أسكت الإمام الأكبر شيخ الأزهر فتاوى تحريم التهنئة بأعياد المسيحيين مبكرًا وعاجل المتشددون بسلسلة فتاوى مجددة تصدرت عناوين مجلة “صوت الأزهر”، وكأنها هدية الشيخ للأقباط في العيد. حتى أن صداها الإيجابي قد جاور ألحان أسبوع الآلام في النفوس. فصارت حديث الشارع المسيحي بعد أسبوع حافل بأحداث ومضايقات وصفها الإمام الأكبر بالسخف.

شيخ الأزهر يقفز فوق مصطلح “أهل الذمة” سائرًا نحو المواطنة

يقول الشيخ “لا محل ولا مجال أن يُطلق على المسيحيين أنهم أهل ذمة.. فهم مواطنون متساوون فى الحقوق والواجبات.. ومصطلح الأقليات لا يعبِّر عن روح الإسلام ولا عن فلسفته”. وهي الفتوى التي يفصل بها الإمام الأكبر بين زمنين في معاملة من وصفهم القرآن الكريم بأهل الكتاب. وقال عنهم الرسول “أهل الذمة”. إلا أن تلك المصطلحات التي يستخدمها المسلمون نقلًا عن تراثهم قد تغيرت دلالاتها مع تطور الزمن ومرور الوقت وظهور الدول الحديثة التي تختلف قطعًا عن سياق استخدام التعبيرات تلك (أهل الكتاب وأهل الذمة).

يطلق مصطلح “أهل الذمة” في كتب التراث الإسلامي على رعايا الدولة الإسلامية من غير المسلمين الذين يدفعون الجزية مقابل حمايتهم، فلا يشاركون في الجيش بينما يدفع المسلمون الزكاة وينخرطون في الجيوش وهو الأمر الذي وضحه الإمام الأكبر في تصريحاته مستبدلًا “المواطنة” في العصر الحديث بالتعبير التراثي “أهل الذمة”. مؤكدًا أن الدول الحديثة تعني المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات مع التحذير من استخدام مصطلحات إسلامية في غير سياقها الزمني والتاريخي.

هل الأقباط أقلية؟ محاولة لفهم المصطلح

كذلك فإن الإمام الأكبر قد رفض أيضًا استخدام مصطلح “الأقليات” في وصف المسيحيين المصريين مؤكدًا إن هذا التعبير لا يعكس فلسفة الإسلام وكأن شيخ الأزهر يفتح الباب لإعادة طرح نقاش أكاديمي واسع حول توصيف الأقباط المصريين قد اختلف عليه الأكاديميون ممن نظروا في هذا الشأن ففي حين رأى تيار منهم أن الأقباط المصريين أقلية تتسق مع تعريفات الأمم المتحدة والقانون الدولي للأقليات الذي يشير في المادة ١ منه إلي “حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلى أقليات دينية ولغوية مع التشديد على ضرورة  حماية الدول لوجود تلك الأقليات.وفي الوقت نفسه ولا يوجد تعريف متفق عليه دوليا للمجموعات السكانية التي تشكل أقليات. وغالبا ما يُشدد على أن وجود أقلية هو مسألة واقع وأن أي تعريف لا بد أن يشتمل على العوامل الموضوعية (مثل العرق أو اللغة أو الدين المشترك) والعوامل الذاتية (بما في ذلك ضرورة تعريف الأفراد بأنفسهم بأنهم أعضاء في أقلية.”

أما التيار الأكاديمي الثاني فيرفض وصف الأقباط بالأقلية نظرًا لأن قطاع غير قليل منهم يرفض استخدام هذا المصطلح ذو الصبغة الغربية مؤكدًا على الهوية الخاصة للأقباط ومكانتهم التاريخية كسكان أصليين في مصر وهو ما يلفت إليه شيخ الأزهر في تصريحاته.

اقرأ أيضًا: قراءة في بيان الأزهر

كيف صار التصدي لبناء الكنائس ثقافة شعبية في بعض القرى؟

لم يكتف الإمام الأكبر بضبط المصطلحات إنما تطرق إلى قضايا في غاية الأهمية تخص العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر ألا وهي قضية منع بناء الكنائس في بعض القرى والنجوع والتي صارت من عادات الناس هناك مبرأ الإسلام من تلك الفرضية ومنتقدا بناء مساجد أمام كنائس للتضييق على المسيحيين أو العكس وهي الإشارة التي تعكس وعي الإمام الأكبر بما يموج في المجتمع المصري من تغيرات وتوجهات يربطها أصحابها بالإسلام.

على الرغم من صدور قانون بناء وترميم الكنائس الأول في مصر عام 2016 فإن بعض القرى لاسيما في محافظة المنيا قد شهدت تضييقا شعبيا على عملية بناء الكنائس وفقا لتقرير أصدرته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعنوان “محلك سر” رصدت فيه تصدي الكثير من القرويين لبناء الكنائس في محيطهم مما يعطل موافقة أجهزة الحكم المحلي ويعرقل بناء دور عبادة للأقباط.

يستند معارضو بناء الكنائس إلى فتاوى متشددة حرمت بناء كنائس جديدة فيما أسمته “ديار الإسلام” فقد أفتى ابن باز وابن القيم بعدم جواز بناء كنائس جديدة مع الاكتفاء بما قد بني قبل دخول الإسلام وهي الفتاوى التي صارت مع الوقت جزءا من الثقافة الشعبية في بعض القرى والنجوع.

كيف رد الطيب على المضيقين على غير المسلمين المفطرين؟

بينما تصدى الشيخ الإمام للتضييق على غير المسلمين المفطرين في نهار رمضان واصفًا الأمر بالسخف في رد يحسم جدلًا اجتماعيًا قد ثار الأسابيع الماضية حين ضج غير الصائمين من التضييق عليهم في مأكلهم ومشربهم كرهًا، كما وجه الإمام رصاصاته صوب ما وصفه بالتعاليم المتشددة التي تحرم تهنئة الأقباط في عيدهم مرجعا ذلك إلى ما وصفه باختراق المجتمع المصري في السبعينيات حتى أن الأرض قد هيأت للفتنة الطائفية ثم تبع ذلك انهيارا في التعليم وفي الخطاب الإسلامي وهو التحليل الاجتماعي الجريء الذي يقدمه الإمام الأكبر للمرة الأولى وفي توقيت اشتدت فيه الحاجة إلى مثل تلك الفتاوى والتصريحات.

في الوقت الذي ملكت فيه تصريحات الإمام الأكبر قلوب المسيحيين والعقلاء من المسلمين، فإن المتأمل لتعليقات جمهور مواقع التواصل الاجتماعي على صفحة مشيخة الأزهر يرى إن القراء منقسمون ما بين من لا يصدق إن تلك التصريحات قد صدرت عن أكبر مرجع سني في العالم وما بين من يهاجم الشيخ الإمام الذي آتى بتعليم مجدد ومغاير لما كان سائدا من تعاليم متشددة شكلت أفكار قطاع غير قليل من المصريين ممن شهدوا انهيار التعليم والخطاب الإسلامي الذي أشار لهما الشيخ الطيب نفسه في خطابه مما قد يصيب الإمام نفسه بالإحباط إلا أن الفترة الماضية قد جددت ضرورة التمسك بالمواطنة والقانون كسبيل للقفز فوق تراكم التعاليم المتشددة، ولعل تأسيس المفوضية المصرية لعدم التمييز التي نص عليها الدستور المصري قد تسهم في دفع قضية المواطنة قدمًا في ظل وجود إمام يجدد ليهيئ الأرض فقهيًا لعصر المواطنة وحقوق الإنسان.