في مثل هذه الأيام قبل 222 عاما.. هنا أبريل من عام 1800، والمحروسة تواجه ساعة شدة عظمى وألم كبير، فقائد قوات الغزو الفرنسي قد أمر بالرد على “ثورة القاهرة الثانية” بتدميرها قصفاً بالمدافع، والفتك بأهلها والتمثيل بهم جزاءً لانتفاضتهم في وجه الاحتلال. إلا أن ذلك الطغيان لن يمر دون رد، ولن يطول احتفال الجنرال بالنصر على أهل مصر، وسيأتيه الثأر سريعاً بيد شاب سوري حملت الخنجر إلى قلبه وقلب التاريخ.

يقول الجبرتي واصفاً ما فعله الجنرال “كليبر” وجنوده الفرنسيين بالقاهرة: “حصروهم من كل جهة وقتلوا منهم بالحرق والقتل وبلوا بالنهب والسلب، وملكوا بولاق وفعلوا بأهلها ما يشيب من هوله النواصي، وصارت القتلى مطروحة في الطرقات والأزقة، واحترقت الأبنية والدور والقصور،…، وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنسا والخوندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال والسكر والكتان والقطن والأبازير والأرز والأدهان والأصناف العطرية، وما لا تسعه السطور ولا يحيط به كتاب ولا منشور، والذي وجدوه منعكفًا في داره أو طبقته ولم يقاتل، ولم يجدوا عنده سلاحًا نهبوا متاعه وعروه من ثيابه ومضوا وتركوه حيًّا، وأصبح من بقي من ضُعفا أهل بولاق، وأهلها وأعيانها الذين لم يقاتلوا فُقرا لا يملكون ما يستر عوراتهم.”

وإن هي إلا عدة أسابيع مرت على هذه الفظائع التي ذاقها أهل مصر حتى تفاجئ السفاح كليبر برجل يقف أمامه في هيئة شحاذ، وإن هي إلا لحظات وكان الخنجر يسافر في صدره، لقد طعنه البطل سليمان أربع طعنات نافذة كانت كفيلة بإزهاق روحه الشريرة. ليدفع ذلك الشاب جزاء شجاعته عذاباً تقشعر له الأبدان حتى فاضت روحه الطاهرة.

وبعد أن ولى زمن البطولة الحقيقية والوطنية الصادقة، جاء أبطال الكي بورد الأشاوس، الذين يملؤون الواقع الافتراضي صياحا وصراخا بالتنمر والتلمز على السوريين المقيمين في مصر، وكمثل أشباههم من اليمين المتطرف في الشرق والغرب يلقون عليهم باللوم في بعض المشاكل خاصة الاقتصادية منها، هرباً من الأسباب الحقيقية. وهو ما ينم ليس عن سفالة القول ووضاعة الفعل فحسب وإنما عن تفاخر مقزز بالجهل. فأثر السوريين والشام عموما وسائر المهاجرين في الثقافة والحضارة والاقتصاد المصري لا تخطئها عين محايد أبدا، ليس الآن فقط، بل على امتداد قرون طويلة من تاريخ هذه البلاد.

فلو بحث هؤلاء الأنطاع في أثر الجالية السورية في مصر حاليا لعرفوا بإنهم ليسوا عبئا على الاقتصاد المصري كما يدعون كذبا وتبليا، بل على العكس تماما، فهي الجالية الأنجح على الإطلاق والأكثر مساهمة في الاقتصاد بين كل نظائرها عربا وعجما.

وبين تقديرات الأمم المتحدة البالغة 242 ألفا، وأضخم التقديرات الحكومية البالغة نصف مليون نسمة (أي أقل من 0.5 بالمائة من السكان) قدرت الأمم المتحدة حجم استثماراتهم في الاقتصاد المصري بحوالي 23 مليار دولار وأكثر من 30 ألف مستثمر، وذلك منذ عامين. وهو ما لا يدهش المتابعين لمثل هذا الملف، حيث إن الغالبية العظمى من السوريين الذين قصدوا مصر في بداية 2011 كانوا من المستثمرين ورجال الأعمال أو الصنايعية والعمال المهرة، وقد كان لهؤلاء أثر على تحديث كثير من المهن والصناعات وثقافة الإنتاج بجانب مساهمة استثماراتهم في خلق وظائف ودعم الاقتصاد والإنتاج. وهو نفسه أثر ملايين المصريين في الخليج وحول العالم.

ولكن من يريد أن يرِ الأثر الحقيقي فليتأمل التاريخ، فمصر التي نتغنى جميعا بقوتها الناعمة شرقا وغربا، كان أهل الشام جزءًا لا يتجزأ منها، بل ومن نشأتها بالأساس. انظر مثلاً إلى جريدة الأهرام العريقة التي أسسها الأخوان سليم وبشارة تقلا، وجورجي زيدان مؤسس مجلة الهلال “أول مجلة ثقافية عربية”، وعبد الرحمن الكواكبي المفكر العظيم صاحب الأثر الخالد في الفكر السياسي المعاصر، وخليل مطران، ويعقوب صروف، وبديعة مصابني، وغيرهم كثير جدا لا يحصيه مقال بأي حال من الأحوال.

بجانب التأثر المتبادل والتقارب الروحي بيننا والذي لطالما كان جزءًا من تاريخ طويل وشعور عميق وحقيقي وليس مصطنعا. وما عشته ورأيته بعيني في أسفاري، قرأته وسمعته مرارا في تجارب الآخرين. فسوريا التي كانت يوما ما جزءًا منا وكنا جزءا منها تحت اسم الجمهورية العربية، لا تزال تعيش بداخل أجيال جديدة لم ترِ تلك الوحدة بالأساس. سوريا التي صدح مذياعها “هنا القاهرة من دمشق” قبل أكثر من ستين عاما، هي سوريا التي كان اسمها جزءًا من دعاء المساجد والكنائس المصرية بطول البلاد وعرضها وقت الشدة والحرب والكرب قبل عدة سنوات.

لا يختلف أولئك المتطرفون المتطاولون على السوريين عن أمثالهم في باقي الدول الغربية المعاديين للمسلمين والعرب والمهاجرين، ولا عن أولئك الذين شاركوا في محاولات تشويه سليمان الحلبي طالب العلم المثقف، في محاولة لتصوريه كقاتل مأجور وليس بطلا شجاعا مجاهدا في سبيل كرامة أمته، مرددين ما ادعاه مساعدو وأنصار وأعوان السفاح كليبر، والذين لم يكونوا ليرضوا بأن تخلد صورة سليمان وبطولته عند المصريين لاسيما في أعقاب ثورة عارمة كما يقول الأستاذ صلاح عيسى.

وعلى النقيض من ذلك، فقلما تجد من هؤلاء المتطرفين من يتحدث عن الوافدين من أعدائنا الذين يعيثون فسادا في مصر، تخريبا للاقتصاد والسياسة والإعلام، أو عن آلاف الصهاينة الذين يرتعون فوق ترابنا بتسهيلات ليس لأحد مثلها من العرب. ولكن، ظل “سليمان ونس” حلقة في سلسلة لا أول لها ولا آخر في تاريخ مشترك بين أهل مصر وأهل الشام، ذلك الفارس الذي لقب لاحقاً بـ”سليمان الحلبي” ليقترن اسمه تاريخيا باسم مدينة حلب، وبالبطولة والفداء في بر مصر، كما سيصير رمزا للأخوة التي تجمع بين الشعبين، ويظل “السوريون منورين مصر”، كما ارتجل البعض مؤخرا في مواجهة تلك النعرات الوقحة، متشبهين بما ارتجله قديما شاعر النيل “حافظ إبراهيم” في مواجهة نفس تلك النوعية من المتنمرين على الشوام في مصر منذ سابق العصر، فكتب يقول:

ماذا جنيتِ وما جناه بنوكِ

أظلمتهم يا مصر أم ظلموكِ؟

فبسمتِ للغرب الطموح وأهله

ومنحتهم فوق الذي منحوكِ

وعبستِ في وجه الشآم وإنما

قُطْر الشآم وإن عبستِ أخوكِ

لطالما كانت عظمة مصر وقوتها الحقيقية في مد يد العون لأشقائها وتأثيرها في نفوسهم وثقافتهم ونضالهم وفرحهم وحزنهم، وبالمثل في قدرتها على احتضانهم وجعلهم جزءًا لا يتجزأ منها، أما مصر المنكفئة على نفسها والمتنكرة لأشقائها فلا نعرفها ولا نريدها. مصر ليست مينا وأحمس وسعد زغلول وأم كلثوم فحسب، ولكنها أيضاً جمال الدين الأفغاني، ومحمد رشيد رضا، وسليمان الحلبي، ونجيب الريحاني، وعبد الكريم الخطابي، وأسمهان وفريد الأطرش، ووردة، ومريد البرغوثي. وليس غريبا على الإطلاق أن يصبح فطاحل العامية المصرية وأشهر شعرائها على الإطلاق ليسوا من أصول مصرية بالأساس كشاعر الشعب “بيرم التونسي” ووالد الشعراء “فؤاد حداد”. فمصر التي لم تنصب خياما ولا مخيمات لمهاجر هي التي نعرفها، مصر الحقيقية القوية الكبيرة الرائدة العظيمة.