تستحوذ صناعة وتجارة الدواء في مصر علي نصيب الأسد في عالم البزنس، فهي تجارة رائجة تحتكرها كبري الشركات. وتعد صناعة الدواء أحد السلع الاستراتيجية التي لا تقل أهمية عن الغذاء والمواد البترولية.

تتحكم الشركات الخاصة والأجنبية في 90% من إجمالي الإنتاج بالسوق الدواء المصري مستحوذة علي الأصناف الأعلى سعرا. بينما يبلغ إنتاج شركات القطاع العام 5% فقط وتنتج الأصناف الأقل سعرا.

ويلعب نظام “toll” دورا رئيسيا في صناعة الدواء وهو مسؤول عن موجات نقص الدواء التي مرت بها مصر ومازالت تعاني منها. والتول هي المكاتب الحاصلة على رخص من وزارة الصحة والسكان ممثلة في إدارة الصيدلة. لدخول ما يسمى بـ”البوكس” أو الصندوق. الذي يضم عشرات الأصناف المثيلة للأدوية الأصلية والتي يسمح بصناعتها محليا. ولكن هذه المكاتب لا تمتلك المصانع، فتتعاقد مع مصانع أدوية لإنتاج أدويتها، وهو ما يعرف بـ” التصنيع لدى الغير”.

سمسرة

ويعتبر “التول” نوع من السمسرة حيث يقومون بحجز ملفات في بوكسات الأدوية، ثم يعرضونها للبيع بهدف الربح السريع. وتتصارع مكاتب التول على شراء ملفات تسجيل الأدوية الجديدة. مقابل تسديد مبلغ ٢٥ ألف جنيه في الإدارة المركزية للصيدلة بوزارة الصحة. ثم تعيد عرضه للبيع بمبالغ خيالية، مثلما حدث في بداية تصنيع  عقار”السوفالدي” محليا. حيث بلغ سعر بيع ملف تصنيع السوفالدي إلى ٧ ملايين جنيه في ذلك الوقت. بسبب امتلاء البوكس وعدم وجود فرصة للتسجيل.

ووفقا للدكتور أسامة رستم نائب رئيس غرفة صناعة الأدوية، يصل عدد مكاتب “toll” إلى 1300 مكتب، يصنعون منتجاتهم في 154 مصنع أدوية يعملون في مصر. في حين لا يتجاوز عدد الجادين في الإنتاج الـ300 مكتب من أصل 1300.

وأشار إلى وجود ما بين 55 إلى 60 مصنع مازالوا تحت الإنشاء أو جاهزين للإنتاج ولا يجدون مكانا في صناديق الأدوية “البوكسات” للتسجيل. في حين أن ما يقرب من 1000 شركة تول تحتكر ملفات الأدوية لتحقيق مكاسب من خلال السمسرة.

 إعادة فتح التراخيص

فيما انتقد دكتور علي عوف رئيس شعبة الأدوية في الاتحاد العام للغرف التجارية وزارة الصحة والسكان. حالة الهجوم علي شركات التول قائلا: إن الوزارة تظلم صغار المستثمرين لصالح الكبار. وتتظاهر بالحرص على مصلحة المريض بينما يكشف أدائها تشجيعا واضحا للاحتكار.

وأكد عوف أن التضييق على شركات التول الصغيرة ووقف تراخيصها وفقا للقرار رقم 9 لسنة 2015. الذي أوقف ترخيص شركات التول. يأتي لصالح كبار المصنعين المسيطرين على السوق التي تتحكم في الإنتاج ويفتح الباب لمصانع بير السلم لإنتاج الأدوية. مشيرا إلي وزارة الصحة التي رفعت تكاليف تسجيل الأصناف في البوكسات من 30 ألف جنيه إلي مليون. ما أدى إلى ورواج تجارة الإعشاب. ودفع الشركات إلى تسجيل أنواع عديدة من الأدوية في معهد التغذية وهو ما يخرجه من لجنة التسعير للسوق الحر طبقا للعرض والطلب.

وأوضح أن الشركات الكبرى تحارب هذه الشركات الصغيرة لاحتكار السوق والسيطرة عليه. مستشهدا في ذلك بما حدث في أزمة البنسلين التي تعرضت لها مصر في النصف الثاني من عام 2017. عندما توقفت شركة كانت تغطي 80% من استهلاك السوق وإمداده بأربعة ملايين عبوة مستوردة من البنسلين طويل المفعول. فيما تنتج أربع شركات 2 مليون عبوة محليا فقط مما أشعل الأسعار.

وأضاف عوف أن شركات التول موجودة في معظم دول العالم التي تميزت في صناعة الدواء. مشيرا إلى أن مصر حققت اكتفاء من عقار “السوفالدي” المعالج لفيروس سي  بعد أن أتاحت الدولة فتح باب التسجيل لهذه الشركات عبر نظام التول. فانخفض السعر من 25 ألف دولار إلى 14 الف جنيه ومع زيادة التسجيل وصلت الأسعار إلي 400 و200.

حجم السوق

وكشف رئيس شعبة الأدوية في الاتحاد العام للغرف التجارية، أن عدد مصانع الأدوية في مصر 154 مصنعا، منهم 30 مصنع يسيطرون على %90 من حجم سوق الدواء المصري. فيما تغطي الشركات القابضة حوالي 5% من السوق، ويتبقى 5% تتقاسمهم باقي الشركات، موضحا أن هناك حوالي 20 مصنعا يغطون تكاليف إنتاجهم. وحوالي 90 مصنعا خاسرا، وما لا يقل عن 300 شركة غير مرخصة تعمل في إنتاج بعض المستحضرات مثل شاي التخسيس وما شابه ذلك. بتصريح من المعهد القومي للتغذية.

ولفت إلى أن معظم شركات التول تمتلكها من الباطن شركات كبرى؛ ليتاح لها الاستفادة بملفات الأدوية المسموح بها لكل شركة لإنتاج أصناف متعددة. لترفع من أرباحها، مؤكدا أن إعادة فتح باب الترخيص لشركت التول سيقضي على مشكلة النواقص، وسيصب في صالح سوق الدواء المصري.

أزمة التصنيع

الدكتور رؤوف حامد أستاذ علم الأدوية والسموم بجامعة الإسكندرية ورئيس هيئة الرقابة علي الدواء سابقا. يرى أنه على الرغم من أن مصر تعتبر من أكبر الدول المصدرة للدواء في شمال أفريقيا بقيمة 500 مليون دولار بين عامي  2019، 2020. إلا أن الشركات العاملة في مجال تصنيع الدواء تفتقد استراتجية خاصة بالبحث والتطهير من وجهة نظره، وارجع ذلك إلي الاعتماد علي استيراد المادة الفعالة. حيث يقتصر البحث على النوع التطويري أكثر من التطبيقي في غياب التعاون بين الجامعات والشركات ومراكز البحوث.

وأرجع حامد أسباب ارتباك صناعة الدواء في مصر إلي غياب التعاون بين الشركات وبعضها البعض فيما يتعلق بالبحوث والملكية الفكرية. وقال رؤوف لــ360: “نحن في حاجة لاستراتجية بحثية في التطبيق والقطاعات الأخرى وتقديم حوافز اقتصادية تساعد علي المنافسة”.

ملاحظات على الأداء

وأخذ رؤوف عدة ملاحظات على صناعة الدواء في مصر أولا: أن أوضاع شركات التصنيع متأخرة نسبيا ولا تتحرك بسرعة مع المستقبل تكنولوجيا.

ثانيا: ضعف الإمكانيات الوطنية والتي وصفها بأنها عاجزة لاعتمادها على أهل الثقة لا أهل الخبرة وتحريم الرأي المخالف. فعلى الرغم من دخول مصر صناعة الدواء عام 1939 إلا أنها لم تحقق انجازا متقدما فيها بالمقارنة لدولة دخلت متأخرة عنها مثل الهند. التي بدأت سنة 1954 لكنها سبقتنا في هذا المجال.

ثالثا: أخطاء استراتيجية أنتجتها بعض القرارات المتعلقة بسياسة الأدوية في الثمانيات. حيث إن عدد المصانع لابد أن يتوازى مع زيادة السكان ويواكبه تطوير تكنولوجي.

رابعا: تعرض الصناعة لأخطاء قاتلة نتيجة فتح الباب على مصراعيه للقطاع الخاص رغم أهميته في نظره. حيث كانت نشأته بدون تخطيط ما اعتبرها رؤوف “عشوائية”، أيضا وجود أخطاء إدارية في القطاع الحكومي حيث كان يتم محاسبة رئيس الشركة على المحفظة المالية لا الانجازات. حيث عمل رئيس مجلس الإدارة لصالح تكبير محفظته المالية، كأن يشتري من الخارج المواد الخام ولا يفكر في إنتاجها.

خامسا: كما سمح لرؤساء مجلس الإدارة بإنشاء شركات خاصة من باطن القطاع العام قبل خروجهم على المعاش.

سادسا: عدم التزام الشركات متعددة الجنسيات في مصر التي تتدعي أن تكلفة الإنتاج المحلي تحتاج إلي 500 مليار دولار.  بينما التكلفة الحقيقية من وجهة نظر حامد من 50 إلي 70 مليار دولار فقط لأننا في مصر لدينا آليات يمكن الاعتماد عليها مثل توافر بعض الموارد منها الأيدي العاملة والأراضي الزراعية.

الرقابة

وألقى حامد بالمسؤولية علي الحكومة وقال إنها مسؤولة عن محاولات إضعاف الرقابة علي الدواء خاصة بعد دمج الرقابة والبحث العلمي الممثلة في معهد البحوث الدوائية. الذي أنشئ سنة 1963 والمعني بالبحوث الدوائية مع هيئة الرقابة الخاص بوزارة الصحة وأطلق عليهم الهيئة القومية للبحوث الدوائية سنة 1976. واعتبرها ضربة قاضية للتصنيع.

محمد عبد الظاهر أستاذ القانون جامعة بني سويف سكرتير عام الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع. يرى أن حماية الحقوق الفكرية ضرورة لإنتاج المواد الخام ومدخلات الإنتاج في مجال تصنيع الدواء.

وأشار إلى أن قانون حماية الملكية الفكرية لسنة 2002 في الكتاب الرابع منه نص على حماية الأصناف. ونظم التصنيف الإجباري  بهدف تنمية وتطوير فاعلية الاختراعات والأصناف النباتية وتعرف بـ”التراثيات النباتية” الذي تعتمد عليه الدول الكبري في صناعة المركبات الكيمائية. وطالب بحمايته باعتباره مكون رئيس في صناعة الدواء وتسجيل ملكية فكرية لهذه الأنواع ضرورة كما تفعل الدول الكبرى.

تسعير الأدوية

دكتور ثروث حجاج رئيس لجنة الصيدليات بالنقابة العامة للصيادلة أوضح أن فوضي التسعير ورفع الأسعار لا يد للصيدليات فيه لأن الصيدلية تتلقي منتج مسعر رسمي ولا تستطيع تغييره. مبينا أن أي منتج دوائي خاضع لتقييم لجنة التسعير بهيئة الدواء، حيث يتقدم أصحاب الشركات المنتجة بطلبات لتحريك الأسعار بناء علي أسباب تراها اللجنة منطقية فتوافق علي الرفع.

وانتقد حجاج ما اعتبره عدم شفافية في تحريك بعض الأصناف الأكثر بيعا والأعلى سعرا في ظل توافر نفس الأصناف التي لم يتم تحريكها من سنين طويلة. مما يؤدي إلى خسائر كبيرة للجهات المنتجة ويضطرون إلى وقف إنتاجها مما يصب في صالح الأعلى سعرا.

ويري حجاج أن مبررات رفع الأسعار غير  منطقية لأن مدخلات الإنتاج  واحدة في كل الشركات. لكن الزيادة في الغالب لصالح أصناف شركات معينة دون الأخرى. ملقيا بالمسؤولية علي الأطباء أيضا في الترويج للأصناف الأعلى سعرا حيث يقوم بكتابة الدواء بالإسم التجاري له  في روشتة المريض وليس باسمه العلمي. حتى لا يعطي للصيدلي حرية اختيار بديل أو طرح أنواع أخرى من نفس الصنف.

واعتبر حجاج ذلك التوجه متعمد بالتنسيق مع الشركات المنتجة لهذه الأنواع والتي يحصل الطبيب علي نسب منها مقابل كتابتها أو الاعتماد عليها.

وطالب حجاج بوضع استاندر ثابت للتركيبات الأصناف تحسب على سعر التكلفة وتحقيق هامش ربح يطبق على الجميع .حتى لا يتم الضغط علي الشركات الصغيرة والوطنية فتضطر إلى وقف بعض الاصناف الهامة في علاج القلب والضغط والسكر

 المكملات الغذائية

قال حجاج لـ 360 إن أكثر 35%  من أنواع الأدوية في مصر تسجل علي أنها مكملات غذائية في معهد التغذية لتحرير سعرها. ومنها بعض أنواع أدوية للكحة وعلاج الكبد، والمغص، أدوية قلب منوم وتعتمد في ذلك على أن مكوناته ليست مادة كيميائية. منها أيضا فيتامينات (أوميجا 3 والكالسيوم وفيتامينات سي) وكل مكملات كورونا.

توقعات بزيادة الأزمة

فيما توقع الدكتور علي عبد الله مدير مركز الدراسات الدوائية، إنفجار أسعار الأدوية خلال الفترة المقبلة بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية. واعتماد شركات التصنيع الدوائي في مصر على مواد خام يتم استيرادها من الخارج.

وأرجع عبد الله أزمة النواقص إلى وقف الشركات لإنتاج هذه الأصناف لأن العامل التجاري لا يحقق الربح أو لأن المادة الخام غير موجودة أو تأخر الإفراج عنها في الجمارك. مشيرا إلي وجود نقص في أعداد الصيادلة العاملين بالجمارك يؤخر الإفراج لمدة تصل لشهرين.

وقال عبد الله لـ 360 إن  القطاع العام خرج من المنافسة ولا يزيد إنتاجه عن 3%  من وجهة نظره رغم وجود 8 شركات تعمل في تصنيع هذه الأدوية هي( النصر، ممفيس، العربية، القاهرة، سيد، النيل، الإسكندرية) مقابل 200 مصنع خاص في مصر.

مواجهة الأزمة

من جانبها تقدمت  الحكومة إلى البرلمان بتعديل بعض أحكام القانون رقم 127 لسنة 1955 في شأن مزاولة مهنة الصيدلة. حيث تنظيم أعمال الوكالة التجارية وبعض أعمال الوساطة التجارية إلى لجنة مشتركة من لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية، ومكتب لجنة الشؤون الصحية.

وأجري تعديل أخر على مشروع بتعديل بعض أحكام قانون تنظيم أعمال الوكالة التجارية وبعض أعمال الوساطة التجارية الصادر بالقانون رقم (120) لسنة 1982.

ويستهدف مشروع القانون مواجهة التوسع الحاصل في مجالات عمل كل من الوكالات التجارية والوساطة التجارية والعقارية. باستحداث قواعد جديدة تُنظم الحالات التي حدث بها تطورات كثيرة تستلزم إعادة تنظيمها بشيء من التفصيل. وذلك بهدف تقرير أحكام وضوابط موضوعية وإجرائية تسهم في إحكام الرقابة على تلك الأنشطة التي توسعت بشكل كبير وخاصة نشاط الوساطة العقارية.

وانتقد علي عبد الله ما اعتبره تجاهل لنقابة الصيادلة لعرض مشروع القانون عليها لمناقشته وطرحة للحوار المجتمعي قبل إصداره. قائلا: “ما دامت الحكومة هي التي طرحته يبقي لديها نية لإصداره قريبا بدون نقاش”.

تصحيح المسار

ولفت عبد الله إلى ضرورة إعادة هيكل السوق العقاري التول فهناك مئات الأصناف الخاسرة لابد من إعادة تسعيرها للمنافسة وإعادة إنتاجها. لمواجهة استحواذ القطاع الخاصة وكسر حدة احتكار التصنيع وعلى الدولة أن تقوم بإعادة هيكلة لشركاتها مثلما حدث في إنتاج سوفالدي.

ودعا رؤوف حامد هيئة الرقابة الدوائية للتراجع عن ما وصفه سياسة الهدم؛ لأنها كيان قومى يستحيل إعادة بنائه. وأن تظل كياناً علمياً رقابياً تابعا لمجلس الوزراء، أو حتى تحت مظلة الهيئة الجديدة.

ودعا أيضا إلى اندماج التخصصات العلمية المتعلقة بصناعة الدواء معا بعضها مثل  الصيدلية زراعة طب بيطري وطب وهندسة لتحقيق تكاملية الأبحاث.

وأكد حامد على ضرورة وضع تحالفات استراتجية ين الشركات الأجنبية الوطنية والخاص والعام إنشاء مجلس أعلى للدواء تكون مهمته صنع السياسات والاستراتيجيات. يتكون هذا المجلس من خبراء فى جميع المجالات الدوائية، وتجرى أعماله تحت مظلة رئيس الجمهورية، وبمعاونة رئاسة الحكومة.

وأكد علي عوف علي ضرورة إعادة فتح باب الترخيص لشركات التول لأنه سيقضي على مشكلة النواقص. وسيصب في صالح سوق الدواء المصري والقضاء علي الغش العقاري ويساهم في كسر حدة الأسعار ويخلق فرص تنافس حقيقية .

وطالب وزارة الصحة بمراجعة أوراق هذه الشركات ومن لم تقم بدورها الحقيقي في خدمة سوق الدواء والاقتصاد المصري. وتلجأ إلى الاتجار في ملفات الأدوية و”تسقيعها” بسحب الملفات من الشركات غير المنتجة. والتي تشغل أمان في صناديق الأدوية «البوكسات» على حساب شركات أخرى تبحث عن أدوية ولا تجد ما تنتجه.

إلى جانب إعادة النظر من قبل وزارة الصحة في الملفات التي يتم تسجيلها لنفس التركيبات وبنسب مختلفة حتى يتم تسجيل أدوية مكررة. علاوة على فتح البوكسات على مصراعيها لتسجيل الأدوية وعدم تحديدها في 12 اسم تجاري لإتاحة الفرصة أمام المصانع والشركات الجديدة. في دخول السوق والاستثمار والمشاركة في سد العجز في الأصناف الدوائية الناقصة. ومحاسبة المقصرين ولفت عوف إلى أن القانون يتيح سحب التراخيص من الشركات المرخصة بإنتاج صنف دوائي ولا يتم إنتاجه لمدة 18 شهرا.