أخذت التعريفات تُصبح أكثر دقة.. فمسميات الأذى تدرجت حسب نوع السلوك فتحولت من “خازوق” أو “علاقة استغلالية” إلى: علاقة سامة وأصبحنا نسمع كلمة “توكسيك” في جلسات الحكي والنصائح العاطفية، وتغير وصف الشخصية غير السوية من “العنيفة” أو “الأنانية” و”المؤذية، الاستغلالية” التي تتلاعب نفسيا في علاقاتها بالطرف الثاني وجمع هذه الصفات كلها في: شخصيات “توكسيك”، وأصبحنا كذلك نردد “ردفلاجز” و”بادجاي” وصرنا جميعا نحاول تفادي هذه النوعية من العلاقات والأشخاص وإنهاء هذه العلاقات سواء علاقات عاطفية أو صداقة أو قرابة، بدافع من الحرص المحموم مؤخرا للحفاظ على السلامة النفسية وعدم هدر الكثير من الطاقة في علاقات غير نافعة.
بليغ أبو الهنا، شخصية درامية جديدة انضمت لشخصيات الراحل أسامة أنور عكاشة، يقف بليغ في نهاية صف طويل من الشخصيات التوكسيك، صف يبدأ مع أحمد وناهد في “الشهد والدموع” عام 1985 وحتى سيد وشاهندة في “موجة حارة” عام 2013، تُذكرني شخصية بليغ وعلاقته بفريدة في مسلسل “راجعين يا هوى” بكل العلاقات العاطفية في دراما عكاشة، لم أكن أطلق على علي البدري أو بشر عامر أو مجدي في أبو العلا البشري مسمى شخصية سامة أو توكسيك، ولكنني كنت أقول شخصية معقدة، أو تعاني من مشكلة نفسية، أو لا تستطيع التعامل مع الماضي، ولا تتجاوز عن أخطائها ولا تجيد الاختيار.. وحين شاهدت بليغ وعلاقته بفريدة كان المسمىىى يليق به تماما “توكسيك”، يتشابه مع بقية شخصيات أسامة أنور عكاشة في العديد من الصفات وطرق التلاعب ونقاط الضعف والاختيارات والارتباك.
سامح وهند “الحب وأشياء أخرى”
هي طبيبة وابنة لأم من طبقة أرستقراطية ولأب طبيب رأسمالي يجعل من مستشفاه بيزنس ومن مرضاه زبائن، وهو مدرس حكومي في معهد الموسيقى وابن طبقة شعبية يتيم رباه زوج أخته الصنايعي، تبدأ أول حلقة من حيث نهاية كل الأفلام الأبيض والأسود حين ينجح البطل في الزواج من البطلة، يأخذنا عكاشة لنرى ماذا يحدث بعد كلمة النهاية وبعد أن يُقبل البطل البطلة، ينجح سامح وهند في تحدي أهليهما ويتزوجا وتبدأ الصراعات والعُقد النفسية في الطفو والظهور، يصطدمان – ظاهريا – بالفروق المادية بينهم.. ما بين دخلها المادي المرتفع من عملها بمستشفى والدها الاستثماري ودخله البسيط من عمله كمدرس مازيكا حكومي.. يتشاجرا ويشعر هو بأنها تصر على جرح مشاعره حين تأتيه بالهدايا أو تشتري بعض الطلبات المنزلية، ثم عندما تذكر عرضا أن لديه عقدة نقص.. بينما في الحقيقة هي أيضا تنزعج من تسلطه كرجل شرقى، فتشعر بعقدة معاملة الحريم.. ينفصلان بعد محاولات عديدة فاشلة لتجاوز خلافاتهم.. “رمى عليها اليمين” في المحكمة في أول جلسة بعدما يدرك أن التكافؤ بين الطرفين ليس فقط تكافؤا ماديا أو اجتماعيا، وإنما كما قالت له “التكافؤ في ثقتك بنفسك قدام ثقتي بنفسي يا سامح”.. بليغ لم يستطع أن يخطو للأمام في علاقته بفريدة، توقف عند يوم كتب الكتاب وتراجع، مع أنه أحبها في هذا الوقت، وهو مثل سامح الذي لم يستطع أن يطور من الإحساس بالحب لفعل يضمن بقاءه وتطوره، سامح نصحه صديقه عزت وهو يودعه في المطار إلى باريس: “أنا قلت لك قبل كده أن الحب لوحده مش كفاية.. بس نكمله مش نقضي عليه”، بينما يُصر الأسطى فرج زوج أخته أنه لم ينس حبه لهند مع الطلاق و يواجهه: “شوف يا سامح اللي زينا اللي طالعين من قلب 1000 سنة اتعجنت بالتراب وعرق الصنعة ومية نيل روت مليون زرعة ما فيش حاجة بتموت جواهم.. لا الحب بيموت بالفراق ولا الفرح يموت بالحزن”.
على هامش حدوتة سامح وهند يستعرض الكاتب كلكيعة نفسية أخرى يقدم من خلالها الحل لمشكلة سامح وهند وهما ثنائي رأفت ودلال اللذين أحبا بعضهما ولكن يصر رأفت على أن تُغيّر دلال من أسلوب حياتها المتحرر لتتوائم مع شخصيته الصعيديه قبل أن يتزوجا.. ويصر “مش بالوعد هنتغير، لازم تتغيري الأول” ليقدم لنا عكاشة نموذجين يبسطان كيف ينجح الحب، فهو وحده لا يكفى مثلما حدث مع هند وسامح، بل يلزمه التفاهم والتوافق النفسي والثقة بالنفس والتجاوز والبساطة في ردود الفعل وأشياء أخرى.
هشام وأمل “الراية البيضا”
أمل الصحفية المجروحة من زواج فاشل تعود للإسكندرية لتجد العزاء والونس في مناكفة هشام الفنان الرسام.. أحلى المشاهد التي يتقاطعا فيها بحوارهما يقلبا أفكار بعضهما البعض.. حدوتة حب بين واحدة تقسم للآخر أن جرحها لن يلتئم يقابلها هو بكل إصرار ومحايلة.. ومطاردة.. لا تجد كلمة حب في الحوار ولكن وسط خناقاتهم وصدامهم ستعرف أن “دي حركات” وأن “مناكفة الحبيب زي أكل الزبيب” وأن كل هذة المشادات دليل على الحب قطعا، جلسات علاج و”تفصيص” نفسي تخضع لها من قبل هشام، وفي لقاءته بها يجد نفسه أمام حقائق ظل يهرب منها، وهي تقريبا نفس ثيمة سامح المازيكاتي الذي يجعله قربه من أمل/ هند يحاسب نفسه” ماذا فعل لفنه؟ أين طموحه؟” وكان قربه منها يجعله يدرك ويواجه، مثل بليغ الذي باقترابه من الدكتورة ماجي كأصدقاء أولا ثم كطبيب نفسي ومريض في عدة جلسات تواجهه ماجي في إحداها بأنه شخصية توكسيك يجب أن يبتعد عن الجميع فترة حتى يستطيع تقييم علاقاته ويسيطر على نفسه فلا يتمادى في الأذى.
شخصية الدكتورة ماجي هي أيضا تعاني من المشاكل النفسية، فهي تقترب من شخصية أمل التي تحاول أن تتجاوز عن ذكرى طليقها وزواجها الفاشل، فبينما هي تعالج بليغ نفسيا نكتشف أنها هي أيضا شخصية سامة تستغل طليقها حينا وبليغ حينا آخر.
حسن وأنوار وتوحيدة “أرابيسك”
دوران ماجي وفريدة في فلك بليغ، هي امتداد لنفس ثلاثية مسلسل أرابيسك، وتأرجح بليغ بين فريدة بالاقتراب الشديد ثم الاختفاء المفاجئ وإعجابه بعقل ورصانة ماجي هو نفسه تأرجح حسن بين توحيدة المرووشة الجدعة التي تتقبله كما هو وترضى منه أي فعل، وأنوار الهادئة اللبقة التي تكشف له نفسه وتواجهه دائما بعيوبه وتتمنى أن ينصلح..
في النهاية حسن اختار توحيدة ربما لأنها أحبته أكثر من أنوار أو لأن أنوار نفسها اختارت حسني أخاه، فهل سيختار بليغ ماجي ويركن إليها، أم سيكف عن الاختفاء ويقترب للأبد من فريدة؟ هذه هي إشكالية الاختيار واللخبطة والخوف من الالتزام وحب الانطلاق بين هذه والأخرى بلا قيود يقدمها لنا عكاشة بكل بساطة ومباشرة، فيجد كثيرون أنفسهم مكان بليغ أو ماجي أو توحيدة.
علي وزُهرة “ليالي الحلمية”
الزغلول الأكبر بين كل ثنائيات عكاشة العاطفية، المثال المتكامل لما يكون عليه التوكسيك، نموذج استرشادي لأطباء علم النفس إن جاز التمثيل، هذا الثنائي دوخنا عاطفيا معهم طوال أربعة أجزاء قبل أن يتزوجا فى الجزء الرابع وقبل أن نلتقط أنفاسنا فرحين باكتمال قصة حبهم أخيرا- نتفاجئ بعلي يُطلق زهرة سريعا، بسبب “إنه مش ناسي” كما أخبرها، لم ينس كل خلافاتهم السابقة، وتخلي زهرة عنه من أجل عملها، وزواجها العرفي ثم الرسمي وسفرها للخارج أثناء فترة اعتقاله.. لم ينس، ليثبت عكاشة أن جميع الأحبة يتقنون فن البحث عن الخلاف بمنكاش.. طموح زُهرة أمام رومانسية علي الزائدة.. ثقتها بنفسها وموهبتها في عالم الصحافة موجة تجذبها بعيدا عن علي الذي ينهار نفسيا عقب تركها له ودخوله المعتقل ليخرج علي آخر– ظاهريا – علي الرأسمالي الذي يدير مجموعة البدري ببراعة لم يتوقعها أحد.. يتزوج من شيرين شبيهة زُهرة في الطموح والموهبة، لكنه لا يقنع ولا يرضى ويبتعد عن شيرين بلا مبرر، ويعود لزهرة ويطلقها بعد أن يدرك أن لا شيء يموت وأن الغفران ليس موجودا في الحقيقة أو ليست صفة يمتلكها هو بالرغم من رومانسيته وعالمه الحالم، يقترب كثيرا جدا ثم يهرب فجأة مثلما يفعل بليغ مع فريدة، فهل بليغ لا يستطيع أن يواجه مخاوفه في وجود فريدة؟ أم أنه بكل بساطة كما اعترف لها- لا يستطيع الالتزام في علاقة جادة طويلة فهرب يوم كتب كتابه؟ علي وبليغ كلاهما يُجيد لعبة الاقتراب الجميل والود المنسكب ثم سحب البساط المباغت بالاختفاء أو الفراق.
سيد وشاهندة “موجة حارة”
وسط أجواء حارة خانقة صفراء الإضاءة يُعيد عكاشة حدوتة سامح وهند، الفقير والغنية اللذان تزوجا عن حب.. ويواجهان بعد الزواج أمراضهما النفسية، هو يختنق معها من شكه فيها الذي لا مفر منه، لمجرد أن تربيتها مختلفة عنه فهى ابنه لأم لا تجد مانعا من أن تعرض ابنتها كسلعة لمن يدفع أكثر بزواج صوري لن يدوم، تهرب إليه شاهندة تبحث عن الأمان تجده فاقدا الثقة بنفسه ككل رجال عكاشة. تتزوجه ويتغير هو مع مرور الوقت يبتعد عنها.. ينتهى الكلام بينهما.. يكتم شكوكه وشكواه .. يندفع كالمجنون ناحية ملابسها المعلقة فى الدولاب مشيرا لفستان كانت ترتديه أثناء ركوبها السيارة مع غيره، يتشاجران.. تجرحه فى رأسه، صباحا يتجه نحوها في المطبخ يضمها إليه بلا كلام.. لكن حبه لا يكفي.. في نهاية المسلسل ينتهي شكه تماما عندما يسأل وتجيبه بدلا من كتمانه الوجع، يطمئن وتعود ثقته بها وبنفسه فتطمئن إليه وتصرف نظرها عن الطلاق.. بعد أن تعرف ويعرف هو أيضا أن الحب وحده لا يكفي، فهل يصل بليغ لهذه المرحلة؟ هل يقدر على البوح والمواجهة والبدء من جديد؟ بدل اللف والدوران والخوف؟ تبدو شخصية سيد قوية وواضحة ولكنه مثل بليغ الذي يبدو هو أيضا قوي ومرح وعفوي، كلاهما مهزوز لا يعرف ماذا يريد أو كيف يرتاح ويعيش بشكل بسيط ومباشر فيصبحا كلاهما شخصا معقدا يدمر نفسه ويسمم حياة أحبائه.