في دراسته عن السينما، يقول الدكتور طاهر عبد المسلم في فصل “شعرية السرد السينمائي”، منطلقًا من مقولة رولان بارت إن السينما تبدأ حين تنتهي اللغة، يقول عبدالمسلم إن المبدع في السينما -الفن البصري عمومًا- معني بتجميل المشهد الواحد واللقطة الواحدة بإحالات لا تقدّم الصورة في دائرتها المعنوية المباشرة. بل تقدم ما بعد الصورة وما بعد المباشر. وربما تتسع الدائرة هذه لتفتح مديات أوسع للانتقال بالرمز والدلالة في الأمر الكتابي، إلى كم غزير من الاحتمالات الفكرية والمعنوية التي تقدمها الصورة. وبهذا تنخرط التجربة في تتابع بنائي ينشد شكلًا من أشكال التعبير غير مألوف أو مستهلك.
هذه ليست نقطة فاصلة بين العمل الفني البصري وغير البصري فقط. بل بين الخطابة الفجة وما دونها. إذ أن ثمة خطاب ثقيل الأثر يُدين المباشرة والخطابية في السينما والتلفزيون، لسنا في منطقة مناقشته بالرغم من اعتراضي عليه جزئيًا. لكن يمكننا الانطلاق من بحث طاهر عبد المسلم للحديث عما نراه في مقالات إبراهيم عيسى المصورة في السينما والتلفزيون. وكان آخرها مسلسله “فاتن أمل حربي”، الذي لا يزعجني خطابيته قدر سعيه لتقديمها.
“فاتن أمل حربي”.. هل تغير الدراما القوانين؟
كانت لي صدفة التعرّف على العمل قبل نزوله بقليل، ومعرفة المباركة الحكومية الحاصل عليها العمل وفكرته التي ربما جعلتني أعتقد جازمًا أننا لسنا فقط أمام خطاب “تنويري” كما يعتقد صاحبه ومؤيدوه. بل ربما يمكن تجاوزه لاعتباره تمهيدًا لتغيير قد يطرأ على بعض القوانين التي يراها إبراهيم عيسى وكثيرون “مجحفة” في حق المرأة، مثل قانون الأحوال الشخصية.
يتناول مسلسل فاتن أمل حربي قصة سيدة (نيللي كريم) الموظفة بالشهر العقاري، والتي تقرر الانفصال عن زوجها سيف بالطلاق، فتجد نفسها في مواجهة العديد من الصعاب، وتتحمل مسؤولية تربية ابنتيها بمفردها. وتكتشف أن القانون في صف زوجها في حال زواجها مرة أخرى.
يناقش المسلسل المصري قضايا تتعرض لها المرأة المصرية بعد الطلاق. ومنها مثل الولاية التعليمية للأطفال في حالة الطلاق، وحضانة الأم للأبناء في حال زواجها مرة أخرى، وأخيرًا ما أثارته حول طرح فكرة تغيير نسب الأبناء ليصبحون على أسماء أمهاتهم، كما فعلت الطفلة “نادين” التي تجسد دور ابنة فاتن في العمل، حينما غيرت نسب عائلتها على ورقة الامتحان ليصبح “نادين فاتن أمل حربي”.
وقد جاء في المشهد الأخير من الحلقة العاشرة حوار بين المعلمة في المدرسة وبطلة العمل فاتن “نيلي كريم”. حيث نبهت المعلمة إلى خطر انعكاس المشاكل العائلية على الأبناء.
إبراهيم عيسى خبير مرفقعات.. فاتن أمل حربي
إبراهيم عيسى خبير مفرقعات، وصحافي قديم، وتلفزيوني الآن، وأحد نجوم “نجوم إف أم”. وهو يدرك جيدًا ما يفعله، ويفهم الأرضية التي يقف عليها، ويعي ضخامة جمهوره الذي يقف خلفه وهو يطلق النيران. كما أنه يستغل جيدًا أزمات النساء في هذا السياق، ويطرح كتابته الخطابية المباشرة الفجة غير المبررة دراميًا في كل سياقاتها. وكأنه يعلم أنها ستنجح، رغم فجاجتها.
حاول أن تمشي قليلًا بقدمك لتسلّي صيامك، وتقرر الذهاب إلى مسلسل “أحلام سعيدة” الذي كتبته هالة خليل ليُعرض في الموسم الرمضاني الحالى أيضًا، ستجده يقدّم نظرة مذهلة عن سيداته، ويعطينا لمحات أكثر إنسانية عنهن. ربما نشاهدها على الشاشة للمرة الأولى بحميمية رائعة وشخصيات أُسّس لها ببطء ربما تنزع أحقيته تواجد بعض الأشياء للنساء ببعض الرزانة والدراما المحببّة. لكن ليس هذا ما يريده إبراهيم عيسى عندما يتحدث عن المرأة أو غيرها.
ماذا يريد إبراهيم عيسى؟
فرقعة الصجفي الشاطر لقضية قانون الأحوال الشخصي. إبراهيم عيسى يدرك جيدًا ربما أكثر منّا أننا لسنا أمام عمل فني بالمعنى التعريفي أكثر من كوننا أمام مقال مصور، يحكي مأسآة المرأة التي نريد تغييرها.
مناقشة فاتن أمل حربي على اعتبار أنه عمل فني تلفزيوني لن يكون في صفه أبدًا.
في المقال/الحلقة الأولى من المسلسل مشهدان يمكنهما تأويل ما يريده عيسى؛ الأول: زوج سنعلم فيما بعد أنه مدير مصنع يتحدث بلهجة مصطنعة غريبة يعتقد عيسى أنها تؤكد على سوقيته. وهو يسعى لغلق شبابيك منزله لأنه لا يريد من زوجته أن تخرج حتى لا ينظر إليها الرجال/ الوحوش/ السفلة. كما يخبرها أنه عليها أن ترتدي الحجاب كي تتحاشا نظرات الرجال السفلة كما قلنا من قبل.
الثاني: الزوجة أمل ترتدي فستانًا أبيض تنتظر في سعادة الزوج (شريف سلامة) الذي نشاهده يرتدي بدلته السمراء. سنفهم بعد لحظات أنهما يستعدان للطلاق. هذه المرة تبدو الزوجة ملهوفة على تلك اللحظة، بينما يبدو الزوج مترددًا.
مشهدان يمكن أن يؤديا مهمة تفسير ما نحاول تفسيره. الآن نحن نحاول خلق سياق نقدي من منطقة منعدمة السياق. الآن نحاول الإمساك بالهواء. لا سياق نفهم منه أزمتهما معًا أو فشلهما الذي يستدعي سعادة فتاة ترتدي فستان زفاف ليلة طلاقها، ولن نفهم فيما بعد.
لماذا يتكلم رجل مدير مصنع بتلك السوقية؟ ما الذي يجعله يتردد في الطلاق؟ ألا يوجد شيء يمكن إظهار ذكوريته بخلاف تلك الافتتاحية عديمة التعاطف والفهم لسياقات هذا الآخر؟
إبراهيم عيسى الذي قدم خطابيته في “مولانا” أو في مغازلاته التي ضمنها في “صاحب المقام” أو الذي رمى كرة النار في خطابه بفيلم “الضيف” زاد جموحه هذه المرة أكثر من كل ما سبقها. وهو لديه مباركة نسائية وحكومية تعتبر مقالة تمهيد لتغيير عدة قوانين كما أتوقع. هل هذا ما يريده إبراهيم عيسى مع كل فرقعة لا تعتمد كثيرًا على الحوار مع معارضيها أم أنه يراهن في كل مرة على غلبة أصوات من يباركونه؟
متى يخسر إبراهيم عيسى؟
ثمة شيء يشغل رأسي يتجاوز “فاتن أمل حربي” كما يتجاوز كل مقالات عيسى التي تنقل حرفيًا من رفيق رحلته المخرج محمد جمال العدل ابن العائلة الفنية الشهيرة.
سمعت منذ فترة ليست بقريبة أنهم بصدد إخراج فيلم “الملحد” إلى النور. إذا صحت الرؤيا لا أعتقد بالطبع أنه سيلقى مباركة شعبية أو حكومية ولو لم يعتمد على سياق درامي يمكننا من فهم الحدث والتعاطف. سيخسر إبراهيم عيسى أكثر مما يحتمل في تلك الطريق الوعرة. وربما يدرك كل متعاطف مع “مولانا” أو “الضيف” كما ستشعر كل فاتن أمل حربي أن المبرر والمنطق هو كل ما يحتاجه الإنسان لفهم القضية دون أدلجة.
الفرقعات لا تصنع وحدها أعمالًا فنية، لو كان هذا ما يريده بالفعل. أنا مع قضية حرية فاتن. وأنا بالطبع ضد تصنيفها على اعتبارها دراما. أتمنى من أستاذنا أن يتذكر أن التعاطف وحده لا يمثل فارقًا. وكل تلك الأشياء التي يعرفها أكثر منّي وربما كما أدعي يتناساها عمدًا لن تكسبه رهانه في كل مرة، يتعارض فيها مع نظريات السرد البصري التي لا يلتفت إليها كثيرًا.