في انتظار الإعلان عن تفاصيل المبادرة الرئاسية بالدعوة إلى حوار سياسي شامل يؤصل للجمهورية الجديدة -كما وعد الرئيس عبد الفتاح السيسي في لقائه الإعلامي الأخير بتوشكى- فقد كانت أغلبية ردود الفعل مرحبة، بل متحمسة من حيث المبدأ، ولم تكن التحفظات التي أبداها البعض سوى شروط أو مطالب لضمان نجاح الحوار، وهي شروط ومطالب أقرب إلى أن تكون أمنيات لبناء الثقة -مثل إطلاق سراح مسجوني ومحبوسي قضايا الرأي السياسي– أكثر من كونها شروطا تتوقف المشاركة في الحوار على تحقيقها مقدما، وفي حين تشككت قلة قليلة من المراقبين في جدية التزام السلطة بشروط حوار جاد، وفي الاستعداد لتنفيذ مخرجاته، فإن هذه القلة لم تنكر وجود حاجة موضوعية لمثل هذا الحوار، بسبب تعقد الموقف الاقتصادي على مستويات عديدة، في مقدمتها بالطبع أزمة الديون وخدمتها، ومن ثم احتمال عدم القدرة على السداد جزئيا أو كليا في وقت ما مع استمرار اضطراب الوضع الاقتصادي العالمي، خاصة في أسواق الطاقة والغذاء نتيجة للحرب الأوكرانية، ومع توالي زيادة معدلات الفائدة على القروض في السوق الدولية، وما يترتب على ذلك من مزيد من انخفاض في سعر صرف العملة الوطنية، وبالتالي مزيد من الانخفاض في مستويات المعيشة لعموم المصريين بدءا من الطبقة الوسطى العريضة. بما يخشى منه على الاستقرار السياسي.
لكن يفهم من ردود الفعل المرحبة والمتحمسة أن أصحابها يفكرون في حوار وطني شامل، لا تنفصل فيه الأزمة الاقتصادية، عن الحالة السياسية الداخلية الإقصائية الخانقة للمجال العام، ولا تنفصل فيه هاتان الأزمتان عن التحديات الإقليمية والدولية للأمن القومي المصري، والمصالح الاستراتيجة العليا للبلاد، وعلى رأسها بالطبع حقوقنا في مياه النيل، والبيئة الإقليمية المضطربة من الخليج واليمن إلى سوريا ولبنان وفلسطين حتى ليبيا، ثم المحاور الاستراتيجة والأمنية التي تتشكل في الأقليم، دون دور رئيسي لمصر في تكوينها وتوجيهها، والتي يبقى أكثرها مدعاة للقلق في نظري المحور الإسرائيلي الخليجي، والمحور الإسرائيلي الإثيوبي الخليجي، وذلك بعد تراجع الدور الإقليمي التركي نسبيا، و يلي هذين المحورين التي تشكل إسرائيل القطب الرئيسي فيهما في الخطورة على بيئة الأمن في الإقليم المحور الإيراني السوري الروسي الذي تدور حوله جماعات الحوثيين في اليمن، وحزب الله اللبناني، والحشد الشعبي العراقي، وأحزابه السياسية الداعمة.
صحيح أنه في كل بلاد الدنيا يصعب الفصل بين الاقتصاد والسياسة والأمن في الداخل والخارج علي السواء، ولكن لأسباب عملية بحتة، ونظرا لانقطاع الحوار العام في مصر لعدة سنوات طويلة خلت، مما أدى إلى تشرذم وضعف وانزواء كثير من التيارات والناشطين، وإلى تقزم الأحزاب السياسية، وبسبب اكتساب أجهزة الدولة (الأمنية بالدرجة الأولى) مساحات كبيرة في العمل العام بشقيه السياسي والاقتصادي أوجدت ما يسمي بالمصلحة في الدور أو المكانة… لكل تلك الأسباب قد لا يكون من المستحسن، ولا من المفيد إطلاق حوار وطني يشمل كل تلك القضايا والتحديات دفعة واحدة، وقد يصعب أن توفر السلطات المسؤولة المعلومات اللازمة لحوار بناء وموثوق في كل هذه القضايا علي الفور، خاصة وبعضها حساس، وبعضها الآخر ربما يتضمن التزامات سرية، يمكن تناولها في مراحل تالية ومتقدمة من الحوار، عندما تطرد خطوات بناء الثقة بعد حقبة متطاولة نسبيا من الاقصاء والقلق والشكوك المتبادلة.
إذن فالأنسب من وجهة نظري هو الحوار خطوة خطوة، وتكون الأولوية القصوى للأزمة الاقتصادية والمعيشية، فبالرغم من الإطار السياسي الحاكم للاقتصاد في كل بلاد الدنيا، وفي مصر بالتبعية، فإن دور الخبراء الفنيين فيه أكبر من بقية الجوانب السياسية والأمنية والاستراتيجية، كذلك فإن ضغط الأزمة فيه أكبر أيضا وأكثر إلحاحا، والمعني أن احتمالات التوافق علي حلول فيه أعلى من احتمالات التوافق في الميادين الأخرى، مما يسهم بقوة في بناء الثقة اللازمة للتناول البناء والجاد لتلك القضايا، ليس فقط بين أطراف الحوار التي لا يعرف أحد حتى الآن كيف سيختارون في انتظار التفاصيل، كما قلنا في البداية، ولكن أيضا في بناء الثقة مع الرأي العام.
وقد يكون من المفيد أيضا في المرحلة الأولى تجنب الأضواء الإعلامية، تداركا لغرام البعض بالظهور ودغدغة العواطف الشعبوية، أو درءا لاحتمالات شعور الرسميين بالحرج من أخطاء سابقة، أو بالحرج من تراجعات محتملة، ولكن دون إخفاء اتجاهات المناقشات، والتوافقات وأوجه الاختلاف عن الرأي العام بالطبع، ولتعهد بمهمة اطلاع الرأي العام والصحافة والإعلام إلى خبير اقتصادي يجيد التواصل الإعلامي، أو خبير اعلامي يتقن فهم علوم الاقتصاد، وهذه تجربة ثبت نجاحها في تغطية أعمال لجنة الخمسين التي وضعت مشروع دستور عام ٢٠١٤، واضطلع بها على الوجه الأمثل -كما نتذكر جميعا- الزميل والصديق الكاتب الصحفي والأديب محمد سلماوي.
بعيدا عن التفاؤل والتشاؤم اللذين لكل منهما مايبرره، واللذين هما أسهل ما يتخذ من مواقف، فإن هذه ليست أول مرة في تاريخ مصر المتطاول مع الأزمات الكبرى التي تكتشف فيها السلطات أن الخروج من الأزمة يتطلب تفاهما أو مشاركة بينها وبين عموم المحكومين، بل يمكن القول إن دخول فكرة المشاركة الشعبية من خلال التمثيل النيابي إلى حياتنا السياسية انبثقت أصلا من أزمة المديونية الخارجية تحت حكم الخديوي إسماعيل، وأن تفاقم الأزمة الداخلية، وضغط حركة الطلبة عام ١٩٣٥، ونذر الأزمة الدولية المحتدمة التي فجرت الحرب العالمية الثانية كانت السبب المباشر لتشكل الجبهة الوطنية، ورضوخ القصر والأحزاب المناوئة لحزب الوفد لرئاسة هذا الحزب لتلك الجبهة بعد طول تمنع، وهذه الجبهة هي التي عقدت مع الاحتلال البريطاني معاهدة عام ١٩٣٦، التي كانت برغم أوجه النقص انجازا كبيرا في طريق الاستقلال الوطني.
واستمرارا للتقليد نفسه فهذا ما جرى في الحقبة الناصرية مرتين علي الأقل، الأولى بعد نكسة الانفصال السوري عن دولة الوحدة مع مصر، من خلال ما يسمي بالمؤتمر الوطني للقوي الشعبية، والثانية من خلال المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي بعد مظاهرات الجامعات عام ١٩٦٨، والتي تمخض عنها سلسلة من الحوارات المكملة مع المثقفين والعمال. إلخ وتمخضت عن بيان ٣٠ مارس ١٩٦٩، ثم تلتها حوارات مماثلة في الحقبة الساداتية تحت وقع الأزمات الكبرى، والمؤتمر الاقتصادي الكبير في أوائل سنوات حسني مبارك، ودون تفاصيل مشتتة فإن أقل هذه التجارب حققت نجاحا وأكثرها باءت بالفشل، ولم تكن سوى إدارة للأزمة دون حلها، وكان شرط النجاح النادر هو انفتاح السلطة العليا على الثقة في بقية الأطراف، وهذا ما نأمله ونطالب به في التجربة الجديدة المنتظرة، بغض النظر عمن تسرعوا في التشاؤم، أو في التفاؤل المبالغ فيه.