استهلكت نحو عقدين من عمره، فبعد تخرجه من معهد الفنون المسرحية عام 1979 قرر احتراف التمثيل وشارك في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية والمسرحية، لكن النجومية لم تقترب منه بالقدر الذي كان يريد.

يعزو عبد الحميد أسباب تأخر انتشاره ونجوميته إلى أشياء هو مسئول عنها وأخرى للظروف، «كنت أحلم باليوم الذى يعترف فيه الناس بموهبتى، لكن كان عليّ أن أكتسب الخبرة وأدفع الثمن حيث دخلت الوسط الفني بلا وساطة وبلا ظهر استند عليه، وهذا الثمن أخرني لأنه كان مرتفعا، فقد دخلت الفن بقناعات أن الموهبة والدراسة هما الأهم، ولكن ذلك لم يكن واقعيا فهناك أشياء أخرى تتدخل في هذا الموضوع»،  على ما قال في حوار مع جريدة «الاتحاد» الإماراتية عام 2005.

عُين عبد الحميد بالمسرح الحديث مطلع الثمانينيات، وشارك في تمثيل عدد من المسرحيات على المسرح القومي منها «رابعة العدوية» و«مجنون ليلى»، وتميز في دور محمد علي باشا في المسرحية التاريخية «رجل القلعة»، ولم يقدم في تلك الفترة سوى عملين دراميين، حتى تم ترشيحه لدور عزيز المصري في مسلسل «حديث الصباح والمساء» عام 2001، ليتحول هذا الدور إلى منصة انطلاق لنجومية هذا الفنان، ليقدم بعده دور الدكتور شلبي في «أميرة في عابدين»، ويشارك عام 2002  فى مسلسل قاسم أمين ويقدم دور الشيخ محمد عبده، كما أدى دور فكري أباظة فى مسلسل «أم كلثوم».

عاد توفيق بعد احتجاب استمر 12 عاما، حُشر خلالها في «محنة عنق زجاجة» أخرى، وعندما عاد وجد أن الأوضاع لا تُلائمه، فهذا الفنان الكبير الذي تتبع كاتب المقال سيرته ومسيرته وأُغرم بفنه لا يقبل بتحكم الصغار فنا وقيمة في مصائره ومصائر الكبار أيا كانت الظروف.

أتمنى أن أرى توفيق مجددا في أعمال تستحقه ونستحقها، إلا أنني لا أتوقع أن يتوائم هذا العملاق مع هذا المناخ الطارد للكبار الباحث عن «فقاقيع» تختفي كما ظهرت دون أن تترك بصمة أو أثر.