رغم تأكيد الرئيس عبد الفتاح السيسي قبل 4 سنوات على أنه ليس سياسيًا -“أنا مش سياسي ولا بتاع كلام”- إلا أنه دعا قبل أيام إلى حوار سياسي “يتناسب مع فكرة بناء الجمهورية الجديدة”. وقد لفت إلى أنه كان يعتزم “إطلاق ذلك الأمر بتفاصيل أكثر”، خلال إفطار الأسرة المصرية الذي سيدعو إليه خلال أيام.

مطلع عام 2018، وقبل انطلاق الانتخابات الرئاسية بشهور، حذر الرئيس من “العبث بأمن مصر”. تعهد بعدم سماحه بتكرار ما حدث في 2011 مرة أخرى، مطالبًا بعدم الانسياق وراء محاولات نشر الفوضى. “اللي عاوز يلعب في مصر ويضيعها لازم يخلص مني أنا الأول.. لأني لن أسمح.. أنا مش سياسي.. بتاع كلام.. أنا عمري ما كنت اتكلمت بالطريقة دي”.

صباح الخميس الماضي، وعلى هامش جولته التفقدية لمنطقة توشكى بجنوب الوادي في محافظة أسوان، أعلن السيسي عن نيته الدعوة إلى حوار سياسي. شدد على أن التحديات التي تواجه البلاد أكبر من أي حكومة “نعمل على خطة نساهم فيها جميعًا”. وأشار إلى أن برنامج الإصلاح الاقتصادي جعل الدولة أكثر قدرة على مواجهة الأزمات الاقتصادية. كما دعا إلى ضبط النمو السكاني حتى يشعر المواطن بعوائد النمو.

دعوة السيسي الأخيرة إلى حوار سياسي، تتناقض مع الطريقة التي تُحكم بها مصر خلال السنوات السبع الماضية، والتي غُيبت فيها السياسية وتراجع فيها الحوار العام وتأممت فيها منصات الإعلام، للدرجة التي تأكد معها أن السلطة لا تريد ولا تسعى للاستماع إلى صوت آخر أو أفكار أخرى، قد تسهم في تعديل البوصلة ووضع البلاد على طريق التحول الديمقراطي، الذي بدونه لن يتحقق استقرار ولا نمو أو تقدم في أي مجال.

حددت السلطة على ما بدى من قرارتها وتوجهاتها خلال المرحلة الماضية أهدافها الاستراتيجية، وحصرتها في دحر موجات الإرهاب التي تصاعدت بعد 2013، وترميم مشروعات البنية التحتية التي تهالكت وتحولت إلى “كهنة” على حد وصف السيسي لحال المؤسسات الخدمية للدولة. “حتى لو كانت البلد تخرب علشان الكرسى يقعد هو ويخرب فيها ويخليها بلد كوهن.. سكة حديد تعبانة وطرق تعبانة وموانئ تعبانة كله تعبان.. مش فكرة إرادة.. الناس كانت عارفة كويس العلاج كان عاوز فلوس وتقدر ترجعها”.

وحتى لا يتكرر ما حدث في عهد مبارك وتسبب في إثارة غضب الرأي العام ضد نظامه ما أدى إلى سقوطه في يناير 2011، أنفقت الدولة 400 مليار دولار على مشروعات البنية التحتية خلال السنوات السبع الماضية. “الدولة شرعت في تنفيذ الأولويات العديدة الملحة والتي لديها تأثير كبير على الرأي العام”، أوضح السيسي خلال لقائه الأخير بالإعلاميين في توشكى.

أرجعت بعض المصادر القريبة من دوائر صنع القرار دعوة السيسي إلى حوار سياسي إلى ضغوط الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها مصر خلال الفترة الأخيرة. “هناك قناعة أن البلاد تمر بأزمة حقيقية والرئيس يريد الاستماع إلى أفكار أخرى”، قال أحد المصادر، مشيرًا إلى أن التفاصيل سيتم الإعلان عنها خلال أيام.

وعن مكونات الحوار السياسي المنتظر، أوضح المصدر أنه سيتم دعوة معظم  الأطراف السياسية الوطنية على قاعدة “الاعتراف بشرعية 30 يونيو”. وهو ما يعني غياب أي ممثل لما يسمى الإسلام السياسي، “الإخوان ومن لف لفهم”. أما التيار السلفي فستقتصر الدعوة على ممثليه البرلمانيين. كما قد يستثنى من الدعوة بعض التيارات والأحزاب المدنية المعارضة التي تصاعد الخلاف بينها وبين النظام للدرجة التي أُغلقت بينهما باب الحوار.

وفي تقدير مصدر آخر، فإن دعوة الحوار السياسي جاءت بعد إطلاع الرئيس خلال اللقاء المشار إليه على أسئلة الصحفيين والإعلاميين والتي دار معظمهم حول الأزمة الاقتصادية التي تواجه البلد، “أسألوا كما تشاءون، وسأجيب على أسئلتكم في الآخر”.

دعوة الحوار السياسي هي تعبير عن حالة من القلق وشعور متنامي أن الأزمة الاقتصادية المستحكمة التي تضغط على أعصاب النظام لن يجدي معها تعديل وزاري محدود يشمل وزراء المجموعة الاقتصادية ولا حتى تغيير الحكومة بالكامل. فالقضية أبعد من تعديل أو تغيير في الوجوه، القضية سياسات وتوجهات يجب مراجعتها واستبدالها.

“من الوارد أن يكون الرئيس راغب في الاستماع إلى أفكار خارج الصندوق، لذا فالدعوة ستشمل خبراء وأكاديميين اقتصاديين إلى جانب السياسيين والصحفيين”، يوضح مصدر ثالث، متوقعًا ألا يسفر هذا الحوار عن شيء ممسوك “لو تم تجاوز الأزمة الاقتصادية ستعود الأمور كما كنت، فالسلطة الحالية لا تقنع بأي رأي مخالف، وتنزعج جدا من النقد وهو ما أثر على المحتوى الإعلامي الذي تبثه منصات مُسيطر عليها بالكامل من أجهزة الدولة”.

مديرة صندوق الدولي كريستالينا جورجيفا أدلت بتصريحات صادمة كشفت الحالة «المتدهورة» التي يمر بها الاقتصاد المصري، مشيرة إلى أن هناك عدد كبير من الناس في مصر معرضون لأوضاع معيشية صعبة.

جورجييفا قالت خلال اجتماع موسمي لصندوق النقد قبل أيام إن “أوضاع الاقتصاد المصري تتدهور، وهناك عدد كبير من الناس في مصر معرضون لأوضاع معيشية صعبة، وعلينا التأكد من استمرار توفير الحماية الاجتماعية التي تم تخصيصها للوصول إلى هؤلاء الأشخاص”.

تصريحات جورجييفا جاءت في وقت توقع خلاله صندوق النقد الدولي أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في مصر بنسبة 5.9% خلال العام الحالي، وأن ينخفض إلى 5% في عام 2023، لكن “معدلات التضخم سترتفع إلى 11% في 2023”.

وتسعى القاهرة إلى الحصول على دعم إضافي من صندوق النقد الدولي قد تصل قيمته إلى 3 مليارات دولار، وحصلت مصر على نحو 20 مليار دولار كقروض من الصندوق خلال السنوات الخمس الأخيرة، وبلغ إجمالي الدين الخارجي بحسب بيانات البنك المركزي 145.529 مليار دولار بنهاية الربع الثاني من العام المالي الجاري (أكتوبر إلى ديسمبر) مقابل 137.420 مليار دولار في الربع.

ارتفاع حجم الدين الخارجي وفشل السياسات المالية دفعت عدد من نواب البرلمان إلى المطالبة بإقالة حكومة مصطفى مدبولي لعدم وفائها بالتزاماتها، وتوسعها في خطط الاقتراض، وخلال جلسة للمجلس تم تخصيصها الأسبوع الماضي لعرض تقرير لجنة الخطة والموازنة بشأن الحساب الختامي للموازنة العامة شكك هؤلاء النواب في البيانات التي عرضها وزير المالية، وأشاروا إلى احتواء البيان على “مخالفات مالية”، ومع ذلك وافق البرلمان على التقرير.

مجلة الإيكونوميست البريطانية وصفت حالة الاقتصاد المصري بـ”السيئة”، وأشارت في تقرير لها نشر قبل أيام إلى أنه على الرغم من نمو الناتج المحلي الإجمالي منذ الاتفاق مع صندوق النقد في عام 2016، إلا أن حالة الاقتصاد المصري سيئة.

وقال التقرير: “فشلت مصر في بناء قاعدتها التصنيعية.. الصادرات بطيئة.. حسب آخر تقدير، اتسع عجز الحساب الجاري إلى 18.4 مليار دولار.. ارتفع معدل الفقر.. وخفض البنك المركزي الشهر الماضي قيمة الجنيه المصري بنسبة 14٪،  في أول بادرة للمحنة، تلاشت مبيعات أذون الخزانة قصيرة الأجل.. أقنع الرئيس المصري دول الخليج الصديقة بإيداع مليارات الدولارات في البنك المركزي والتعهد بالاستثمار”. ولفتت “الايكونومست” إلى أن السياسات التي تنتهجها الحكومة المصرية لا يُتوقع أن تشجع المستثمرين الأجانب على القدوم إلى مصر.

اقرأ أيضًا: تصريحات الرئيس والحوار.. هل آن آوان تغيير وجه السياسة في القاهرة؟

هناك اتفاق عام على أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد أسوء مما تبدو عليه، وهو ما دعا السلطة ممثلة في الرئيس السيسي إلى الدعوة لحوار سياسي للاستماع إلى طرح مختلف، لكن كي ينجح هذا الحوار يجب أولا أن تكون له أجندة مُعلنة حتى يستطيع الرأي العام أن يتفاعل مع القضايا محل النقاش، وأن تكون كل الأطراف المؤمنة بمدنية الدولة ممثلة بحضورها الفعلي على مائدة الحوار وتواجدها في منصات الإعلام، أخيرا أن تكون مخرجات الحوار قابلة للتنفيذ، وأن تتعهد السلطة بتبنيها باعتبارها “روشتة” علاج للأزمات التي تلاحق الدولة.

عرف علماء السياسة الحوار بأنه مناقشة بين طرفين أو أطراف متعددة، يُدلى فيها كل طرف بوجهة نظره فى قضية أو مسألة تهم الرأي العام، يعرض فيها كل طرف بالأدلة والبراهين والحجج وجهة نظره، ويكشف ما غاب عن الطرف الآخر، بغرض إقناعه بسلامة موقفه، وإما أن يتفق المتحاورون على تبنى رأى أحد الأطراف، أو يصلون إلى مساحة وسط يقبلها الجميع.

إذن، الحوار هو استطلاع لرأى أطراف المعادلة السياسية بمختلف تنوعاتها، فى قضية مفصلية تحتاج إلى تشاور، وتُطرح وجهات النظر المختلفة على المجتمع المستهدف لإقناعه بإحداها أو الوصول إلى حلول مرضية لا ينتج عنها شرخ يؤثر على سلامة المجتمع.

لنجاح الحوار الذي دعا إليه الرئيس على وقع الأزمة الاقتصادية التي وصفتها التقارير الدولية بـ”السيئة”، فعلى الداعي أن يفتح الباب أمام مخالفيه ومعارضيه من ساسة وخبراء وباحثيين، وأن يرفع يد السلطة عن منصات الإعلام لتطرح الأفكار في الفضاء العام، عسى أن يجد من بينها ما يمكن البناء عليه للخروج من الأزمة.

حل الأزمة الاقتصادية كما غيرها من أزمات البلد يحتاج إلى سياسة، والسياسة مقيدة ومحاصرة منذ سنوات، فالسلطة لا تَقَنع بالساسة “بتوع الكلام”، ونتمنى أن تكون تجربة السنوات السابقة أثبتت لأهل الحكم الذين لم يستمعوا إلا إلى “صدى صوتهم” أن حل كل مشكلة يبدأ بالكلام والحوار مع المخالفين قبل المؤيدين.

بعد هزيمة يونيو 1967، اعترف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بأن الخوف الذى سيطر على الأجواء، وغياب الديمقراطية قاد البلد إلى “النكسة”، فدعا إلى “مراجعة ما جرى بما يضمن إزالة آثار العدوان ويحول دون تكرار السقوط فى الاختبارات اللاحقة”، فتح رئيس الجمهورية الأولى والذي حصل على تفويض شعبي بالاستمرار في موقعه بعد مظاهرات رفض التنحي (9-10 يونيو 1967) الباب أمام سلسلة من الحوارات على مستوى السلطة والاتحاد الاشتراكي لتقويم الأوضاع.

كان من أول الإجراءات التى اتخذها ناصر فى إطار عملية التقويم، إعادة تشكيل مجلس الوزراء برئاسته فى 19 يونيو 1967، وخلال 9 اجتماعات للحكومة الجديدة طرحت قضية “السياسة العامة للدولة بجوانبها السياسية والعسكرية والاقتصادية”، ودعا الرئيس وزراءه إلى التحدث بحرية كاملة عما يرون أنه تسبب فى النكسة.

فى إحدى تلك الجلسات، وكما ورد فى محضر اجتماع مجلس الوزراء الذى انعقد فى قصر القبة يوم 6 أغسطس عام 1967، طرحت قضية الديمقراطية وكيف تسبب غيابها بشكل أو بآخر فيما جرى، وتحدث عدد من الوزراء عن ضرورة السماح بوجود معارضة، إلا أن الخلاف كان حول شكل تلك المعارضة فى ظل وجود تنظيم سياسى واحد “الاتحاد الاشتراكى”.

فى هذا الاجتماع تساءل عبدالناصر: “كيف ننتقل إلى مجتمع مفتوح ويبقى فيه معارضة؛ بحيث نتلافى الأخطاء التى حدثت على مدى الـ 6 سنين اللى فاتت، واللى بدأت تتركز أساسا من سنة 60″، مضيفًا: “طيب إزاى نخلى الناس تتكلم ومتخافش؟ طب النهارده مهما قلت لهم: اتكلموا ومتخافوش الناس مش هتصدقك.. فيه عقد موجودة فى المجتمع.. الحقيقة إحنا وصلنا لمرحلة إن ماحدش بيتكلم”.

إطلاق المجال العام، ورفع القيود عن حرية الرأي والتعبير والتنظيم ودعم الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وفتح حوار مع مكونات الدولة المؤمنة بمدنية الدولة، وإجراء انتخابات حرة نزيهة تمنح الحق للمواطن في اختيار من يمثله بدء من أعضاء المجالس المحلية والنيابية وصولًا إلى رئيس الدولة، ووجود صحافة حرة مستقلة تمارس دورها في الإخبار والنقد والرقابة لصالح المحكومين وليس الحكام، تلك هي القواعد التي من الممكن أن تعمل تباعا على تفكيك أزمات الدولة ورفع قواعد “الجمهورية الجديدة”، بدونها لن يكون هناك استقرار ولا تقدم ولا تنمية، بدونها ستظل الأمور “محلك سر”، وستظل الأزمات تلاحق الوطن.