من بين جميع الحلفاء الرئيسيين المقربين من الولايات المتحدة كانت الهند الدولة الوحيدة التي لم تدِن الغزو الروسي لأوكرانيا أو فرضت على موسكو أي عقوبات. بل إنها أعلنت شراء النفط الروسي بسعر مُخفّض، ودرست إتمام التبادل التجاري بينهما بعُملتي الروبل الروسي والروبية الهندية، وقاومت حملة الضغوط الغربية عليها.

كان تباين المواقف بين الولايات المتحدة والهند لافتا خاصة مع كون الأخيرة إحدى حليفاتها الرئيسات في منطقتي المحيط الهندي والهادئ. وهو ما دعا البعض للحديث عن أن شراكتهما “هشة” وسرعان ما تكشّفت مع أول اختبار جدي.

ولكن رغم الإشارات الأمريكية التي دعت نيودلهي لإعادة حساباتها واحتمالية تأثير ذلك على العلاقة بين البلدين. إلا أن موقف الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض لم يكن بالـ”غلظة” التي ظهرت مع بلدان أخرى.. على النقيض أبدت إدارة جو بايدن تفهُمّا واضحا لموقف الهند، وإن لعبت على إمكانية “استبدال موسكو” طويل الأمد.

يمكن تفسير الموقف الهندي بأن سفينته عالقة في مياه إقليمية متقلبة بفعل النوّة الصينية. فأمواج “صديقتها التاريخية” روسيا تلاطمها بتقارب متزايد مع بكين، وهو ما تخشاه وتحتاج لموازنته. وعلى الضفة الأخرى حاجة ماسة واستراتيجية لاحتواء “التنين الهائج” والتي لن تقدر عليها سوى بمساعدة الولايات المتحدة.. هكذا تجري المقادير الدافعة للسير على حبال مشدودة.

موجز للعلاقات الهندية مع روسيا وأمريكا

تربط نيودلهي بموسكو علاقة استراتيجية طويلة الأمد منذ الاتحاد السوفيتي. ففي الحرب الباردة، انسجم موقفها المناهض للاستعمار مع واضعي السياسات السوفييت في بحثهم عن حلفاء جدد في آسيا. وما سهّل الأمر، تحالف أمريكا مع باكستان في الخمسينيات.

أرسى ذلك علاقات استراتيجية مع موسكو لموازنة المساعدات العسكرية الأمريكية لباكستان. شحن السوفييت الأسلحة للهند وأبطلوا القرارات المتعلقة بكشمير في مجلس الأمن. رغم ذلك لم يكن لواشنطن خلاف مع نيودلهي. أصبحت أكبر مورد للمساعدات للهند في الخمسينيات من القرن الماضي وسارعت بتقديم الدعم للهند خلال حرب الحدود الصينية الهندية عام 1962.

ومع ذلك، اعتبرت نيودلهي أن الرعاية الأمريكية لباكستان تهدد وتدل على التحيز المؤكد. تفاقم هذا الانقسام في أوائل السبعينيات، عندما سعت الولايات المتحدة، في محاولة للاستفادة من التوترات المتزايدة بين موسكو وبكين، إلى الانفتاح على الصين. مرة أخرى، وضعت شراكة، على أساس العداء المتبادل تجاه الاتحاد السوفيتي، أمريكا إلى جانب منافس رئيسي للهند.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ظلت روسيا الاتحادية أهم شريك دولي للهند. ومع موقف الرئيس الأمريكي بيل كلينتون “غير الودود” من الهند -بحسب “كاسبيان ريبورت“. وهي منصة فيديو معنية بالتحليلات الجيوسياسية- واستمراره في دعم باكستان في نزاعها على كشمير. ومطالبته للهند بتقليص برامج الصواريخ والأسلحة النووية، راهنت الهند على موسكو مجددا. وحافظت على تقاربها معها وصارت العلاقات الروسية الهندية أقوى مع اعتمادها على الأسلحة الروسية.

الصين تقلب الموازين

لكن السياسة الدولية تتغير بطرق مفاجئة. وصعود الصين السريع كان دافعا لأمريكا كي تحسّن علاقاتها مع الهند التي خاضت مع جارتها الشيوعية نزاعا إقليميا طويلا وحربًا استمرت شهرا على المنطقة الحدودية في الهيمالايا قبل نصف قرن. وانخرطا في سلسلة قتال أخرى عام 2020. ودعمت واشنطن نيودلهي بشأن النزاع في السنوات الأخيرة كجزء من حملة أوسع لتصوير بكين كقوة صاعدة عدوانية.

سعى الرئيسان، بوش الابن ومن بعده باراك أوباما، لتجاوز الخلافات السابقة بشأن كشمير وترسانتها النووية. لكن الرئيس السابق دونالد ترامب كان هو من اقترح وضع الهند في قلب الاستراتيجية الجديدة في المنطقة. وهي سياسة برزت في الحوار الأمني الرباعي “تحالف كواد” الذي شملها مع الولايات المتحدة واليابان وأستراليا. والذي وصفته الصين بأنه “ناتو آسيوي” موجه لاحتوائها.

تقاربت الهند تقاربًا قويًا مع الولايات المتحدة في العقدين الأخيرين، وأضرّ التقارب بتعاملات نيودلهي مع موسكو. لكن الروس أدركوا أن النزاع المتنامي بينها وبين والصين دفع بقيادات الهند إلى التقارب مع الولايات المتحدة. في وقت تسعى فيه إلى تطوير سلاحها الدفاعي الصاروخي، وتحاول الحفاظ على علاقتها مع كلا الشريكين.

أدركت الهند تدريجيًا أن العلاقة بين الولايات المتحدة وباكستان كانت مضطربة للغاية وليست موجهة ضدها. وأدركت الولايات المتحدة أن نيودلهي، بعيدًا عن كونها داعمًا متحمسًا لأعمال روسيا العدائية في الخارج والقمع في الداخل. كانت مرتبطة بموسكو من خلال اعتمادها على المجمع الصناعي العسكري الروسي وإرث الحرب الباردة المعقد.

تراجع الولايات المتحدة الأمريكية

مالت الهند نحو الولايات المتحدة في الأعوام العشرين الماضية لكن أغلبية المعدات العسكرية أتت من روسيا بواقع 60% منها. في المقابل، كانت الولايات المتحدة ثاني أكبر مورد للهند بين عامي 2011 و2015 بعد روسيا. لكنها تراجعت بعد فرنسا وإسرائيل في الفترة بين 2016 و2021.

وفي أكتوبر 2018 وقّعت روسيا اتفاقية لتزويد الهند بخمس بطاريات صواريخ “إس 400” بقيمة 5.5 مليار دولار. وحصولها على “إس 400” زاد من خطر العقوبات؛ فواشنطن لم تكن راضية عن الصفقة. والروس لم يكتفوا بذلك، وعرضوا على الهند أحدث أنظمة الدفاع الصاروخية لديهم.. رغم ذلك لم تُوقع أي عقوبات.

وبحسب مؤسسة “The Heritage” الفكرية -ومقرها واشنطن- فإن هذا يترك الهند مع اعتماد مقلق على روسيا لتلبية متطلباتها الدفاعية. ومما يزيد الأمور تعقيدًا أن روسيا تواصل بيع أو تأجير منصات عسكرية متقدمة للهند -بما في ذلك الغواصات النووية وأنظمة الدفاع الجوي المتقدمة- التي لا ترغب الولايات المتحدة أو غيرها في تقديمها أو لا تستطيع تقديمها. كما طوّرت موسكو ونيودلهي بشكل مشترك صواريخ كروز التي يزعم مسؤولو الدفاع الهنود أنها حيوية لقدرتها على مواجهة تحديات جيش التحرير الشعبي الصيني.

علاقة في مرحلة الشيخوخة؟

يُعزى إذا نهج الهند تجاه الأزمة الأوكرانية إلى التبعية الدفاعية الحيوية والولاء التاريخي لروسيا. بالإضافة إلى تمتع الهند بتاريخ طويل من تبني مواقف دبلوماسية محايدة تجاه النزاعات الدولية. بما في ذلك التدخلات العسكرية الأمريكية السابقة.

“لقد ضاعت هذه الحقائق في بعض التغطية الصحفية الغربية لنهج الهند تجاه الأزمة الأوكرانية وفي بعض المحادثات الدفاعية الصارخة التي تتكشف في الصحافة الهندية”. يقول جيف سميث الباحث المتخصص في شؤون جنوب آسيا. والأكثر إثارة للقلق بالنسبة لنيودلهي هو أن الغزو أدى إلى تفاقم الانقسام بين روسيا والغرب بينما عزز العلاقة الناشئة مع الصين.

ويوضح سميث “لطالما أعرب العديد من المعلقين الهنود عن أملهم في أن تنحي روسيا وأمريكا خلافاتهما الموروثة جانبًا وتتحدان مع الهند لمواجهة الصين. لا أحد يريد أن يرى موسكو تتحرك أكثر في فلك بكين. ومع ذلك، من الواضح أنه حتى في أفضل السيناريوهات بالنسبة لموسكو، ستخرج من هذه المغامرة أكثر خلافًا مع الغرب اقتصاديًا ودبلوماسيًا وعسكريًا؛ وأكثر اعتمادا على الصين”.

في هذه الأثناء، تبتعد نيودلهي وموسكو. حجم التجارة الثنائية ضئيل للغاية: أقل من 8 مليارات دولار سنويًا، في مقابل اقتراب التجارة مع الولايات المتحدة من 150 مليار دولار. والأهم أن موسكو ونيودلهي تتباعدان بشأن التهديد الأمني ​​الخارجي الرئيسي للهند، وهو الصين. والتي لم تعد روسيا تمثل موازنًا موثوقًا تجاهه.

“الذكريات القديمة والأجهزة العسكرية هي الغراء الوحيد الذي يربط علاقتهما معًا.. علاقة تظهر عليها علامات تقدم العُمر” بتعبير الباحث في الشأن الهندي. لكن “The Diplomat” تلفت إلى أهمية الرأي العام والذاكرة الشعبية الهندية المتعاطفة مع روسيا والمناهضة للولايات المتحدة. بفعل ميراث الحرب الباردة و”الدبلوماسية العامة الأمريكية غير الناضجة، التي فشلت في تقويض مصداقية روسيا في علاقاتها مع الهند”.

الروابط الأمريكية تتجاوز أوكرانيا

تكشف أزمة أوكرانيا بلا شك عن عدم توافق استراتيجي بين الأولويات الأمنية لواشنطن ونيودلهي. ومع ذلك لا تزال هناك روابط قائمة ودائمة في المجالات الأخرى التي يمكن أن تعزز العلاقة الثنائية. بما يتجاوز التعاون الأمني ويمتد إلى تعاونات قوية في المجالات البيئية والتقنية والتعليمية والأعمال التجارية. ما يعطى مزيدًا من الثقل من خلال قضايا الأمن والدفاع، وفقا لـ”مجلس العلاقات الخارجية“.

يشير المجلس إلى أنه على الرغم من الانفصال الخطير بشأن أوكرانيا، إلا أن استمرار التعاون في المجالات الأمنية الأخرى يصب في مصلحة البلدين. فـ”الصين لن تختفي باعتبارها أكبر التهديدات التي تواجهما… وستستمر هذه الأولويات الأمنية المشتركة في ربط الأهداف الهندية والأمريكية على المدى الطويل”.

ظهر ذلك في تصريحات السكرتير الصحفي للبيت الأبيض جين بساكي. الذي قال إن الرئيس جو بايدن يعتقد أن الشراكة بين الولايات المتحدة والهند هي “واحدة من أهم علاقات الولايات المتحدة في العالم”.

وعقد البلدان حوار2+2 بين وزيري الدفاع ووزيري الخارجية، خلال الشهر الجاري. وأضاف بايدن اجتماعًا افتراضيًا مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في ذات الوقت.. والهدف “إجراء مراجعة شاملة للقضايا المتداخلة في الأجندة الثنائية والمتعلقة بالسياسة الخارجية والدفاع والأمن. بهدف توفير التوجيه الاستراتيجي ورؤية لمزيد من توطيد العلاقة”. كما أنه “يوفر فرصة لتبادل وجهات النظر حول التطورات الإقليمية والعالمية الهامة وكيف يمكننا العمل معا لمعالجة القضايا ذات الاهتمام المشترك”.

فيما قالت وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند، الشهر الماضي. إن الولايات المتحدة يمكن أن تساعد في “فطم” الهند عن اعتمادها على إمدادات الدفاع الروسية. لكن علاقة نيودلهي الخاصة مع موسكو “المشحونة بالحنين والثقة العميقة”. كما يصفها مايكل كوجلمان محلل شؤون جنوب آسيا في مركز “ويلسون”، تعني أنها لن تنقلب بسهولة على حليفها.

إشارة إيجابية

وطبقا لمؤسسة أبحاث “أوبزرفر” الهندية، فإن استئناف تنسيق 2+2 “يرسل إشارة إيجابية لزخم العلاقات الثنائية والمزاج السياسي العام”. ويوفر فرصة لتسوية هذه القضايا على أعلى مستوى من خلال تحديد المواقف بشكل واضح. ما “سيؤدي إلى تقليل فجوة التوقعات التي يبدو أنها موجودة بين البلدين، لا سيما فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا. والتي إيضاحها على أعلى مستوى من شأنه أن يوقف أي سوء تفاهم مستقبلا”.

تنظر الولايات المتحدة إلى هدفين استراتيجيين، أحدهما قصير المدى والآخر طويل المدى. في الأول، من المرجح أن تحث الهند على خفض وارداتها النفطية من روسيا، وهو ما صرحت به رسميًا. أما على المدى الطويل، فإنها تريد من الهند تحويل استثماراتها تدريجيًا في معدات الدفاع الروسية. وجعلها أكثر “توافقًا” مع الولايات المتحدة، بحسب المركز الصادر من نيودلهي.

“المصالح المشتركة” أهم من “القيم المشتركة”

يرى محسن بورايل، أستاذ العلوم السياسية في جامعة “حيدر أباد” الهندية، أن الخطاب الرائج الذي يقوم على أن الولايات المتحدة والهند يتشاركان القيم الديمقراطية. وينص ضمنيًا على أن القيم المشتركة ليست فوق المصالح الاستراتيجية قد تم دحضه. وأن “القيم المشتركة” لا تصبح تلقائيًا “مصالح مشتركة” حتى تتوافق المصالح الاستراتيجية المتبادلة.

ويقول إنه غير مرجح أن تعزز فكرة القيم المشتركة للديمقراطية وسيادة القانون من مشاركة هندية أكبر في النظام الدولي. نظرًا للمشهد السياسي الحالي في الهند. وفيه يعد التأثير على الجمهور الهندي شديد القومية من خلال الدبلوماسية العامة مهمة مستحيلة.

أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، كان قد قال إن بلاده “تراقب بعض التطورات الأخيرة المثيرة للقلق في الهند. بما في ذلك ارتفاع انتهاكات حقوق الإنسان من قبل بعض مسؤولي الحكومة والشرطة والسجون”. ولم يرد الوزراء الهنود لكن محللين يقولون إن الديمقراطيين، بمن فيهم الرئيس السابق أوباما. أثاروا مثل هذه القضايا في الماضي ومن غير المرجح أن تصبح القضية مصدر إزعاج كبير في العلاقة.

فحتى مع استمرار الهند في التراجع بسرعة وبشكل واضح إلى دولة ذات أغلبية عنيفة. يواصل المجتمع الدولي النظر بعيدًا. فالتفكير السائد هو أن السياسة الخارجية أهم بكثير من “السياسات الداخلية التافهة” التي ليس لها تأثير على الدبلوماسية العالمية.

“تتنافس أصوات السياسة الخارجية على التشدق بقيم الديمقراطية والتعددية فقط من أجل غايات جيوستراتيجية… الغرب منح تصريحًا لهند ناريندرا مودي من خلال ثقافة الصمت والجهل المتعمد. فيمكن للهند أن تستمر في تلاوة حكاية الديمقراطية الليبرالية المحبوبة مرارًا وتكرارًا. لدرجة أنها أصبحت حكاية خيالية لا يمكن دحضها”، بتعبير أنجشومان تشودري. منسق برنامج جنوب شرق آسيا في معهد “دراسات السلام والنزاعات”. ويؤكد “حتى حكومة مودي. التي غالبًا ما يسخر وزراؤها ومشجعوها، من الغرب لوعظهم بشأن الديمقراطية. تعرف جيدًا ما يقدّر الغرب الهند من أجله”.