مرة أخرى عاد المكونان المدني والعسكري للتوقيع على ما أطلق عليه “الوثيقة التوافقية لإدارة المرحلة الانتقالية”، الأسبوع الماضي. ذلك بعد توحيد 32 مبادرة وطنية لحل الأزمة السياسية في السودان، والتي ترتبت على قرارات رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، في 25 أكتوبر من العام الماضي. وتم على إثرها إزاحة المكون المدني من المشاركة في إدارة المرحلة الانتقالية.
ما هي تفاصيل الوثيقة التوافقية؟
تم الإعلان عن توقيع الوثيقة بشكل مفاجئ في أجواء سياسية بالغة التعقيد. وهو أمر يثير العديد من التساؤلات حول مدى قوتها في حلحلة الجمود السياسي وإعادة بناء الثقة والحوار بين الأطراف المتنازعة منذ قرارات 25 أكتوبر. ذلك في وقت لا تزال العديد من القوى السياسية الفاعلة في الشارع السوداني ترفض هذه الوثيقة. وهي ترفع شعار “اللاءات الثلاثة”: “لا تفاوض، لا شراكة، لاشرعية”. فيما تراجعت قوى سياسية موقعة على الوثيقة وأعلنت تبرأها من التوقيع، كحزب الأمة الذي شارك رئيسه في التوقيع على الوثيقة.
تقر الوثيقة شراكة الحكم الانتقالي بين المدنيين والعسكريين وتمديد الفترة الانتقالية وتنفيذ اتفاقية جوبا للسلام. فضلًا عن اتخاذ إجراءات تهيئة المناخ كإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ورفع حالة الطواري. وهي الأسس العامة التي يمكن إقامة عملية تفاوضية أو حوار سياسي جاد بين أطراف الأزمة من المكونيين المدني والعسكري.
ووفقًا لبنود الوثيقة، يعود المكون المدني مرة أخرى للمشاركة في إدارة المرحلة الانتقالية. حيث اقترحت 3 مقاعد في مجلس السيادة لأطراف سلام جوبا. بالإضافة إلى 8 مقاعد في مجلس السيادة مناصفة بين المدنيين والعسكريين، مع ضرورة تسمية رئيس وزراء مستقل.
وحسب تصريحات نقلتها وكالة الأنباء السودانية (سونا) الثلاثاء الماضي أثناء التوقيع على الوثيقة، فإنها جاءت وفق مبادرة محلية بالأساس. وقد وضع أسس هذه المبادرة المركز الأفريقي لدراسات الحوكمة والسلام والتحول، ومركز دراسات السلام والتنمية بجامعة بحري السودانية. وقال مدير المركز الأكاديمي، محمود زين العابدين، إن الهدف الأساسي هو تحقيق الانتقال الآمن للوصول إلى الحكم المدني الديمقراطي بالبلاد عبر انتخابات حرة ونزيهة. ذلم مع محاولة إعادة الثقة بين كافة المكونات.
ووفق تصريحات زين العابدين، فإن الوثيقة تطرقت أيضًا إلى نظام الحكم في السودان وفق النظام الفيدرالي. حيث حددت مؤسسات ومستويات الحكم في المستوى الاتحادي والولائي والمحلي. على أن يتكون مجلس الوزراء من 20 وزيرًا يمثلون كافة ولايات السودان.
الموقعون والرافضون للوثيقة التوافقية
بحسب المشاركين في صياغة الوثيقة التوافقية، فإن بنودها جاءت بعد 70% من التوافق والتشابه بين كل المبادرات التي تم طرحها في الفترة الأخيرة لضمان الانتقال الديمقراطي الأمن وعبور المرحلة الانتقالية وتطبيق الحكم المدني الفيدرالي وتحقيق العدالة الانتقالية. إلا أن هذا التوافق لم يظهر كثيرًا في ردود الفعل في الداخل السوداني على بنود الوثيقة وتوقيعها.
الموقعون الرئيسيون على الوثيقة يمكن اعتبارهم من القوى السياسية والمجتمعية التقليدية التي لم يكن لها خلاف كبير مع السلطة العسكرية في السودان خلال الأشهر الماضية. إضافة إلى الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام في السودان. وهو ما يمكن اعتباره تكتل سياسي قوى يحظى بنوع من التنظيم والتوافق والترحيب الدولي والإقليمي من قبل القوى المهتمة بحل الأزمة السياسية في السودان.
وفي مقابل هذا التيار التوافقي، لا تزال قوى مجتمعية وسياسية لها وزن في الشارع السياسي وتقود حراك لا يمكن إغفاله في الشوراع والميادين السودانية لا تعترف بهذه الاجراءات. ليس فقط ما جاء ببنود الوثيقة. ولكن بعملية الحوار مع المكون العسكري بشكل عام. حيث ترفع هذه القوى شعار “اللاءات الثلاثة “لا تفاوض، لا شراكة، لاشرعية”.
لجان المقاومة على رأس الرافضين
وتتصدر هذه القوى الرافضة للوثيقة التوافقية لجان المقاومة السودانية، وتحالف الحرية والتغيير. وهي القوى التي كان لها مواقف متشددة ترفض قرارات البرهان في 25 أكتوبر من العام الماضي، وتم على إثرها حل الحكومة، وفرض حالة الطوارئ، وتجميد بعض بنود الوثيقة الدستورية.
كانت قوى الحرية والتغيير، الائتلاف المدني الحاكم في السودان سابقًا، قد أعلن في بيان قبل إطلاق الوثيقة رفض الانخراط في أي عملية تفاوضية قبل تنفيذ حزمة شروط تضمنت 3 بنود كإجراءات لتهيئة المناخ. وهي إلغاء حالة الطوارئ وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين من قوى الثورة ووقف العنف ضد المتظاهرين السلميين.
وردًا على أي انتقادات لعدم مشاركتها أكدت قوى الحرية والتغيير أنها مع الحل السايسي كموقف مبدئي واستراتيجي. لكتها تريد حلًا سياسيًا يحقق مطالب الثورة في الوصول لسلطة مدنية كاملة. ما يدعم موقفها بعدم الدخول في أي اجتماعات تحضرية أو التوقيع على أي مبادرات إلا بعد تنفيذ شروطها.
هل تملك الوثيقة التوافقية قوة حقيقية؟
في قراءة سريعة لمواقف الموقعون على الوثيقة التوافقية تجدهم من القوى السياسية التي لم يكن لها خلاف مع السلطة القائمة تحت رئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه حميدتي، إن لم تكن حليفة لها ضد قوى الحرية والتغيير، وهو ما ظهر في العديد من المواقف السياسية منذ قرارات أكتوبر وإزاحة الحرية والتغيير عن المشهد السياسي.
كما أن حزب الأمة القومي المحسوب على القوى الثورية سرعان ما غير موقفه بعد توقيع رئيسه على الوثيقة. حيث قال رئيس الحزب في تصريحات أن حضوره لفعالية التوقيع كان بشكل شخصي ولايمثل موقف الحزب. وذلك تخوفًا من أن تتسبب الوثيقة في مزيد من الارتباك في المشهد السوداني واستغلالها في ضرب وحدة القوى السياسية مع استمرار عمليات التخوين.
وأعلن الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل أيضًا أنه لم يفوض أي من قياداته للتوقيع نيابة عنه على وثيقة إدارة الفترة الانتقالية رغم دعمه لأي مبادرة وطنية تستهدف إنهاء الأزمة السياسية في البلاد.
كلمة الشارع السوداني لا تزال المسيطرة
والمراقب للمشهد السياسي في السودان خلال الفترة الماضية يمكن القول إن كلمة الشارع السوداني المتمثلة في استمرار التظاهرات الرافضة لا تزال هي المسيطرة، وهو ما يضيف نوعًا من القوة لصالح القوى الثورية المتثملة في قوى الحرية والتغيير التي لا تزال لديها القدرة على الحشد الشعبي ضد من يمارسون السلطة، وهو ما يجعل رهان المؤسسة الحاكمة على رفض الشارع للسياسين واتهامهم بتعطيل مسارات الإصلاح أو العبور الأمن للمرحلة الانتقالية رهانًا خاسرًا.
وحتى هذه اللحظة التي ترفض فيها القوى السياسية الثورية الوثيقة التوافقية، وتتأرجح مواقف الأحزاب الرئيسية في مقدمتها حزب الأمة، مع عدم إعطاء المؤسسة الحاكمة الدعم أو الاحتفاء الكافي بمخرجات هذه الوثيقة التوافقية، لا يمكن إعطاء قدر كبير من الأمال في نجاح تنفيذ ما جاء في بنود هذه الوثيقة. خاصة مع عدم وجود ضمانات أو تعهدات رسمية بموعد الانتخابات أو الأجل الحقيقي للفترة الانتقالية. وهو ما يجعل هذه الوثيقة مجرد حدث يظهر استمرار دعم عدد من القوى المجتمعية والسياسية للمؤسسة الحاكمة مع استمرار الرفض والاحتقان من قبل قوى سياسية أخرى لا تزال تسيطر على الشارع السوداني.
استمرار الأجواء المشحونة
لم يلبث الموقعون على الوثيقة التوافقية يحتفلون بالتوافق على بنودها التي تستهدف بالأساس إعادة الثقة وعودة الشراكة بين المدنيين والعسكر. وقد جاءت تصريحات لنائب رئيس مجلس السيادة، محمد حمدان دقلو حميدتي، تكشف استمرار الكراهية والعنصرية. إذ وجه اتهامًا للسياسيين. فقال: “يمارسون الغش وغير صادقين مع السودانيين”.
اتهم حميدتي أيضًا بعض القوى بمحاولة تمرير أجندتها عبر الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. مع السعي لتمديد الفترة الانتقالية لأطول مدة ممكنة. مشيرًا إلى أن ذلك لن يتم، وأن السبيل الوحيد للحكم هو الانتخابات، معتبرًا أن بعض السياسيين لا يرغبون في الديمقراطية.
وقد اتجهت العديد من المقالات في الصحف السودانية خلال اليوميين الماضيين إلى اعتبار الوثيقة التوافقية نوعًا من التسوية السياسية لإجهاض الثورة وإسكات صوت الشارع ومنح الحماية للمؤسسة الحاكمة.
واتجهت بعض المقالات لزيادة فرص فشل هذه الوثيقة خاصة مع تجاوزها لقوى الثورة الفاعلة ولجان المقاومة، دون تقديم جديد لحلحلة الأزمة السياسية.
وبشكل عام لا يمكن إغفال قدر من الأثر الإيجابي لهذه الوثيقة رغم زيادة حملات الطعن والرفض في جديتها وأهميتها من قبل العديد من السياسين في الشارع السوداني، خاصة وأنها جاءت نتاج حوارات واجتماعات مطولة ومبادرات محلية وإقليمية ودولية برعاية بعثة الأمم المتحدة بالخرطوم “يونيتامس” والاتحاد الأفريقي، ويبقى التوافق المحلي هو الأساس لنجاح تنفيذ بنود الوثيقة وتحقيق العبور الديمقراطي الأمن من المرحلة الانتقالية في مناخ غابت فيه الثقة بشكل يكاد يكون كامل.