بعد عام على مجزرة الحرم الإبراهيمي التي نفذها باروخ جولدشتاين عام 1994، وقتل خلالها 29 مصليا فلسطينيا وأصاب 130 آخرين، أحيى مستوطنون في مستوطنة “كريات أربع” المقامة على أرض الخليل ذكرى مقتل جولدشتاين. ظهر أحد المحتفلين في مقابلة تلفزيونية وهو يرتدي زي الأطباء الأبيض، وعلى كتفيه رتبة عسكرية كالتي ارتداها جولدشتاين عند ارتكابه المجزرة.

لصق الشاب على وجهه لحية طويلة تشبّهًا بجولدشتاين واستعدادا للاحتفال بعيد المساخر المتزامن مع ذكرى المذبحة. وضع على صدره ورقة كُتب عليها “باروخ القديس… طوبى للرجل الذي سيطلق النار.. ويثق الله به”. يقول الشاب في المقابلة: “جولدشتاين يعتبر بطلا بالنسبة لي، لذلك أنا ارتدي زيًّا مثل زيّه… إنه بطلي“.

 

في نفس العام وقبل أسابيع قليلة من اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين، ظهر ذات الشاب على شاشة التلفاز مجددا، مُلوّحًا بشعار “كاديلاك” الذي سُرق من سيارة رابين وأعلن: “وصلنا إلى سيارته وسنصل إليه أيضًا“.

كان هذا الشاب يُدعى إيتمار بن غفير.. ورحلته السياسية يُمكن أن تكون خير تجسيد لرحلة اليمين الصهيوني المتطرف من الهامش إلى المركز.

لعقود طويلة، كان أقصى اليمين الصهيوني المتطرف على هامش العملية الانتخابية السياسية في دولة الاحتلال ودون وزن حقيقي. ولكن تحت رداء مرحلة طويلة من التغيرات والتحولات العالمية التي أسهمت في صعود اليمين حول العالم وجوهر استعماري عنصري داخل بنية النظام الاستيطاني الإسرائيلي -خاصة بعد التنصل من حل الدولتين وإقرار قانون القومية- صعدت هذه التيارات المتطرفة إلى الواجهة وبات وزنها السياسي أثقل مما قبل.

انتهى مطاف التنافس السياسي الإسرائيلي إلى تنافس يميني-يميني يدور بين تيارات شتّى حول موقعها من هذا اليمين: يساره أم وسطه أم أقصى يمينه. والأخيرة تحديدا يحمل لواءها إيتمار بن غفير، زعيم حزب “قوة يهودية” أو “عوتسما يهوديت” والذي صار عضوا في الكنيست لأول مرة في مارس/آذار من العام الماضي، في عملية هندسها رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو؛ أملا في الحفاظ على منصبه الذي ذهب إلى يميني آخر اسمه نفتالي بينيت.

في العشرين من شهر أبريل/نيسان الجاري، أصدر بينيت قرارا بمنع بن غفير من الوصول إلى منطقة باب العامود في القدس حيث دعا إلى تنظيم مسيرة الأعلام، وهي المسيرة التي أشعلت هبّة فلسطينية العام الماضي، بعدما تزعمها بن غفير أيضا في محاولة لتأكيد السيادة الإسرائيلية على القدس.

حاول بينيت الحفاظ على تماسك حكومته التي فقدت أغلبيتها الضئيلة وتجنب أي أحداث من شأنها أن تؤدي إلى تفكك تحالف الأحزاب المختلفة. وقال في بيانه: “ليس لدي أي نية للسماح للسياسات التافهة بتعريض الأرواح للخطر. لن أسمح لاستفزاز بن غفير السياسي بتعريض جنود الجيش الإسرائيلي وعناصر الشرطة الإسرائيلية للخطر، أو أن يثقل كاهل مهمتهم الثقيلة أصلا“.

ووفقا للقناة 12 العبرية، فإن تقديم الشاباك للمناقشة مع بينيت وغيره من “قادة الدفاع” أدى إلى الحظر ووصف بن غفير بأنه “مُفجّر” لعنف محتمل يتطلب نزع فتيله. وقال التقرير إن قادة الأمن كانوا قلقين من أن “السماح لبن غفير والمتظاهرين بدخول القدس الشرقية قد يؤدي إلى تصعيد أعمال العنف على غرار حرب مايو(أيار) الماضي بما في ذلك وابل الصواريخ من غزة، والاشتباكات في المدن الإسرائيلية المختلطة باليهود والعرب والمزيد من الاضطرابات في القدس”.

فمن هو بن غفير؟

اليميني الديني الأكثر تطرفًا“، “معروف بخطابه المعادي للعرب“، “في كل مرة.. يظهر بن غفير لتأجيج اللهب“، “القومي المتطرف المتهم بإثارة العنف في القدس“، “الرجل المفضل للمتطرفين اليهود“، “أحد أشهر الوجوه المتطرفة اليمينية في إسرائيل“.. هذه مجموعة من أبرز التوصيفات لبن غفير، وكلها منتقاة من مواقع غربية وإسرائيلية دون العربية، للرجل الذي اُشتهر باقتحاماته المتكررة لساحة المسجد الأقصى، وحضوره الاستفزازي في حي الشيخ جراح.

ولد بن غفير في ضواحي القدس الغربية لعائلة يهودية من أصول شرقية. فوالده يهودي عراقي ووالدته من أصول يهودية كردية. وخلال مراهقته تبنى أفكار حركة “موليدت” المتطرفة التي أسسها رحبعام زئيفي عام 1988، والتي كانت تدعو إلى “ترحيل الفلسطينيين من أرض إسرائيل”.

وفي سن الرابعة عشر انضم إلى حركة “كاخ” (بالعبرية تعني “هكذا”، وإلى جوارها قبضة يد بمعنى “هكذا بالقوة”) الأشد تطرفًا، والممنوعة في إسرائيل والولايات المتحدة، والتي أسسها الحاخام اليهودي من أصول أمريكية مئير كهانا.

عرفت تلك الحركة بتطرفها الشديد إزاء كل ما هو غير يهودي وضد الفلسطينيين والعرب على وجه الخصوص، وبالتحريض الدائم على قتلهم، وترحيلهم من الكيان العبري. ومن أشهر أتباعها وتلاميذ كهانا كان جولدشتاين الذي مجدّه بن غفير ووضع صورته على أحد جدران منزله، قبل أن يزيلها في محاولته الدخول للكنيست؛ تبييضًا لسُمعته.

يعيش الرجل، الذي قارب السادسة والأربعين من عُمره، في إحدى أكثر المستوطنات اليهودية تطرفًا في جنوب الخليل “كريات أربع”. وعندما بلغ سن 18 عاما، أُعفي من الخدمة الإلزامية بالجيش الإسرائيلي، بسبب مواقفه اليمينية المتشددة. وقالت عنه صحيفة “هآرتس”: “طوّر بن غفير سمعة كافية باعتباره محرضًا مراهقًا، ليتم حرمانه من الخدمة في الجيش، وهي شارة العار التي يرتديها حتى يومنا هذا”. ونقلت عنه قوله: “الجيش الإسرائيلي خسر، عندما لم يأخذني”.

درس بن غفير القانون، ولكنّ نقابة المحامين في إسرائيل رفضت طلبه العضوية، بسبب سجله الجنائي. ولكن بعد احتجاجات قادها بنفسه سُمح له بالانتساب للنقابة. وعُرف عنه توليه الدفاع دائمًا عن المستوطنين المتطرفين والمتهمين بقضايا الإرهاب وجرائم الكراهية العرقية. كما أنه المحامي الخاص لحركة “لاهافا” اليمينية المتطرفة، ومن أشهر موكليه المراهقين المتهمين في قضية حرق عائلة الدوابشة الفلسطينية في قرية دوما قرب نابلس عام 2015.

بعد جريمة حرق أسرة دوابشة بخمسة شهور، نشرت القناة 12 مقطع فيديو لحفل زفاف شارك فيه مستوطنون وهم يرفعون بنادق آلية وزجاجات حارقة كالتي اُستخدمت في إحراق العائلة الفلسطينية، وسكاكينًا طعنوا بها صورا للطفل، علي دوابشة، وحاولوا إحراقها وهم يغنون مقاطع تحرض على المزيد من عمليات الانتقام من الفلسطينيين، فيما عُرف لاحقا باسم “عُرس الدم”.

يظهر بن غفير بين الحضور وهو يراقب ما يحدث وابتسامته تعلو وجهه. ادّعى لاحقا أنه حاول تهدئة الأجواء التحريضية في حفل الزفاف، كما زعم أنه لم ير صور الطفل دوابشة، مُتهمًا جهاز “الشاباك” بالسعي خلفه خلفه بسبب اتهامه للجهاز بتعذيب المشتبه بهم من المستوطنين الذين يتولى الدفاع عنهم.

كما مثّل موكلًا آخر، طعن يهوديًا بعد أن ظن أنه عربي، ومستوطنا اُتهم بإضرام النار في كنيسة، بالإضافة إلى مراهق اُشتبه في مهاجمته الحاخام أريك أشرمان من منظمة “حاخامات من أجل حقوق الإنسان”، الرافضة للاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة.

“إنني لا أفعل ذلك من أجل المال، في أفضل السيناريوهات، أُغطي نفقات الوقود الخاصة بي. السبب في أنني أفعل ذلك هو أنني أؤمن حقًا أنني بحاجة لمساعدة هؤلاء الأشخاص”، يقول إيتمار الذي دافع أيضا عن “شبان التلال”، وهم مستوطنون متهمون بالاستيلاء على أراض فلسطينية خاصة، والاعتداء على فلسطينيين. وقد وصفهم بأنهم “ملح الأرض. هؤلاء الأطفال الذين يسكنون قمم تلال يهودا والسامرة (الضفة الغربية) هم أكبر الصهاينة الموجودين”.

نشاط بن غفير المعادي للفلسطينيين طوال مسيرته أدى إلى توجيه أكثر من خمسين تهمة ضده حتى 2015. أدين في ثمان منها، وتراوحت التهم ما بين الشغب وتخريب الممتلكات وإعاقة عمل الشرطة وحيازة مواد تحريضية لصالح منظمات إرهابية والتحريض على العنصرية وتأييد منظمات إرهابية.

وفي عام 2019، حث بن غفير على أنه في أي وقت يتم إطلاق صاروخ من غزة، يجب على إسرائيل الرد بقتل 30 “إرهابيًا” انتقامًا. كما عارض إزالة إسرائيل لمستوطناتها من قطاع غزة عام 2005 وطالب بإعادة بنائها.

رحلة السياسة

مع تأسيس بن غفير حركة “قوة يهودية” قبل جولة الانتخابات الأولى عام 2019، قال الحاخام حاييم دروكمان، وهو من قادة “الصهيونية الدينية”، إن هناك خلافا أيديولوجيا بين الحركتين. وأشار إلى أنه لا يمكن تشكيل تحالف بين الحركتين ما لم يُنزل بن غفير صورة باروخ جولدشتاين من صالون منزله كشرط مسبق للتحالف.

رفض بن غفير ذلك، وقال إنه لن ينزل صورة جولدشتاين من صالون منزله “فهو طبيب أنقذ حياة الكثير من اليهود، وهذا هو السبب الذي يجعله يضعها في منزله”، بحسب ما نقل مركز “مدار” المتخصص في الشأن الإسرائيلي.

لاحقا ومع تتابع الجولات الانتخابية وتغير خرائط التحالفات المحتملة، وافق بن غفير في بدايات 2020 على إنزال صورة بطله. وبرر “هناك إمكانية أن يشكل اليسار حكومة بالتحالف مع أيمن عودة (القائمة العربية المشتركة)، وهي حكومة قد تقوم بتفكيك مستوطنات، لذلك قررت إنزال الصورة في الصالون… والهدف هو إنقاذ حكومة اليمين”.

لكن مساعيه للوصول إلى البرلمان لم تُكلل بالنجاح وانتظر عاما آخر قبل أن ينجح بفضل نتنياهو الذي بذل جهودا لتوحيد حركتي “الصهيونية الدينية” بزعامة بتسلئيل سموتريتش، و”قوة يهودية” بزعامة بن غفير، لضمان اجتيازهما نسبة الحسم المطلوبة لدخول الكنيست؛ لتعزيز فرص كتلة اليمين في زيادة عدد مقاعدها، ولضمان عدم تشتيت أصوات الناخبين اليمينيين.

وقد هاجم يائير لابيد، وزير الخارجية الحالي وزعيم حزب “يوجد مستقبل”، نتنياهو وقتها، قائلا: “بن غفير مؤيد للإرهاب.. وحقيقة أنه وأشباهه هم جزء من المجتمع الإسرائيلي هي عار قومي.. وحقيقة أن نتنياهو يفعل كل ما بوسعه لإدخال هذا الشخص للكنيست، هذه لطخة لا يمكن إزالتها، لا عنه (نتنياهو) ولا عن دولة إسرائيل”.

يشير السياسي المقدسي والمتخصص في الشأن الإسرائيلي، نهاد أبو غوش، إلى أن حركة “كاخ” ظلت طوال سنوات تحتال على تصنيفها كإرهابية من خلال الظهور بتسميات جديدة، وآخر صيغة ظهرت بها هي حزب “قوة يهودية”.

ويوضح “أفكار الحركة ومبادؤها السياسية كانت ولا تزال موجودة ونشطة في المجتمع الإسرائيلي، خاصة في أوساط المستوطنين، وهي أقرب إلى كونها تيارًا في المجتمع من كونها حزبًا بعضويات محددة. ولذلك، يمكن أن نجدها على هامش حزب الليكود أو في وسط حزب يمينا المتطرف، ولدى مختلف الأحزاب اليمينية”.

لا تتبنى الحركة من الدين اليهودي إلا الجانب العنيف والاستعلائي الذي يعتبر اليهود فئة منفردة ومتميزة من البشر ووظيفة الشعوب الأخرى القيام بخدمتهم. وينتشرون بشكل خاص لدى الشباب الذين تجري تعبئتهم وصياغة وعيهم على أن العرب يمثلون خطرًا وجوديًا -بحسب أبو غوش- وأن كل مشكلاتهم ومتاعبهم سوف تحل بالخلاص من الذين يلوثون حياتهم ويريدون بهم الغدر وينافسونهم على الأرض والموارد التي منحها الله لهم.

“هذه الحركة والمنتسبون إليها هم دائمًا رصيد احتياطي لليمين الحاكم. لا يظهرون في صدارة المشهد السياسي، وربما يسببون الحرج للحكومة، لكنهم موجودون دائمًا عند الحاجة لدعم أية حكومة يمينية”، يؤكد الكاتب المقدسي.

فيما يقول دونيز شاربيت، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الإسرائيلية المفتوحة، إن “فوز شرائح اليمين المتطرف والعنصري في الانتخابات البرلمانية كان بمثابة رسالة واضحة مفادها أن التعايش بين اليهود والعرب قد انتهى”. وبحسب تفسيره فإنه من خلال تلك الخطوة تعززت فكرة العنف الذي تمارسه مجموعات يهودية صغيرة وعنصرية على الفلسطينيين ومبدأ الإفلات من العقاب.

تذكر “رويترز” أن مسيرة بن غفير السياسية شهدت تحالفات متغيّرة، إلا أنّ الجوانب الرئيسية لأيديولوجيته ظلّت ثابتة.. “لن نتخلى عن جبل الهيكل (التسمية اليهودية للحرم القدسي) أبدا… مطلبنا هو السيادة الكاملة، ورفع العلم الإسرائيلي”، يؤكد بن غفير في إحدى اقتحاماته لساحة المسجد الأقصى. يختتم أبو غوش “طالما أن الاحتلال مربح ومريح ولا يكلف شيئًا، فسوف تنتعش الأفكار والحركات العنصرية، وسوف تتراجع وتنحسر فقط حين يصبح الاحتلال مكلفًا”.