في كتابه «مفهوم تجديد الدين» وضع المفكر الإسلامي السوداني بسطامي محمد سعيد عدد من الشروط التي يجب أن تتحقق في الشخص لينال صفة «الُمجدد»، حتى لا يُطلق هذا المسمى على أي طالب علم أو شيخ مجتهد.
وعدد بسطامي (1945- 2020) 3 ضوابط أو مقاييس، أولها: أن يكون الُمجدد عالما مجتهدا ذا قدم راسخة في الفقه العلوم الشرعية، وثانيها: أن يقوم بتجلية الإسلام مما ألم به من إنحرافات وشوائب وإعادته إلى الكتاب والسنة، أما القاعدة الثالثة: أن يعم علمه ونفعه أهل عصره وأن تكون اجتهادته ذات تأثير يمتد بعد رحيله.
كتاب بسطامي عن التجديد الديني جاء في سياق الرد على العالم الأزهري المصري عبد المتعال الصعيدي (1894-1966)، الذي كان يرى أن مفهوم التجديد لا يجب أن يقف عند حدود الإحياء والبعث والإعادة، بل يشمل «الاجتهاد ومراجعة الفقه وتكييفه بما يناسب ويلائم متغيرات وتطورات الزمن الراهن»، حسبما قدم في كتابه «المجددون في الإسلام» والذي تتبع فيه سير خلفاء وساسة وعلماء ومصلحون ومفكرون باعتبارهم مُجددين.
يستحق العالم الكبير عبد المتعال الصعيدي أن يصنف باعتباره أحد «المجددين في الإسلام»، فالشيخ كان صاحب فتاوى وآراء فقهية ثورية تجديدية أثارت جدلا كبيرا وقت نشرها في النصف الأول من القرن الماضي، وأشعلت العديد من المعارك وتسببت له في العديد من الأزمات وصلت إلى حد إخضاعه إلى ما يشبه «محكمة التفتيش» عقدها له حراس التراث من غلاة الجمود، الذين سعوا ليس إلى فصله من الأزهر فحسب بل إلى تكفيره وإخراجه من الملة ومطالبته بالاستتابة كما يُستتاب المُرتد.
تحت عنوان تحت عنوان «العمامة المستنيرة.. تجديد الخطاب الديني في فكر عبد المتعال الصعيدي» نشرت الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2020 دراسة لأستاذ الفلسفة الإسلامية الدكتور أحمد سالم، تناولت رؤى الصعيدي التجديدية ومعاركه الفقهية والفكرية.
ويرى سالم أن دراسته محاولة للوقوف على ما قدمه الصعيدي من أفكار تمثل «فكرا دينيا جديدا مستنيرا، يعيد الاعتبار للعلم والعقل، ويراعى تطور المجتمع والزمن والبيئة التى يعيش فيها».
«كان الصعيدي حريصا على ربط الدين بحركة المجتمع وعلاقة الروحي بالزمني وعلاقة العقل بالنقل وعلاقة الإنسان بالله، في ضوء مراعاة تطور حركة المجتمع، بما يمنح الدين عبر الفكر الديني الجديد مسايرة مشكلات المجتمع». يقول سالم في دراسته.
وأشار صاحب الدراسة إلى أن الصعيدي كان يعتقد بـ«فصل الدين عن العلم»، مؤكدا أن الدين لا يعادي العلم فقال «إن العلم الصحيح لا يعادي الدين، كما أن الدين الصحيح لا يعادي العلم، لأن الغاية منهما واحدة في هذه الحياة»، تلك الرؤية دفعت المؤلف لأن يصف الصعيدي بأنه «صاحب روح علمانية واضحة».
خرج الصعيدي عن الإجماع الأزهري في الكثير من القضايا الفقهية والخلافية واقترب كثيرا من المساحات الشائكة التي كانت لها عواقب وخيمة على أصحابها في ذلك العصر، فيقول عن الأزهر وعلمائه «إنّني لا يمكن أن أمضي مع أولئك الجامدين من الأزهريين، لأجني على الأزهر بما يجنون عليه بجمودهم»، وفي مسألة قتل الُمرتد قال: «المرتد لا يُكره على الإسلام بقتل أو حبس، وعقابه يُترك لله تعالى في الآخرة، وأن إيمان المكره باطل».
تحت عنوان «فى الحدود الإسلامية»، نشر الصعيدي دراسة في مجلة السياسة عام 1937، قدم فيها اجتهادا ثوريا في قضية الحدود، ففي معرض قراءته للنصوص الواردة في القرآن حول السرقة والزنا، مثل: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا».. «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍۖ»، يرى الصعيدي أنّ الأمر الوارد في الآيتين: (فاقطعوا )، (فاجلدوا)، هو للإباحة، وليس للوجوب، ويجوز العدول عنه في بعض الحالات وتشريع عقوبات رادعة أخرى، ويكون الأمر كلّه، شأنه شأن كلّ المباحات، التي تخضع لتصرّفات وليّ الأمر.
وفي قضية حجاب المرأة أفتى الصعيدي بأن الحجاب عادة وليس فريضة وأنه نزل في حق زوجات الرسول ﷺ وأن الشريعة تركت أمر الحجاب بين الرجل وزوجته وفقاً لمقتضيات المصلحة، كما أباح الصعيدي فنون التمثيل والتصوير، معتبراً أن القرآن قدّم في عرضه صوراً تمثيلية جسّدت الكثير من قصص الأنبياء والرّسول من باب العظة والتعليم.
وفي مسألة الطلاق انتهى الصعيدي، وفقا لما أورده سالم في دراسته، بوجوب أن يكون الطلاق مكتوباً وليس شفوياً، وينبغي أن يكون عليه شهود، كما هو الحال في عقد الزواج، وذهب إلى أن تعدد الزوجات أصبح مفسدة اجتماعية، «على الحاكم تحريمه، إذ إن الحكم الشرعي بإباحة التعدّد كان من قبيل إعلاء المصلحة العامة للمجتمع وللأمة، وليس من قبيل إطلاق الشهوات، واتّباع الأهواء، والمتاجرة بالنساء».
رأي الصعيدي في قضية الخلافة والحكم فتح عليه أبواب النار كما فتحت على الشيخ علي عبد الرازق صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم» والذي نشره عام 1925 أي بعد سقوط الخلافة العثمانية بنحو عام، وكما هاجم حراس الماضي عبد الرازق أنزلوا لعناتهم على الصعيدي أيضا.
نادى الشيخ الصعيدي بأنه لا يمكن قصر الحكم الإسلامي على الخلافة، لأن النبي ﷺ مات ولم يعيّن شكلاً للحكم، بل ترك تعيينه لاختيار المسلمين، حتى لا يكون هناك حرج عليهم في اختيار شكل الحكم الذي يلائم ظروفهم وأحوالهم، فلا يهمّ فيه إلا أن يقوم الحكم فيه على أساس الشّورى والعدل.
ويرى الصعيدي أن «الجزية» أمرا خاصا لا عاما «الأصل فيها الاعتداء والعدوان، وأنها ليست شاملة لكل أهل الكتاب، وأنها لم توجب من باب الكفر والشّرك، لكنها من باب الغرامة الحربية، لهذا لم تجب على النساء وممن لا يصلح للحرب، فلا يكون لها تأثير في تركهم لها، ولا يكون في فرضها عليهم أدنى وسيلة لحملهم على الإسلام، لأن الإسلام أكبر من أن يغري الناس على دعوته بالمال».
وشدد الشيخ المجدد على أن العلوم الإسلامية والفقه القديم تحتاج إلى كثير من التهذيب والتغيير، داعيا إلى فقه جديد «يمشى مع الزمن، ويبدى رأيه فى كل ما يجدُّ فيه»، مؤكدا على أن غاية الدين هي «إسعاد الناس في دنياهم وآخرهم لا بؤسهم وشقائهم»، مناديا بالتركيز على الفقه المقاصدي للشريعة بما يحقق مصالح العباد في مختلف الأزمة والمجتمعات.
الإصلاح الديني من وجهة نظر الصعيدي هو جزء من منظومة شاملة، وحمل الرجل الُحكام مسئولية ما تمر به المجتمعات من جمود «حتى من فكر منهم فى الإصلاح لم يتجاوز الإصلاح الشكلى، ولم يفكر فى إصلاح طريقة الحكم»، مع أن الإصلاح الديني يتطلب إصلاحا ونهضة وتجديدا فى كل المجالات، فهو نتيجة وليس مقدمة.. «فالبناء إذا قام على غير أساس لا يلبث أن ينهار، ولا تكون له فائدة إلا ضياع الأموال».
ونتيجة لتلك الأفكار التي رأها غلاة التشدد في ذلك الحين شاذة، تشكلت في ثلاثينيات القرن الماضي لجنة من علماء الأزهر ضمت الشيخ عبد المجيد اللبان والشيخ محمد الشناوي وترأسها الشيخ محمد الفحام، فطالب اللبان بتكفير الصعيدي واستتابته كما يستتاب المرتد، وأكتفى الشيخ الشناوي بأن يصدر قرار بنقله من كونه مدرّساً في كلية اللغة العربية، إلى قسم المعاهد الأزهرية في طنطا، ووقف ترقيته لمدة خمسة أعوام، بينما رأى الشيخ الفحام أنّه لا يستحق هذه العقوبة، حيث أنه لم يرد سوى التخفيف على الناس.
على درب الصعيدي وغيره من إممة التجديد والاجتهاد مثل الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق والمراغي، صار الإمام أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف الذي نزلت فتاويه وآرائه الفقهية التجديدية بردا وسلاما على المجتمع المصري الذي ضربه الجمود والتخلف، إثر تأثره بموجات ساخنة من الفقه الصحراوي الذي لم يعرف الآخر ووقف عند حدود البعث والإحياء والإعادة، وكان من آثار ذلك بحث البعض عما يُفرق ويُميز ويفتن لا بين ما يجمع ويوحد.
ما طرحه الطيب في تصريحاته إلى جريدة «صوت الأزهر» قبل أيام ليس بجديد، فأحاديث الرجل التليفزيونية وكتبه في الفقه والشريعة احتوت على ذات الأفكار والفتاوى منذ أن كان أستاذا في العقيدة الإسلامية ثم رئيسا لجامعة الأزهر.
استغل الطيب مناسبة عيد القيامة المجيد، وبعث بعدد من الرسائل في تصريحاته لجريدة «صوت الأزهر»، والتي من شأنها تبريد الحالة الطائفية التي عملت على تسخينها أزمات تتابعت خلال الأسابيع الأخيرة، من قتل كاهن الإسكندرية ثم رفض إحدى المطاعم تقديم الوجبات لغير المسلمين في نهار رمضان وأخيرا حادث خطف سيدة بني سويف المسيحية.
ويمكن أن نُجمل رسائل تصريحات الطيب في:
– لا يجوز للمسلم مسَّ التوراة والإنجيل دون طهارة، فالقرآن الكريم وصف الكتابين المقدسين بأنهما «هدى ونور»
– لا توجد فى القرآن أديان مختلِفة.. لكن توجد رسالات إلهية تعبِّر عن الدين الإلهى الواحد.
– الإسلام لا ينظر لغير المسلمين من المسيحيين واليهود إلا من منظور المودة والأخوَّة الإنسانية.
– القرآن ينص على أن علاقة المسلمين عموماً بمن يُسالمهم -أيّاً كانت عقيدته وملَّته- هى علاقة البر والإنصاف.
– التضييق على غير المسلمين فى مأكلهم ومشربهم فى نهار رمضان بدعوى الصيام «سخف» لا يليق ولا يمتُّ للإسلام من قريب أو بعيد.
– لا محل ولا مجال أن يُطلق على المسيحيين أنهم «أهل ذمة».
– المسيحيون مواطنون متساوون فى الحقوق والواجبات.. ومصطلح «الأقليات» لا يعبِّر عن روح الإسلام ولا عن فلسفته، و«المواطنة» هو التعبير الأنسب.
– المساواة الكاملة فى الحقوق والواجبات بين المواطنين جميعاً أصل من أصول الإسلام.
– رفض تهنئة المسيحيين بأعيادهم فكر متشدد لا يمتُّ للإسلام بصلة، ولم تعرفه مصر قبل 50 عاماً.
– الإسلام ليس ضد بناء الكنائس، ولا يوجد فى القرآن ولا فى السنة النبوية ما يحرِّم بناءها، وما يحدث من مضايقات عند بناء أى كنيسة هو ميراث عادات وتقاليد.
– بناء مسجد أمام كنيسة والعكس نوع من التضييق، والإسلام نهانا عن المجىء بمثل هذه المضايقات.
– مشروعية الحرب فى الإسلام تُساوى بين الدفاع عن المساجد والدفاع عن الكنائس ومعابد اليهود بالقدر نفسه.
– خطاب بعض المتشددين أصبح أسير مظهريات وشكليات فارغة من جوهر الإسلام الحقيقى.
كما أسلفنا موقف الطيب من الآخر الديني ليس وليد اللحظة ولا هو رد فعل للأزمات الأخيرة بل موقف قديم وأصيل طرحه في كتابه «القول الطيب» وفي وثائق الأزهر وفي برنامجه التلفزيوني «الكلم الطيب»، لكن اللافت في الموضوع هو احتفاء المجتمع بمعظم مكوناته باستثناء المتنطعين والمتزمتين الذين يسعون إلى إثارة الفتن، بما أعاد الطيب التأكيد عليه مؤخرا.
ضرب الشيخ عبد المتعال الصعيدي معوله قبل مائة عام في أصول جامدة ولامس المناطق المحظورة فقامت عليه وعلى من حذا حذوه الدنيا ولم تقعد، أما ضربة الطيب فاستقبلت بحفاوة، والفارق أن مجتمع الأمس يختلف عن مجتمع اليوم، وظني أن مصر الآن جاهزة لإعادة النظر في الكثير مما يعتبره أهل الجمود أصولا.
كي نخطو في طريق التجديد والإصلاح الديني، يجب أولا أن تُطرح قضية التجديد والإصلاح بمفهومها الشامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي.. ألخ، فالإصلاح الديني يتطلب إصلاحا ونهضة وتجديدا فى كل المجالات، على ما قال الشيخ عبد المتعال الصعيدي قبل قرن من الزمن.