قبل أيام مرت ذكرى وطنية عظيمة دون أن يلتفت إليها أحد. ففي تمام الساعة التاسعة وعشرين دقيقة من صباح يوم الأربعاء الموافق 8 أبريل عام 1970، قصفت خمس طائرات إسرائيلية مدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة وسوتها بالأرض. راح ضحية هذه العملية القذرة، التي ترقى لكونها جريمة حرب، 19 طالبًا وأصيب 50 من طلاب ومعلمي وعمال المدرسة. قبلها بأسابيع، وفي صبيحة يوم 12 فبراير من نفس العام، كانت إسرائيل قد قصفت مصنع أبوزعبل ودمرته، وراح ضحية الجريمة 70 عاملًا وأصيب 69 آخرين.

وقتها كتب الشاعر الكبير صلاح جاهين وقتها كلماته الخالدة عن “إحنا العمال اللي انقتلوا قدام المصنع في أبوزعبل”، وكتب “الدرس انتهى.. لموا الكراريس”. لكن يبدو أن الدرس لم ينته، كما تصور صلاح جاهين. بل ربما بدأ. فدلالة العمليتين كانت واضحة ولا تخفى على لبيب: إذا أردت أن تهزم بلدًا، فلتضرب عقله ومصنعه.

صحيح أن مصر استعادت توازنها سريعًا، وكبدت إسرائيل خسائر فادحة خلال حرب الاستنزاف، التي توجت بالانتصار في حرب أكتوبر 1973، وصولًا إلى عقد اتفاقية السلام عام 1979، وتوقف قصف الأعداء. لكن الهجوم على مدارس مصر ومصانعها لم يتوقف. فقط تغيرت الطريقة، وتغير المهاجمون.

بدأت الموجة الأولى من الخصخصة في عهد الرئيس السابق أنور السادات في سياق قوانين الانفتاح الاقتصادي (النيو ليبرالية) التي سمحت لرأس المال العربي والأجنبي بالاستثمار في مصر. واستمرت نفس السياسات النيوليرالية خلال عهد الرئيس السابق حسني مبارك. وتصاعدت وتيرة الخصخصة في التسعينيات، ولا تزال مستمرة. بل وزادت معدلاتها. وعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، ارتفعت تكاليف التعليم العام بدرجة كبيرة. كما تراجع مستوى التعليم وجودته إلى درجة تنذر بالخطر.

صحيح، أن كل جيل يشعر بالقلق من أن مستويات التعليم تتدهور عما كان في الماضي. ومن بين أقدم المقالات عن تدهور التعليم في التاريخ مقالة ترجع إلى الحضارة السومرية في بلاد الرافدين -أي منذ حوالي 4000 سنة- تأسى لكون الشباب أكثر جهلًا لدرجة تصل إلى حد الكارثة مما كان عليه الجيل السابق مباشرة.

إن تدهور التعليم لا يعني فقط مجرد الأمية الأبجدية، أو افتقاد مهارات الحساب. لكن يتضمن أيضًا الأمية العلمية والثقافية. وقد قدم لنا أفلاطون منذ حوالي 2400 سنة في الكتاب السابع من “القوانين” تعريفه للأمية العلمية. قال: “هو الشخص غير القادر على العد، أي أن يعد واحد إثنان ثلاثة، أو أن يميز بين الأعداد الفردية والأعداد الزوجية، أو يحسب الليل والنهار، أو هو الشخص الذي ليست لديه أي معرفة بدوران الشمس والقمر والنجوم الأخرى”.

يضيف أفلاطون: “أظن أن جميع الأحرار لابد أن يتعلموا الكثير من هذه الأفرع المعرفية كما يتعلمها كل طفل في مصر حين يتعلم الأبجدية. ففي تلك البلاد اخترعت الألعاب الحسابية ليمارسها الأطفال فقط. وهم يتعلمونها باعتبارها شيئًا يبعث على السرور والتسلية. ولقد سمعت في زمن متأخر من حياتي بجهلنا في هذه الأمور ما أثار دهشتي. فنحن نبدو، بالنسبة لي، أقرب إلى الخنازير منا إلى البشر. لذا فإني أشعر بالعار. ليس من نفسي فحسب. بل من جميع الإغريق”.. ترى ماذا سيقول أفلاطون عن مستوى التعليم في مصر حاليًا إذا ما قدر له أن يعود إلى الحياة؟

ينص الدستور المصري في مادته رقم 19 على أن “التعليم حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية المصرية، والحفاظ على الهوية والروح الوطنية، وتأصيل المنهج العلمي في التفكير، وتنمية المواهب وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز. وتلتزم الدولة بمراعاة اهدافه في مناهج التعليم ووسائله، وتوفيره وفقا لمعايير الجودة العالمية. والتعليم إلزامي حتى نهاية المرحلة الثانوية أو ما يعادلها. وتكفل الدولة مجانيته بمراحله المختلفة في مؤسسات الدولة التعليمية، وفقا للقانون. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم لا تقل عن 4% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية. وتشرف الدوله عليه لضمان إلتزام جميع المدارس والمعاهد العامة والخاصة بالسياسات التعليمية لها”.

كما ينص الدستور في مادته رقم 22 على أن “المعلمون وأعضاء هيئة التدريس ومعاونوهم الركيزة الأساسية للتعليم. تكفل الدولة تنمية كفاءتهم العلمية ومهاراتهم المهنية ورعاية حقوقهم المادية والأدبية بما يضمن جودة التعليم وتحقيق أهدافه”. لكن البون شاسع بين الدستور وحال التعليم. حيث يشهد التعليم هجومًا منسقًا وخطرًا وغير مسبوق، لا من حيث حجمه ولا مستواه ولا التداعيات طويلة المدى التي يمكن أن تترتب عليه.

ينخفض الإنفاق العام الفعلي على التعليم، وتزداد أعداد المدارس والجامعات الخاصة الأهلية والدولية، وتضفي السياسات النيوليبرالية مزيدًا من الطابع المالي على التعليم، الأمر الذي يؤدى في النهاية إلى تحويل التعليم من حق أساسي من حقوق الإنسان إلى سلعة تخضع لقوانين السوق في الربح، لذلك، ليس من المصادفة أن يزيد عدد المدارس والجامعات الخاصة، في الوقت الذي يقل فيه عدد مصانع القطاع العام، وتزداد كثافة الفصول في المدارس والجامعات الحكومية.

ويزداد اعتماد التعليم على التكنولوجيا الرقمية والتعلم الذاتي والاختبارات الموحدة ووسائل التقييم المستمر، ويتضمن هذا النوع من التعليم استخدام كميات كبيرة من البيانات التي يتم جمعها عن الطالب والمعلم، وتروج الشركات ودعاة الخصخصة أنهم يقدمون تعليما جيدا على غرار “وادي السيليكون”. وتشكل صناعة التكنولوجيا التعليمية سوقا ضخمة تقدر مبيعاتها السنوية في العالم بحوالي 112 مليار دولار. وتسعى الشركات وأنصار السوق إلى استبدال نظام التعليم الذي يعتمد على المعلم، بنظام آخر يعتمد على الذكاء الاصطناعي والتعلم الذاتي، ويقولون أن هذا التعليم أرخص تكلفة وأكثر كفاءة، وأن طرق التعليم التي يروجون لها هي بديل مناسب للمدرسة التي يزعمون أنها فشلت.

الاختبارات الموحدة مليئة بالمشكلات، ولا يقتصر الأمر على تعرض المعلمين والمديرين للضغوط من أجل اعتبار الإجابات الخاطئة صحيحة لرفع درجات الاختبار، كما حدث في أتلانتا على وجه الخصوص، لكن يمكن للمعلمين والمديرين أن يمنحوا طلابهم وقتا أطول للاختبار، كما يمكنهم تقديم مساعدات أخرى في الاختبارات. لكن الأهم من ذلك، هو إن الاعتماد المتزايد على الاختبارات الموحدة يحول هدف التعليم من التعليم للتعلم وبناء الشخصية، إلى التعليم للاختبار، ما يعني عمليا تجاهل تدريس الموضوعات التي لن يتم الاختبار فيها، لا سيما الفنون والموسيقى والحرف اليدوية والألعاب، والتي تعتبر ضرورية للتعليم.

ترتب على تحول هدف التعليم، من التعليم للتعلم إلى التعليم للاختبارات، تفاقم عدد من الظواهر مثل الدروس الخصوصية والغش وتسريب الاختبارات والفساد وتزوير شهادات التخرج للحصول على وظيفة، وتراجع الدور التعليمي والاجتماعي للمدرسة، وتراجعت مكانة المعلم، بل وأصبحت مهنة التدريس غير مغرية بسبب انخفاض أجور المدرسين وزيادة الأعباء والإلتزامات عليهم، ولا أبالغ إذا قلت أن المدرسة أصبحت في الفترة الأخيرة طاردة للكثير من الطلاب.

لكننا لا نشهد فقط رقمنة وتسويق تكنولوجيا التعليم. بل نشهد أيضًا حظرًا للتفكير النقدي في المدارس والجامعات، بالتزامن مع هجمات على الحريات والحقوق الأكاديمية والنقابية للمعلمين والطلاب، وتهميش دور نقابات المعلمين واتحادات الطلاب كشريكين أساسيين في التعليم، لصالح مجالس غير منتخبة للآباء. كما نشهد اتجاهًا واضحًا لتفتيت الجهاز الإداري للنظام المدرسي. ذلك عبر تخفيض أعداد المعلمين وعمال الخدمات المعاونة، والتعاقد مع شركات خاصة بدلًا منهم. ويرتبط كل هذا ارتباطًا وثيقًا مع اختراق تقنيات المراقبة للمدارس ووضع كاميرات وميكروفونات للمراقبة على الطلاب والمعلمين والعاملين على مدار الساعة وانتهاك حرياتهم وحياتهم الخاصة.

قد يكون أنصار السوق على صواب حين يقولون أن السوق الحرة تخصص الموارد بكفاءة في كثير من المجالات. لكنهم يخطؤون حين يزعمون أن يحدث ذلك في جميع المجالات بما فيها التعليم. يقول “صامويل أبرامز”، أستاذ التربية في كلية المعلمين بجامعة كولومبيا الأمريكية ومدير المركز الوطني لدراسة الخصخصة في التعليم، في كتابه “التعليم والعقلية التجارية”-الصادر عام 2019- أن السوق الحرة تعمل بشكل جيد عندما تتوافر شروط الشفافية والمسائلة والتنفيذ الصحيح للعقود، لكن عندما تفتقد السوق للشفافية والمسائلة، تفشل فشلًا ذريعًا.

ويرى أن الاستعانة بالقطاع الخاص لتقديم بعض الخدمات التي تقدمها الحكومة، مثل جمع النفايات أو نقل الطلاب وخدمات البريد أو توفير الكتب والوسائل التعليمية، يمكن أن تكون منطقية. وبالتالي، قد يكون لخصخصة توصيل السلع والخدمات المنفصلة ما يبررها. ويفسر ذلك بقوله “نحن لا يمكن أن نحسد صاحب مطعم أو بائع كتب على أرباحه، وذلك لأننا -كمستهلكين- يمكننا الحكم بسهولة على جودة السلع والخدمات التي يقدمها. وبالتالي، نقرر ما إذا كنا سنعود إليه أم لا”.

يفشل أنصار السوق في التمييز بين الخدمات البسيطة المكملة وبين الخدمات التعليمية المعقدة. ففي حالة التعليم المدرسي يكون الطفل -وهو المستهلك المباشر- في وضع لا يسمح له بالحكم ما إذا كانت المقررات يتم تدريسها بشكل صحيح، أم لا. جربت دول كثيرة الاعتماد على القطاع الخاص لحل مشكلة نقص الإنفاق العام على التعليم، لكن النتائج لم تكن مرضية، فلم تنخفض نسبة الأمية، ولم تتحسن مخرجات التعليم، ولم يستطع القطاع الخاص سد الفجوة في عدد المدارس.

تؤدي خصخصة التعليم إلى تخفيض أعداد المدارس في القرى والأحياء والمدن الصغيرة وتفتيت المناطق التعليمية. وبالتالي، تقلل من المشاركة المجتمعية للطلاب والتي ترسخ مفهوم الإنتماء للقرية والمدينة والوطن. وتفرض الخصخصة أعباء إضافية على الأسر، سواء في العثور على مدرسة مناسبة لأطفالهم، أو في الوصول إليها عندما تكون بعيدة عن أماكن إقامتهم.

تزيد الخصخصة من التفاوت وعدم المساواة بين الطلاب، عن طريق تقسيم المدارس إلى مدارس جيدة ومدارس سيئة، وفي كثير من الأحيان، يتحول الطلاب الذين لا يستطيعون النجاح في المدارس الجيدة إلى المدارس السيئة، حيث يصبح التعلم أكثر صعوبة بسبب الآثار التي يمكن أن يحدثها الطلاب المتعثرون على الطلاب الآخرين. باختصار- يقول أبرامز- قد توفر الخصخصة بعض الفرص لبعض الطلاب في بعض المدارس الجيدة، لكنها تترك الكثيرين من الطلاب في المدارس السيئة أو خارج المدارس عمومًا.

يخلص أبرامز- بعد مراجعة نتائج خصخصة التعليم في كثير من الدول- إلى أن خصخصة التعليم هي استجابة خاطئة لفشل الحكومات وليست حلا حقيقيا، ويرى أن الحل هو زيادة المدارس العامة في القرى والمدن، والاستثمار حتى تكون هذه المدارس قوية، مع توفير رواتب جيدة وظروف عمل مناسبة للمدرسين وفصول أقل كثافة. توجد أدلة كثيرة على أن الإستثمار في التعليم الجيد والمجاني للأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة يحقق نتائج إيجابية، ويرى أن علينا أن نستثمر أكثر في توفير التعليم الجيد والمجاني للأطفال في هذه المرحلة. قد تكون التكاليف على المدي القصير باهظة، لكن الفوائد التي ستتحقق في المدى المنظور أكبر وأكثر استدامة.

في عام 2016 كان الإنفاق الحكومي على التعليم في مصر يغطي فقط ربع عدد الفصول التي تحتاجها لكي تستوعب أعداد الأطفال في سن التعليم. وخلال السنوات الخمس الماضية، فقد الجنيه المصري أكثر من نصف قيمته، بسبب التعويم والآثار الاقتصادية للجائحة، وتراجع الإنفاق الحكومي الحقيقي على التعليم، في مخالفة صريحة لمواد الدستور ولالتزام مصر بخطة التنمية المستدامة 2030، والتي تنص مادتها الرابعة على تحقيق تعليم عالي الجودة بالتساوي للجميع، ودعم فرص التعلم طوال العمر للجميع.

لكن أنصار السوق ينظرون للتعليم على أنه مثله مثل أي تجارة أخرى، مجرد بيزنس ينبغي أن يحقق الربح، بغض النظر عن أهدافه الاجتماعية ونتائجه على التنمية والعدالة على المدى البعيد. لذلك لا يستطيع القطاع الخاص ولا يرغب في وليس من مصلحته أن يوفر التعليم الجيد لكل من يريده، كما أن انخفاض مستويات الأجور لا يسمح سوى لنسبة قليلة جدا من الراغبين أن يتحملوا التكاليف المرتفعة للتعليم في المدارس والجامعات الخاصة، الأمر الذي يعني ترك أعداد كبيرة من الأطفال محرومين من التعليم الضروري.

ختامًا، لا يمكن بناء جمهورية جديدة بدون تعليم عام جيد ومجاني للجميع.