موسم الحوار السياسي الذي أعلن عنه الرئيس السيسي الخميس الماضي -21 أبريل، وطالبت به بعض القيادات السياسية عبر موقع “مصر 360” يثير في نفسي أسئلة ثمانية، قد تبدو من عناوينها أنها أسئلة فنية. ولكنها أسئلة مشروعة لمن تخصص في تصميم عمليات الحوار مثلي ودفع في سبيل إيمانه به ثلاث سنوات ونصف من عمره بالسجن؛ خاصة أن كلمة الحوار قد صارت بعد يناير وعلى مدار العقد الماضي كلمة قبيحة بحكم استخدامها -ليس لبناء التوافقات وحل جزء من صراعات السياسة. ولكن لإدارة الصراعات وتأجيج الخلافات في مفارقة تاريخية، فقد بات المصريون يعرفون ما يختلفون فيه ولا يملكون السبل ولا الأدوات لحلها.

أسئلة ثمانية يجب الإجابة عليها قبل الشروع في أي عملية حوار:

أولًا: لماذا الحوار الآن؟

واضح أن السبب الرئيسي للتفكير في الحوار الآن (وأرجو ألا يكون للخارج فيه دور) هو تعاظم تداعيات المشكلات الاقتصادية والتي كشفت عن عمقها أزمة أوكرانيا. لكن وطأة هذه الأزمة التي يستشعرها قطاع عريض من المصريين تجري في ظل بيئة دولية وإقليمية شديدة التقلب وتتسم بعدم اليقين الاستراتيجي. وقد سبق وناقشت ذلك عبر صفحات هذا الموقع.

ومما طالبت به ضرورة بناء قدرات الدولة المصرية على المرونة الاستراتيجية. ذلك بما يضمن الاستجابة للتحديات التي لا يمكن توقعها أو التنبؤ بها. فقد واجهتنا على مدار السنتين الماضيتين أزمتين عالميتين (كورونا وأوكرانيا). ذلك بالإضافة إلى أزمة سد النهضة. وعادة ما تتفاعل أو تتناغم هذه الأزمات مع بعضها البعض بما يضاعف من التحديات ويزيدها تعقيدًا.

إدراك السياق مسألة هامة لأية عملية حوار. لأنه يحدد هدف كل طرف من مشاركته فيه وتوقعه لنتائجه، ولكن دخول الحوار دون ممارسة أية عملية نقد ذاتي للسياسات التي فاقمت من تداعيات هذا السياق سيحول الحوار إلى حملة علاقات عامة؛ قد تحسن الصورة لكنها لن تغير الواقع.

وهنا، أشير إلى مثالين: الأول أنه جرى الإعلان عن الحوار السياسي للجمهورية الجديدة ممتزجًا بخطاب يلقي بالتبعة عن الأزمة الاقتصادية على العوامل الخارجية والزيادة السكانية وثورة يناير، دون التفات للسياسات المطبقة وأولويات الإنفاق التي جرت في جزء منها، بعيدًا عن تطلعات المواطنين.

أما المثال الثاني، فإن رموز التيار “المدني” الذين كتبوا لموقع “مصر 360” أو أجريت حوارات معهم لم يشيروا من قريب أو بعيد لدورهم كجسر لاستعادة النظام السلطوي مرة أخرى بعد يونيو 2013. وقد ألقوا بالمسؤولية كاملة على جماعة الإخوان -وهي تتحمل بالفعل مسؤولية كبيرة عن إخفاق مسار يناير- لكن ذلك لا يبرؤهم. كما تبنوا الخطاب الرسمي لمكافحة الإرهاب دون ممارسة عملية مراجعة له أو نقد لبعض جوانبه. ذلك في وقت ألقي فيه القبض على بعض كوادرهم تذرعًا بهذا الخطاب، وصدرت بحقهم أحكام وفقًا له.

ثانيًا: من سيقوم على الحوار؟

التحضير للعملية الحوارية هي أهم مراحل الحوار. لأنها تتطلب عملية تشاور متسعة مع أطراف عديدة تتباين مشاربها وتوجهاتها وأهدافها من المشاركة. ذلك بالإضافة لاختلاف تقديرها للواقع والبيئة التي يجري فيها الحوار.

من هنا، تأتي أهمية تهيئة هذه الأطراف للدخول في العملية. وبمقدار ما يبذل جهد في هذه الخطوة بمقدار ما نستطيع الاستمرار في العملية. ومن ثم إمكانية الوصول لنتائج يرضى عنها المشاركون ويدعمونها.

المشكل في مصر أمران: 1- غياب مؤسسة ذات مصداقية وثقة تستطيع أن تلعب هذا الدور بين الأطراف المختلفة؛ كما جرى في تونس 2014.

2- أن تقاليد مؤسسات الدولة المصرية ضعيفة في مسألة إدارة الحوار؛ فهي لا ترى في السياسة تدافع بين قوى متعددة لتحقيق الصالح العام وخدمة المواطنين. كما لا ترى في المجتمع قوة جديرة بالحوار معها؛ لأن الدولة يجب أن تقرر وعلى الجميع أن يلتزم، كما عادة ما يسود المنظور الأمني.

ثالثًا: ما هدف الحوار؟

الاتفاق على هدف مشترك أولى خطوات الحوار. فهو يتضمن القيم المشتركة بين المتحاورين وتصوراتهم للمستقبل.

ما يكاد يجمع عليه المصريون -مؤسسات دولة ومجتمع، حكومة ومعارضة- هو ضرورة الحفاظ على كيان الدولة المصرية. لكن ذلك -وهنا يبدأ الخلاف- لا يتحقق إلا بتجديد العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه، وإصلاح هياكلها ومؤسساتها عبر بناء نظام تشاركي تعددي يضمن مشاركة الجميع في رسم السياسات العامة، وقادر على أن يلبي الحاجات العامة للمصريين بتحسين مستوى معيشتهم، ويضمن حفظ أمنهم الانساني، وأمن الدولة القومي.

مكونات خمسة للهدف كما سبق وصغته:

1- الحفاظ علي كيان الدولة المصرية، عبر 2- إصلاح هياكلها ومؤسساتها، من خلال 3- عقد اجتماعي جديد، وشرطه 4- بناء نظام سياسي تعدد تشاركي، 5- قادر علي أن يحسن حياة المصريين ويتعامل مع تحديات الأمن القومي الحالية والمستقبلية.

رابعًا: ما نوعية إجراءات بناء الثقة المطلوبة؟

إجراءات بناء الثقة متعددة المستويات ومتبادلة بين الأطراف جميعًا. لكن في حالتنا هذه فإن مؤسسات الدولة تضطلع بالعبء الأكبر فيها. ويجب أن تبادر بتهيئة الأجواء الإيجابية لبدء الحوار. وتكاد تجمع القوي السياسية على ضرورة إطلاق سراح المعتقلين والمحبوسين احتياطًا من سجناء الرأي. خاصة أن ما جرى من تعامل مع استراتيجية حقوق الانسان لايزال حاضرًا في الأذهان، وأنه بدون هذه الاستجابة سيتحول الحوار إلى عملية احتفالية لن تساعد النظام على مواجهة التحديات العظام التي فرضها السياق، وسيفقد المشاركون مصداقيتهم وسيبدون كمن يوظف في لعبة لا جدوى منها.

وأتصور أن جزءًا من بناء الثقة -أيضًا- هو قدرة المشاركين من غير أجهزة الدولة علي تفهم كيف تفكر الدولة في التحديات التي تواجهها ومنهج النظر الذي يتعاملون به فيها. وهذا يتطلب شرحًا وتفهيمًا ليكون الجميع على أرضية مشتركة.

خامسًا: أفق الحوار السياسي؟

هل يمكن أن يكون أفق المصالحة الوطنية الشاملة كما نص دستور 2014 في مادته 241. فالمصالحة الوطنية استحقاق دستوري تأخر كثيرًا، أم سيقتصر على معالجة التحديات الملحة برغم أن جوهر معالجتها يكمن في تغيير طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع بما يضمن مزيدًا من المشاركة في رسم السياسات ومراقبة تنفيذها.

يمكن البدء بالملح والعاجل، لكن معالجة جذوره تتطلب أفقًا ممتدًا.

سادسًا: ما هي أجندة الحوار؟

وهي يمكن أن تكون متسعة، ولكن في نفس الوقت يمكن معالجتها علي مراحل، وهي يجب أن تبدأ من تطلعات المصريين وخاصة الفئات الشابة منها وأولوياتها التي يأتي في مقدمتها الضغوط المعيشية الشديدة. ولكن هل يمكن معالجة جذور الأزمة الاقتصادية الطاحنة دون توفر الشروط السياسية لها. وهي: ضرورة فتح المجال السياسي التعددي الحر؛ والذي من مكوناته: قضاء مستقل، وإعلام حر، وحرية تداول المعلومات. بالإضافة إلى موقع القطاع الخاص والمؤسسة العسكرية في الصيغة الاقتصادية التي نريد تطبيقها.

تطول أجندة الحوار وتمتد لكن البدء والنجاح فيه قد يغري بالاستمرار.

سابعًا: من هم المشاركون؟

هنا، يجب ألا يتم إقصاء أحد؛ فشمول العملية يعني نجاحها. المشكلة في مصر الآن باتت مشكلة تمثيل، فلا يمكن أن تطمأن أن المؤسسات القائمة قادرة على أن تمثل مصالح أعضائها، وهي مشكلة نتجت عن إغلاق المجال السياسي وأمننته، ولا أدرى كيف يمكن حل هذه المعضلة. ففي غياب التمثيل تتآكل شرعية العملية الحوارية ولا يمكن الوثوق في نتائجها.

يمكن التغلب على ضعف تمثيل المؤسسات بالحرص على مشاركة من بخارجها ممن يملكون رؤي مغايرة للسائد. وهنا يحسن عدم الانخداع بالأصوات التي تم تضخيمها فيما مضي لأسباب مفهومة.

ثامنًا: ماذا سنفعل بالنتائج؟ ما آليات المتابعة؟

تنفيذ ما تم الاتفاق علية ومعالجة المعوقين -من مؤسسات وأفراد- هي في قلب عملية الحوار بل وجزء منه، فمنذ الإعلان عنه وهناك من يتربص به ويسعي لإفشاله قبل البدء وفي أثنائه وبعده، لذا فإن صيانة العملية الحوارية مسألة هامة ويجب أن تستمر.

قد يتثاقل على البعض كلامي ويعتبره سفسطة فارغة لا معني لها، ولكن ما نواجهه -مجتمعا ودولة- غير مسبوق وتداعياته لن تكون مثل ما جرى في يناير التي كان عمادها قوى وسطى متعلمة وقوى سياسية يمكن التفاوض والتفاهم معها؛ فالاضطرابات -التي تتوقعها عديد مراكز الفكر- هذه المرة ستأكل الأخضر واليابس.

لطيفة: كاتب هذه السطور آمن بالحوار فلبث في السجن بضع سنين -على حد قول مدى مصر– وأرفق مع هذا المقال وبمناسبة موسم الحديث عن الحوار السياسي نص الوثيقة التي شاركت فيها واتفقت عليها بعض القوى والرموز السياسية في مصر في 2015 -قبيل الانتخابات البرلمانية- والتي أتصور أنه لو كنا آمنا بالحوار وشرعنا فيه من وقتها لكنا قد تجنبنا كثيرًا مما نحن فيه الآن، ولكن كما يقال فإن لو تفتح عمل الشيطان لو توقفنا عندها ولم نشرع فيما بعدها.