كنتُ أستطيع أن أعيش في سعادة، وفي سلام، لولا شيئان، هما أشدُّ ما في مصر خطرًا على الحاكم، إنهما: أقلام الصحفيين، وألسنة النساء.

كانت الصحافة في أغلبيتها وقتئذٍ مع زعيم الثورة أحمد عرابي، قبل أن تنقلب عليه بعد الاحتلال، وكانت معه النساء أيضًا، وكانت ألسنتهم ضد الخديوي توفيق صاحب هذه العبارة التي قالها في حوار طويل مع مستر برودلي المحامي الإنجليزي، الذي تصدى للدفاع عن عرابي وصحبه، أمام المحاكمة التي وصفها بأنها صورية وهزلية.

توقفتُ طويلًا أمام هذه العبارة، وظللت أتساءل:

كيف لرجلٍ انقلب على نفسه، وخذل آمال شعب استبشر بجلوسه على عرش البلاد، وتواطؤ مع المحتلين ضد جيش بلاده، وخان أمانة عرشه، وخدع مواطنيه، وواجه غضبة شعبية عارمة حين سقط القناع عنه بعد أن أكملت القوات البريطانية احتلالها لمصر، كيف لمثل هذا الرجل أن تكون هذه هي كل مشاغله.

كيف لحاكمٍ احتُلت منذ شهور قليلة عاصمة بلاده، وصار هو شخصيًا ألعوبة في أيدي المحتلين، يتحكمون في كل قرارته، كيف له أن يرى كل مشاكله التي تنغص عليه حياته، وتقض مضاجعه، وتُذهب سعادته، وتقضي على سلامه محصورةً فقط في: أقلام الصحفيين، وألسنة النساء.

**

مشاركة المرأة المصرية في يناير 2011 بكل هذا الحضور الطاغي، لم تكن هي المشاركة الأولى لسيدات وفتيات مصر في الثورة على الطغيان، وإن كانت أهمها على الاطلاق، لكنها لم تكن منقطعة السياق عن أدوارها المهمة التي سجلها التاريخ المصري الحديث ضمن أروع وأنصع صفحاته، أشهرها ذلك الدور المشهود الذي قامت به المرأة المصرية في الثورة الشعبية الكبرى سنة 1919.

 

في سنة 1919 لم تخرج المرأة المصرية من جُب التغييب فجأة بدون مقدمات، أو من دون سابقة أحداث، ولعل أنصع صفحات تاريخ «الثورة العرابية» تحمل ضمن سطورها ذلك الالتفاف الوطني حول عرابي، الذي لم يقتصر على شعبيته الجارفة في الأوساط الشعبية، ولكن ـ وبشهادة الأجانب قبل المصريين ـ تفجر التأييد التلقائي مع عرابي بين أسمى الشخصيات في البلاد (حسب وصف شهادة واحد من الأتراك) الذين نظروا إلى عرابي باعتباره قائد الحركة الوطنية، وكان الأمراء والأميرات وغيرهم يبعثون إليه بهدايا تحية له، وتلغرافات وخطابات تصفه بأنه: (حامي حمى الديار المصرية).

**

مع دخول قوات الاحتلال إلى القاهرة، واجه عرابي وزملاؤه اتهامات عقوبتها المقررة هي الإعدام، وقد صدرت عدة إشارات، وجرت تحركات وإجراءات تفصح عن أن النية مبيتة على أن الأمور تسير في هذا الاتجاه، ما جعل صديق «عرابي» السير «ولفريد سكاون بلنت» يسارع إلى تكليف ثلاثة من كبار المحامين الانجليز ليتولوا مهمة الدفاع عن «عرابي» على رأسهم مستر برودلي.

بعد انتهاء المحاكمة التي انتهت إلى نفي «عرابي» إلى جزيرة سيلان قام مستر برودلي بتأليف كتاب يُعد مرجعاً أساسياً عن تلك المحاكمة التي وصفها برودلي بأنها كانت (محاكمة صورية هزلية)، وقد جاء كتابه تحت عنوان: «كيف دافعنا عن عرابي وصحبه ـ قصة مصر والمصريين».

**

فوي كتابه ينقل لنا برودلي تفاصيل مشهد نقل «عرابي» وصحبه من السجن إلى المركبات في طريقهم إلى المنفى ويعلق عليه فيقول: «هؤلاء الذين كانت ثروة مصر تحت أيديهم يذهبون إلى المنفى لا يحملون معهم إلا ملابسهم التي كانوا يرتدونها، والراتب الزهيد الذي صرفته لهم الحكومة المصرية».

أحمد عرابي
أحمد عرابي

ثم يضيف: «باستثناء الخديوي وأمه قلَّ أن تجد رجلًا أو امرأةً من الأسرة الحاكمة لم يبعث إلى «عرابي» يعرض عليه مالاً أو يرسل تلغرافات أو خطابات كلها مديح لزعيم الأمة، ويختم فيقول: «إن مصر كلها كانت في تلك اللحظة مع عرابي».

**

كان حضور النساء المصريات في تأييد عرابي واضحًا، وقد أفرد لهن برودلي فصلاً في كتابه بعنوان «سيدات مصر والوطنية المصرية»، يقول في مطلعه: «ليس في الشرق بلد يبدو فيه نفوذ المرأة واضحًا جليًا كما يبدو في مصر، ولعله لم يكن للمرأة نفوذ له قوته كدافع في شئون الدولة مثلما كان نفوذ المرأة في مصر، ولقد وجد «عرابي» بين سيدات مصر بعضًا من أكثر أشياعه وطنية ونفوذاً في أوساط المرأة المصرية، فقد هبت فتيات مصر وبنات الأسر الكبيرة لجمع تبرعات كبيرة، وألفن فرقة لتجهيز الضمادات ولوازم الجرحى لإرسالها للأطباء الذين يعملون في الخطوط الأمامية في معركة كفر الدوار.

وكان ملحوظًا تأييد الأغلبية العظمى من سيدات مصر للقضية الوطنية، تأييداً حاراً منذ مراحلها الأولى، وقد استمررن في تأييدها حتى صار الأمل منها ميئوسًا.

**

لم يكن سرًا أن أميرات الأسرة الخديوية (باستثناء أم الخديوي وزوجته) أعلنَّ تعاطفهن القوي مع «عرابي». وقد ذكرت الوقائع الرسمية أنه حتى اليوم الذي أعقب ضرب الإسكندرية ظلت الهدايا من الخيول التي وهبتها للجيش «أم الخديوي إسماعيل»، وابنتها الأميرة «جميلة هانم» وشُكلت اتحادات تحت رعايتهما لنجدة وإغاثة الجرحى.

تأييد النساء المحجوبات في القصور جاء ليرد على مزاعم الذين كانوا ينكرون على حركة «عرابي»  أنها ثورة شعبية شاملة، ويقول برودلي: حدث بعد انتهاء محاكمة «عرابي»  الصورية أني دهشت لأن يزورني خادم أمين من طرف الأميرة «انجي هانم» أرملة الخديوي السابق سعيد باشا، والتي تعد واحدة من أكثر النساء حباً لعمل الخير، وأكثرهن شهرة في مصر، حمل إليَّ الخادم رسالة من سيدته تظهر إلى أي مدى وصل تأييد «عرابي» داخل البلاد، حيث حوت الرسالة الكثير من أطناب المديح لما قمت به دفاعاً عن «عرابي» وصحبه، كما جاءني بالكثير من الهدايا الثمينة الفاخرة لي ولمستر نابيير مساعدي في الدفاع.

**

هذه هي الرسالة التي ذكر «عرابي» نصها في مذكراته، تقول الرسالة: «جناب المستر برودلي المحامي، بعد اهدائك تسليماتي وتشكراتي لشخصك الكريم، انتهز هذه الفرصة لأن أصرح لكم بأن بلاد مصر تشرفت بمجيئكم إليها، وأنا وجميع أهلها مسرورون من أعمالكم لأنكم دافعتم عن قضية العدالة والإنسانية، ونحن المصريات والمصريون نبتهل الى الله في كل أيام حياتنا أن يوفقكم وينجح مقاصدكم، كما ندعو الله أن يلطف بهذا البلاد.

الخديوي توفيق
الخديوي توفيق

إنك بدفاعك عن أبناء هذا البلد الذين (سعوا لخيرها ودافعوا عنها) قد جعلتم إنجلترا محبوبة عندنا، لأن إنجليز عطفوا علينا في حزننا ومصيبتنا. وإني لأشكر جناب المستر بلنت بقلب خالص لطيبته وانعطافه نحونا، وجميع المصريين مسرورون من الأخبار التي دلت على أعمالكم، ولا يجرؤ أحد على تأييد العكس مع انبلاج نور الحقيقة. وإني لعاجزة حقيقة عن توضيح تشكراتي. مصر في 18 ديسمبر سنة 1883. توقيع: «انجي».

**

موقف «انجي هانم» لم يكن موقفًا انفراديًا، بل فعلت مثله الكثيرات من أميرات الأسرة الخديوية، ويحكي مستر برودلي في كتابه فيقول: «بعد الرسالة التي تلقيتها من (انجي هانم) ببضعة أيام كان لي شرف الاستماع إلى (أميرة) أرادت أن تحدثني حديثًا غير متحفظ عن المشاعر الحقيقية للأسرة الخديوية فيما يتصل بأسباب ونتائج الأحداث الراهنة في مصر».

كانت الأميرة تتدفق بحماس وهي تروي لي وقائع ما جرى خلف الأسوار، قالت إن كل فرد منا كان يتعاطف سرًا من بادئ الأمر مع «عرابي»، لأننا كنا نعرف إنه لا يسعى إلا لخير المصريين، لقد اعتقدنا حينًا أن «توفيق» نفسه كان أيضًا يؤيد «عرابي»، ولهذا أحببناه في البداية، ولكن عندما اكتشفنا أن «توفيق» يكيد لعرابي، ويقصد خيانة مصر، كرهناه من قلوبنا، ولقد بذل «الخديوي» جهدًا كبيرًا من أجل أن يستميل عطف سيدات وبنات الأسر الكبيرة عن طريق أمه وزوجته، ولكن بلا جدوى، لقد واجهته الأميرة «انجي» التي نبجلها جميعًا، مرتين، وبمنتهى الوضوح قالت له رأيها فيه، وفي تصرفاته السياسية، لكن للأسف لم ينصلح حاله، بأية صورة.

ثم ما لبث «توفيق» بعد ذلك أن ذهب إلى الإسكندرية، وبعدها سمعنا أنه انحاز تمامًا إلى الإنجليز، وبدأت الاجتماعات النسائية، واستقر رأينا جميعًا منذ تلك اللحظة أن نتطلع فقط إلى «عرابي» للدفاع عن البلد، وانعقدت اجتماعات من كل كبراء مصر في القاهرة حضرها الأمير إبراهيم والأمير كامل والأمير أحمد واستقر الرأي بالإجماع على تفويض «عرابي» باستئناف الحرب.

**

نظرت الأميرات الثائرات إلى «عرابي» كمحرر للبلاد، وتحمسن له بلا حدود، (بعثنا إليه خطابات وتلغرافات بأسماء مستعارة لتأييده وتشجيعه، وحدث أن كتبت له إحدانا خطابًا متحمسًا غاية في الحماقة، وجهته «إلى منقذ مصر»، وعرضت عليه أن تتزوجه، لتقف إلى جانبه وتؤيده، ورد عليها «عرابي» شاكرًا، وطلب منها أن تهتم بشؤونها، وتؤدي واجبها الوطني من دارها).

لقد ساهم كل منا في تكاليف الحرب كل حسب إمكاناته، وكنا نحن الأميرات مشغولات بجد طول اليوم في إعداد ما يلزم الجنود من أدوية وأغطية وضمادات، وظللنا نعمل بحماس، ونلهب الشعور مع «عرابي» وضد «توفيق» حتى كان اليوم الذي وصل فيه «عرابي» إلى القاهرة، سرت شائعات أنه قد جاء معه برأس الجنرال «وليسلي» قائد قوات الاحتلال البريطاني لمصر والأميرال «سينور» قائد الأسطول البريطاني في الحملة على مصر سنة 1882.

وطغى الفرح على أجوائنا، ولكن ما لبثنا أن عرفنا الحقيقة المُرة، وأن العكس هو ما حدث، وأن «عرابي» قد مُني بهزيمة ساحقة، واستولى علينا ذهول وحزن أليم، واستغرقنا في بكاء مستمر حتى بلغت حالتنا مبلغ اليأس الأليم.

**

تواصل الأميرة شهادتها فتقول: حينما عاد «توفيق» من الإسكندرية منتصرًا مزهوًا إلى القاهرة توقعنا أن يصب العذاب والغضب على نصيرات «عرابي»، وبالفعل ما أن وصل حتى أرسل إلى الفتاة التي كانت أرسلت خطابًا إلى «عرابي»، وأعلن أنه سيذيقها العذاب المُر، لولا أن تدخلت أمها وأعلنت بجرأة أنها هي التي كتبت الخطاب وختمته بخاتم ابنتها، فكان مآلها الطرد بعد ذلك، وحينما خرجت الأم وابنتها من عند «توفيق» التقيا بالأغا الذي أبلغ الخديوي بقصة الخطاب، ووشى بهما إليه، فأمسكت الأم بكرسي وضربته على رأسه، ثم انهالت عليه ضربًا، وأخذت تجري وراءه في أنحاء السراي والدم ينزف منه تريد أن تفتك به نهائيًا.

ولم نلبث طويلًا حتى صدرت لنا الأوامر بالذهاب إلى القصر، بعد ما دلّه جواسيسُه علينا، وكان أكثرنا يرتجف من الخوف، وذهبنا فوجدنا «توفيق» يجلس وإلى جواره أمه، وما أن اكتمل عددنا حتى انهالت علينا أمُه بأقذر وأقذع السُباب، وأعلنت لنا في تشفٍ أن بطلنا «عرابي» سيسلمه الإنجليز إلى الخديوي لكي يعدم ببطء على الخازوق.

وقرأت علينا أم الخديوي قائمة بأسماء زعيمات حركتنا، وقالت إنه قد تقرر إعدامهن، وسرى فينا الرعب، وظللنا خائفات بضعة أيام حتى تحققنا أنه لا «توفيق» ولا أمه يستطيعان أن يحركا اصبعًا بغير موافقة أسيادهما الإنجليز. وحينما عُرف في القصر أن حياة «عرابي» قد أُبقي عليها، وأنه سينفى، استسلمت النساء لحزن وكآبة شديدين كما لو كان الموت قد حل بالأسرة فجأة، بينما لبست أم «توفيق» الحداد، وسرى الوجوم والحزن في السراي، وصاروا يكرهون الإنجليز الآن أكثر من كراهيتهم لنا، وأخذنا نحن بدورنا نتشفى فيهم.

**

بعد انتهاء محاكمة عرابي ونفيه هو وصحبه، التقى المحامي الإنجليزي برودلي مع الخديوي توفيق في جلسة مطولة ودار بينهما حديث مفتوح، ذكر فيه الخديوي العبارة التي عبر فيها عن خشيته من أقلام الصحفيين وألسنة النساء، وقد خلص برودلي إلى نتيجةٍ مفادها أن «توفيق» كان يمكنه أن يتزعم الوطنيين، وأن يكتسب ثقة الشعب المصري، ولكنه أهدر هذه الفرصة، وأخذ يناور ويداور حتى أصبح عبدًا لبريطانيا، حتى صار أكره رجلٍ لدى الشعب المصري، وبات بلا مستقبل، وسيظل اسمه في التاريخ دائمًا موصوفًا بالرجل الذي جاء بالإنجليز إلى مصر.

يختم برودلي بما يمكن تسميته بحكم التاريخ الذي لا نقض له، وفيه أن «توفيق» جلس في بداياته على سور الوطنية المصرية، ولكنه فيما بعد لم يتخل فحسب عن القضية، بل خانها، ثم سقط من فوق السور، ولم تستطع كل خيول الانجليز، ولا كل رجالهم، أن يعيدوا له حب، أو ثقة، رعاياه الساخطين عليه، حتى الصبية منهم الذين كانوا يرددون في الشوارع والحواري: (يا توفيق يا وش النملة مين قالك تعمل دي العملة).

**