لإدارة المخاطر تعريفات كثيرة وتطبيقات متعددة شهدت تطورًا عبر الزمن بسبب الإحساس البشري بعدم الأمان من جراء غموض المستقبل حيث لا يعلم أحدٌ ما الذي يمكن أن يقع من أحداث. وقد ارتبط فهم البشرية لإدارة المخاطر بأعمال تبادل البضائع منذ أن عرف إنسان ما قبل الميلاد التجارة في مفهومها البسيط، فكان التجار يلجئون إلى توزيع تجارتهم في قوافل متعددة تسير في طرق مختلفة صوب مُلتَقىً واحد تلافيًا لمخاطر الإغارة عليها وتخفيضًا لخسائر فقدها جميعًا. على مَر العصور، كان الإنسان يدير مخاطره المتعلقة بغموض المستقبل دون أن يكون لديه “منهج” صارم بأدوات خاصة يلتزم خطواته بصورة علمية للتعرف على تلك المخاطر وتقييمها وتلافي آثارها لإرتباط ذلك ببدائيةِ الأنماط الاقتصادية ووسائل وعلاقات الإنتاج في واقع غير معقد بالدرجة التي يحتاج معها إلى منهج علمي “مُستقلٍ” في أدواته لفهم ذلك الواقع البسيط وبحث ظواهره والتعرف على تناقضاته الكامنة بغرض إدارة مخاطره والتعامل معها.

كان إنسانُ الأنماط الاقتصادية البدائية يتعرف على الظواهر ويدرسها ومن ثم يدير مخاطره المتعلقة بها بمفهومٍ أقرب “لإدارة الأزمات” منه “لإدارة المخاطر”، فإدارة الأزمات تعنى التخطيط للتعامل مع الأزمة عند وقوعها باعتبار أن الأزمة هي حدث استثنائي غير متكرر بشكل نمطي. وقد ساهمت الفلسفة منذ نشأة المدينة اليونانية بدورٍ أساسي في بحث الظواهر وإدراك علاقاتها على نحوٍ ما، ولعل ارتباط الفلسفة بالرياضيات في العصور القديمة هو تأكيد لأهمية الدور التي لعبته في هذا الشأن (طاليس وفيثاغورث مثالًا). يقول “برتراند راسل” في مقدمة مُؤَلَفِهِ الضخم بأجزائه الثلاثة “تاريخ الفلسفة الغربية”- الطبعة العربية الصادرة في 2012 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب: “أحب أن أفهم الفلسفة علي أنها وسطٌ بين اللاهوت والعِلم، فهي تشبه اللاهوت في كونها مؤلَفَةٌ من تأملاتٍ في موضوعات لم نبلغ فيها بعدُ علم اليقين، لكنها كذلك تشبه العِلم في أنها تخاطب العقل البشري أكثر مما تستند إلى الإرغام، سواء كان ذلك الإرغام صادرًا عن قوة التقاليد أو قوة الوحى، والعِلم -فيما أرى- يختص بالعِلم اليقين، أما اللاهوت فاعتماده على صلابة الإيمان ومجاله هو الجوانب التي تجاوز حدود المعرفة اليقينية. على أنك واجد بين اللاهوت والعلم “منطقة حرة” حلالًا للطرفين جميعًا، فهي معرضة لهجمات الفريقين معًا، وهذه المنطقة الحرة هي الفلسفة.”

لما تغير الواقع وتطورت الأنماط الاقتصادية فيه ومن ثَم وسائل وعلاقات الإنتاج المرتبطة بها، اتضحت التناقضات بشكل أكثر جلاءً ما اقتضى ضرورة تحليل هذا الواقع وفهم تناقضاته وتفكيكها من خلال منهج علمي مستقل في أدواته مُنفَتِح في عموم مقاصده لأجل التنبؤ بالمخاطر بنوعيها: النمطية القابلة للتكرار بشكل يومي وربما لحظي وغير النمطية أي غير المتكررة بشكل منتظم للتنبوء بها قبل وقوعها والتعامل معها بتخفيف آثرها عندما تقع. إلا أنه جرى إغفال تدريجي لدور الفلسفة في تفسير الظواهر ارتبط بتطور الأنماط الاقتصادية من النمط الزراعي (عمل الإنسان في الأرض) إلى النمط الإنتاجي (عمل الإنسان لإنتاج أدوات تنتج سلعًا) ثم إلى النمط الإنتاجي المُرَكب (عمل الإنسان لإنتاج أدوات تنتج سلعًا كنشاط أساسي إلي جوار عمله في تدوير المال لينتج مزيدًا من المال كنشاط ثانوي) إلى النمط الإنتاجي الرَث (عمل الإنسان لتدوير المال لأجل أن يلد مالًا بالإضافة إلى عمله في استخراج الثروات الطبيعية كنشاطين أساسيين إلى جوار عمله لإنتاج أدوات تنتج سلعًا كنشاط ثانوي) حيث لم يَعُد للفلسفة -تقريبًا- أي دور في تفسير الظواهر وفهم الواقع وتفكيك التناقضات ليحل محلها علم إدارة المخاطر الذي لم يتم تفعيله وتطويره بشكل يتناسب مع متغيرات الواقع فلم يتمكن من إيجاد حلول كانت الفلسفة توفرها.

فلنُلقِ نظرة إلى الوراء قليلًا، مع نشأة نشاط التأمين، ظهرت الحاجة لاستخدام منهج لإدارة المخاطر ارتبط بنظرية الاحتمالات بالأخص فيما يتعلق بأعمال التأمين على الحياة، ثم ازداد الاهتمام بإدارة المخاطر مع تعقد أنماط التبادل وتعدد أساليب إدارة الأموال للإنفاق علي التجارة بين المجتمعات المتباعدة جغرافيًا ليمتد إلى أعمال البنوك. تمر الأعوام سريعا، ليبدأ العالم بعد اتفاق بريتون وودز -الذي حدد الملامح الاقتصادية والمالية لعصر ما بعد الحرب الكونية الثانية- في التعامل مع إدارة المخاطر كعِلمٍ مُستقل الأدوات له متخصصون في البحث والأداء فظهرت اجتهادات بحثية كثيرة وتراكمت خبرات عملية متنوعة كانت -في الأغلب الأعم مع شديد الأسف- ناتجة عن التعامل مع أحداث تاريخية من الماضي لا يمكن بناءً عليها التنبؤ بأحداث مستقبلية في عالمٍ جديدٍ مليء بالتناقضات تتبدل ملامحه كل دقيقة بل كل ثانية.

حدث إذن نوعٌ من الانقطاع حَالَ دون تأسيسٍ لتركيبٍ علمي جديد يتم بموجبه استخدام أدوات فهم الواقع وتفكيك تناقضاته وفقًا لطروحات فلاسفة عظام مثل هيجل وماركس من ناحية وإدارة المخاطر من ناحية أخرى كعلمٍ نشأ في كنف الليبرالية التي احتجزت استخدامه في الجانب البائس من النمط الإنتاجي الرَث (المال الذي يلدً مالًا دون قيمة مضافة حقيقية) فَلَوَثته بِقَصدٍ وأعاقت تطوره الموضوعي لتحتجزه في مجردِ ترتيب بيانات في دوالٍ ومنحنيات تعتمد على معلومات تاريخية عفى عليها الزمن* بالإضافة إلى وضع مجموعة من الإجراءات تشبه في طبيعتها إجراءات المراجعة والرقابة الداخلية يقوم بها موظف أو مجموعة من الموظفين متوسطي الاطلاع والثقافة يُختارون بعناية فائقة وكأن محدودية رؤيتهم وضيق أفُقِهم هما المسوغ الأساسي والمؤهل الأهم لشغل تلك الوظيفة لأجل ضمان عدم خروجهم في أداء أعمالهم عن الإطارٍ المكتبي المُحاصَر الذي تم تحديده في ضوء توصيفٍ وظيفيٍ باهتٍ وُضِعَ بشكل فَرِغ تلك المهمة (إدارة المخاطر) من روحها وهدفها الأسمى فحَوَلَها إلي مجرد مهام روتينية منزوعة الدسم بغرض ألا يعيق القائمون عليها مسيرة أرباب النمط الإنتاجي الرَث في تحقيق أهدافهم التي تأتي الأرباح السريعة العالية على رأسها دون النظر إلي اعتبارات أخرى تفرضها تناقضات الواقع المُحيط والتي من شأنها أن تزلزل أركان هذا النمط وتؤثر على استمراريته بالكلية. ولعل هذا هو ما حدث بالأزمة المالية في 2008 فأعاد تسليط الضوء على أعمال العالِم الأمريكي العظيم “هايمان مينسكي” التي تناولت هشاشة الأسواق المالية Financial Markets Fragility ونظرية اللا استقرار المالي Financial Instability Hypothesis  والوفرة غير المنطقية Irrational Exuberance  التي حين حَذَر من آثارها في سبعينات وثمانينات القرن الماضي نعتوه بالهرطقة والجنون.

واقع العالم حاليًا هو واقع شديد التعقيد ينبغي على إنسان هذا العصر فهمه والإحاطة بأبعاده على نحو علمي استخدامًا لمنهجية تمثل تركيبًا جديدًا يتم فيه تأطيرٌ بشكل مختلف لعِلم إدارة المخاطر في ضوء تطور الفلسفات عبر العصور دون انحياز توكيدي مُسبق بما يخرج تطبيقاته من ضِيقِ الأداء الروتيني المُحتَجز إلى رحابة البحث الحُر في التناقضات التي يمتلئ بها واقعنا المعاصر والتي تتبدل بوتيرة فائقة السرعة. وإنني من منبر “مصر 360” -إن أُذِنَ لي- لأدعو مُفكرينا وعلمائنا المصريين والعرب للنظر في هذا الأمر حتى يكون لنا مكان تحت شمس المستقبل.

*انظر نقد “نقولا نسيم طالب” في كتابه “البجعة السوداء” للمنحنى الجرسي (الجوسياني).