في مثل هذا اليوم من 5 سنوات كتبت مقالا حمل عنوان “فرنسا تنتظر الرئيس ماكرون“. وكان ذلك قبل ثلاثة أيام من جولة الإعادة بينه وبين منافسته ومرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان. وفعلا حقق إيمانويل ماكرون فوزا ساحقا وحصل على نحو ثلثي أصوات الناخبين في مقابل نحو الثلث لمنافسته.

وعاد نفس المرشحين للمواجهة مرة أخرى في الانتخابات الحالية. ودخلا للمرة الثانية جولة الإعادة. وتابعتهما أمس الأربعاء في المناظرة الشهيرة التي تجمع بين مرشحي الإعادة على مدار ما يقرب من 3 ساعات. واتضح فيها قوة المنافسة بينهما حتى لو حافظ ماكرون على تفوقه النسبي طوال مدة المناظرة.

ومع ذلك يبقى السؤال: “كيف انتقل اليمين المتطرف من تيار عنصري ملفوظ من مختلف القوى السياسية ويقع في هامش المشهد السياسي إلى تيار في قلب المشهد ومقبول من قطاع واسع من الرأي العام الفرنسي ويتجاوز في قوته اليمين واليسار التقليدي؟”.

فيكفي القول إن وصول جان ماري لوبان “والد المرشحة الحالية مارين” في جولة الإعادة أمام الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك في 2002. دفع فرنسا كلها من اليمين إلى اليسار للاصطفاف خلف شيراك. واعتبروا جميعا أن الجمهورية مهددة لمجرد أن مرشح اليمين المتطرف وصل إلى جولة الإعادة.

وقد فاز شيراك في هذه الانتخابات بنسبة 82% وحقق انتصارا ساحقا.

وعاد ماكرون وواجه مارين لوبان في 2017 ونال دعم مختلف التيارات السياسية باعتباره “مرشح أفضل” من مرشحة اليمين المتطرف. وليس كما جرى في 2002 حين عرف المجتمع ونخبته انتفاضة عارمة في مواجهة مرشح اليمين المتطرف. أما في هذه الانتخابات فوجدنا تطبيعا شبه كامل بين مختلف القوى السياسية مع خطاب أقصى اليمين. والذي انتقل توصيفه من يمين عنصري متطرف إلى يمين قومي.

وقد عرفت هذه الانتخابات وجود مرشح آخر أكثر تطرفا من مارين لوبان خسر من الجولة الأولى وحصل على 7.5% من أصوات الناخبين. وهو إريك زامور. وأعلن أنه سيؤيد مارين لوبان في حين أن قوى اليمين واليسار التقليدي أعلنوا دعمهم لماكرون. أما مرشح أقصى اليسار جان كلود ميلنشون -الذي حل ثالثا وخسر بفارق 400 ألف صوت فقط- أعلن ضرورة عدم إعطاء صوت واحد لمرشحة اليمين المتطرف دون أن يعلن دعمه لماكرون.

إيرك زامور
إيرك زامور

واللافت أن جانبا من ناخبي مرشح أقصى اليسار قرروا التصويت لمرشحة اليمين المتطرف. وبصرف النظر عن نسبتهم فإنه خيار ذو دلالة. وذلك بعدم شعور جانب من ناخبي مرشح أقصى اليسار المتعاطف مع الفرنسيين من أصول مهاجرة ومسلمة وداعم للقضية الفلسطينية بأن هناك مشكلة إذا انتخبوا مرشحة اليمين المتطرف. التي تطالب بمنع الحجاب في الشوارع. لكونها تتبنى بعض المقولات التي تدافع فيها عن حقوق الطبقات الشعبية.

ويبقى السؤال: “كيف وصلت فرنسا ومعها كثير من الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى هذا التطبيع مع اليمين المتطرف بعد أن كان تيارا ملفوظا سياسيا وشعبيا؟”.

يمكن القول إن هناك ثلاثة أسباب رئيسية وراء هذا التحول:

الأول يتعلق بسلبيات العولمة وتأثيرها على شريحة اجتماعية واسعة هي بنت واقعها المحلي التعليمي والوظيفي. فقطاع واسع ممن يصوتون لليمين المتطرف هم أبناء طبقات شعبية نالوا تعليما متوسطا ويعملون في مؤسسات محلية وينظرون بحسرة ورفض للمؤسسات العالمية الكبرى. التي تعمل في بلادهم وتعين أشخاصا تراهم أكثر كفاءة وأفضل تعليما.

عدم العدالة والتهميش والتمييز بين الوطني والعالمي كان من أسباب دعم شريحة اجتماعية شعبية لقوى اليمين المتطرف. ولذا لم يكن غريبا أن يطلق على هذا التيار “اليمين الوطني” أو “القومي” لكونه يدافع عن السيادة الوطنية في مواجهة العولمة وتفضيل مواطني البلد على الأجانب.

أما السبب الثاني فهو زيادة أعداد المهاجرين الأجانب في فرنسا خاصة العرب والمسلمين. وهنا سنجد خطاب التهديد الثقافي الذي ربط بين هذه الزيادة ومشكلات البطالة وارتفاع معدلات الجريمة وحوّلها إلى قضايا تهديد ثقافي وحضاري.

ويكفي صدور كتاب “الاستبدال الكبير” الذي كتبه الباحث الفرنسي “رونو كامي”. والذي شكل إطارا مرجعيا لمواقف كثير من قادة اليمين المتطرف وعلى رأسهم المرشح الخاسر إريك زامور. واعتبر فيه المهاجرين المسلمين خطرا على الهوية الأوروبية المسيحية. وأنهم محاربون غزاة يهدفون إلى جعل حياة السكان الأصليين مستحيلة وإجبارهم على الفرار و”إخلاء الأرض”. وإن هدفهم الوحيد هو تدمير الشعب الفرنسي وحضارته واستبدالهما بالإسلام”.

ويمكن القول إن هذه الفكرة تبناها بعض من حملوا السلاح وقاموا بعمليات إرهابية ضد المسلمين. كما جرى في نيوزيلاندا على يد الإرهابي الأبيض الذي قتل مصلين آمنين في أحد المساجد. أو يتبناها رموز من قوى اليمين المتطرف داخل العملية السياسية الشرعية والسلمية في أوروبا.

أما السبب الثالث فهو يتعلق بالإرهاب وجماعات التطرف الإسلاموية. فيقينا كان هناك تأثير سلبي لقيام أفراد يحملون أسماء عربية أو مسلمة بعمليات إرهابية في الغرب. ما أدى لوجود حالة خوف وتوجس من المسلمين والربط بينهم وبين جماعات التطرف العنيف.

وقد دعم هذا الخلط خطاب أقصى اليمين الذي اعتبر ضمنا أو صراحة أنه لا فرق بين الإسلام والمسلمين وبين الإسلاميين المتطرفين.

وقد عرفت فرنسا لأول مرة مرشحا خاسرا وهو إريك زامور اعتبر أن الإسلام في حد ذاته غير قابل للاندماج مع مبادئ الجمهورية العلمانية في فرنسا. وقال جملته الشهيرة “إن الإسلام هو الإسلاميون في راحة. والإسلاميون هم الإسلام في الفعل”. أي لا يوجد فرق بين جماعات التشدد والإسلام.

صحيح أن مارين لوبان ميزت بين الإسلام والمسلمين وبين الإسلاميين المتطرفين. لكنها طالبت بمنع ارتداء الحجاب في الأماكن العامة “وليس المؤسسات الحكومية كما هو مطبق”. وهي بذلك ستجعل فرنسا -حال وصلت إلى الرئاسة- أول بلد في الكرة الأرضية تمنع ارتداء الحجاب في الشوارع.

لقد تم قبول اليمين المتطرف في داخل المنظومة السياسية الغربية وأصبح لونا سياسيا ضمن ألوان أخرى. وأن مسار التطبيع معه يرجع لأسباب بعضها يتعلق بمثالب العولمة وبتصاعد خطاب صراع الحضارات والريبة في المهاجرين الأجانب. وبعضها الآخر يتعلق بربط الإرهاب بدين وثقافة بعينها.