يمكن لنا بسهولة أن نصف الواقعة المسماة إعلاميا “فتاة البلكونة” بأنها واقعة الشهر. ليس لأنها الواقعة الأشهر إعلاميا خلال الشهر الحالي، بل لأننا صرنا إزاء تكرار حدوث واقعة شهرية كبرى في عالم العنف المنزلي. فإذا كانت الطفلة التي تشبثت بحبال الغسيل في منطقة الهرم هي “واقعة شهر أبريل”. فقد كانت واقعة الفتاتين اللتين استغاثتا – عبر مقطع فيديو – من عمهما بالشرقية وآثار الضرب على وجهيهما هي واقعة شهر مارس الماضي. وبالطبع فإن واقعة “عروس الإسماعيلية” التي تعدى عليها عريسها في يوم الزفاف على مرأى من الناس هي واقعة شهر فبراير. ويمكن لنا أن نرجع في الزمن لنبقى نتعثر  في الوقائع الشبيهة، ومن أشهرها في أغسطس الماضي فتاة الإسماعيلية. التي اتهمت والدتها بمحاولة دهسها بالسيارة لرفضها ارتداء الحجاب.

ونحن نعلم الآن أن المشترك الأكبر بين الوقائع المذكورة هي انتهائها جميعا بالتصالح أو إخلاء السبيل. والأخطر، في حالة الفتيات القصّر هو تسليمهن إلى أهاليهن بعد ساعات أو أيام قليلة من الحادثة. إننا لا نعرف بعد ذلك مصير معظم هؤلاء، أو نمط المعيشة الذي صار مفروضا عليهن بعد هدوء الضجة وانسحاب التريند. وإذا كان هذا هو حال ضحايا وقائع شغلت الرأي العام وعرف بها الجمهور الواسع. فإننا لا نعلم شيئا عن الضحايا الأكثر عددا الذين لم يصل صوتهم إلى الجمهور أو السلطات.

 

إن هؤلاء الذين لم يصل أنين صرخاتهم إلى أحد، يعانون اضطرابات الصدمة والتشوّه العاطفي والانفعالي والعقلي. يكبرون وهم يظنون أن العنف هو الوسيلة الطبيعية للحياة والتربية. يعيدون إنتاج العنف نحو الآخرين وعلى رأس هؤلاء الآخرين أطفالهم. لقد تحدث أحد المعلقين على الإنترنت عن حادث السيدة التي حاولت الاعتداء على فتاتين في المترو لأن ملابسهما لم تعجبها. قائلا إنه لا يريد التفكير في احتمال أن يكون لدى هذه السيدة فتيات، لأنها إذا كانت تتصرف بهذه الطريقة مع فتيات غريبات في الطريق العام. فكيف يكون تصرفاتها مع بناتها إن وجدن؟ إنه سؤال مهم، ويستدعي أن تبحثه السلطات التي أعلنت القبض على السيدة.

لكننا نعرف ولا شك أن الفتيات اللاتي تصلنا أخبارهن بعد فوات الأوان. اللواتي ينتحرن بتناول حبات الغلة وبالقفز من الشرفات وبإحراق النفس، هن في واقع الأمر ضحايا تعرض طويل للعنف الأسري. إما بالاضطهاد أو العنف المباشر، أو بعدم مساندة الابنة/ الابن في الأزمات النفسية والعوائق الاجتماعية، والانسياق وراء ثقافة مجتمعية تعتبر البنت مزيجا من الخادمة للأسرة، ثم للزوج وأهل الزوج. بل حتى لأطفالها فيما بعد، و”العار” الذي يحمله أهلها ككرة من نار يتحينون أقرب فرصة لإلقاءها من أيديهم إلى أيدي عائلة أخرى و”الخلاص من همها”. إنها صورة يلخصها أحد الأمثال الشعبية في الجنوب، يصف موت الأم بأنه خلاص من الهم وموت الابنة بأنه خلاص من العار!

غير أن التصدي للعنف المنزلي -إن توافرت الإرادة بالطبع- أكبر من القبض على أب هنا أو شقيق هناك. وبلا شك هو أمر شبه مستحيل في ظل سيادة “محاضر التصالح” بين الأطراف. وإنما هو مفهوم كامل، واستراتيجية تبدأ بالتعديل التشريعي وتوفير الأجهزة الاجتماعية القادرة على التعامل مع المشكلة والتصدي لحجمها الكبير، وقبل ذلك أن نفهم جميعا أن “الضرب” جريمة في حق الإنسان كما في حق الحيوان، وبدون هذا الفهم وتلك المعالجة، فإننا جميعا سنبقى على وشك السقوط، تماما كما كانت الفتاة المسكينة تتدلى من شرفة البيت.