مع مطالع النهضة المعاصرة كانت الحركة الدينية التجديدية مع الأستاذ الإمام “محمد عبده” (1849- 1905م)، وقد رأى -رحمه الله- أن التجديد يجب أن يبدأ من الأصل المباشر الذي أخذ منه الصحابة، أي القرآن الكريم وصحيح السُّنة، وهما الأصلان الذي فهم منهما الصحابة؛ انطلاقًا من فرضية ترى أن الفهم مسألة عصرية ظرفية ترتبط بواقعها الاجتماعي والسياسي، ومن الخطأ بل من المحال نقل واقع تاريخي إلى واقع آخر يختلف عنه كل الاختلاف.

كما أن “محمد عبده” قد أعلى في الوقت نفسه من قيمة العقل باعتباره أداة التفكير، وأكّد على ضرورة إعادة قراءة الإسلام وفهمه وفقًا لروح العصر. وهو ما أعطى دعوته برمتها طابعًا اجتماعيًّا، تأكّد ذلك تعليميًا وتربويًّا وقضائيًّا وأدبيًّا، ولا غرو أن يكون “محمد عبده” بعد ذلك أحد أقطاب الثورة العرابية.  والمؤسف أن هذه الحركة لم يتح لها أن تتحول إلى تيار مؤسسيّ عام، فظلت مجرد دعوى تجد صداها عند هذا المفكر أو ذاك، وهو -غالبًا- لا ينال رضا المؤسسة الدينية التي تعتبر ذلك خروجًا عن وسطيتها واعتدالها!!

السلفية الحالية

تعدّ الموجة السلفية التي بدأت في السبعينيات من القرن الماضي، هي الموجة الأكثر انغلاقًا وجمودًا والأكثر رفضًا لكل أصوات التجديد التي سبقتها من داخل السلفية ذاتها، كما أنها -في الوقت نفسه- الأكثر جماهيرية. فقد استفادت من وسائل الاتصال الحديثة وخاطبت جمهورًا أوسع، وتبنَّت خطابًا دينيًّا عاطفيًّا يُقدّم الماضي باعتباره نموذجًا يجب علينا محاكاته واتباعه للخروج من يأس الحاضر وبؤسه، واعتمدت في ترسيخ هذا الخطاب العاطفي على مجموعة من الشعارات لا ينفك السلفيون يروجون لها قديمًا وحديثا، فهم:

(“جيل الصحوة”، و”حرَّاس العقيدة”، و”أهل السنة والجماعة”، و”الفرقة الناجية”، و”إصلاح الحياة يبدأ بإصلاح العقيدة”، و”لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”…إلخ.)

فتبعهم الناس دون وعي بالتناقضات المضمرة التي ينطوي عليها خطاب هذه الموجة، وكان من جناية غلبة الشعار على التفكير المنطقي أن احتكرت “السلفية” الدين لنفسها، وطابقت بين تدينها والدين نفسه، فلم تقدم منهجًا أو فكرة يمكن الخلاف حولها أو معها، كما أنها لم تتقبل – بطبيعة الحال- وجود أفكار أخرى يمكن أن تعيش بجوارها، لقد غاب هذا كله؛ فغلب التعصب على جمهور السلفيين.

ولأن الدين ليس شعارًا، وليس تقليدًا أيضا؛ فقد استغرق الجانبُ الشعائري من الدين حياة السلفيين؛ فانشغلوا إلى حد الإفراط في قضايا شكلية، كاللحية وتقصير الثياب وحجاب المرأة ونقابها…الخ.

ولا يمكننا قراءة هذه الموجة بعيدًا عن مؤثرين:

الأول: اتصالها المباشر بسلفيي السعودية خاصة وشيوخ الخليج عامة، فمن الصعب أن تجد شيخًا من أعلام السلفيين المصريين لم يتصل مباشرة بشيوخ السلفية الوهابية، بل ومن الصعب أن تجد سلفيًا مصريا لا يمتدح هؤلاء الشيوخ ويثني على فكرهم ويُعظِّم رؤاهم.

الثاني: استثمارها لوسائل الاتصال بكل أشكاله؛ بداية من شرائط الكاسيت في التسعينيات والمجلات والصحف والفضائيات وحتى وسائل التواصل الاجتماعي الآن.

ومن نتائج اتصال هذه الموجة بسلفيي الوهابية أنهم أضافوا إلى قائمة المشايخ قائمة أخرى، وإلى طبقات التقليد طبقات أخرى؛ فتمثلوا واقعًا صحراويا، وجلبوا قضاياه إلى النهر وفرضوها عليه فرضًا، وهي قضايا تركِّز– غالبًا- على شكل الإسلام دون جوهره، وتبدد طاقات المجتمع فيما لا يعود عليه بالنفع، مثل النقاش حول الفن وقائمة التحريم التي طالت التمثيل والتصوير والنحت، والجدل حول شرعية ملابس لاعبي كرة القدم، والكلام المستمر حول ملابس المرأة، وعملها وتهنئة الأقباط … الخ.

كل هذا الجدال الشكلي الذي طال كل تفاصيل الحياة اليومية يقابله تجاهل تام لمشكلات المجتمع السياسية والاقتصادية، وتراجع دوره علميا وحضاريا على نحو غير مسبوق.

ومن المهم أن نؤكد هنا أن فكرة الواقع لا تشغل بال السلفيين كثيرًا، وخصوصًا مع مشايخ هذه الموجة؛ فهم يعتقدون أن دعوتهم دعوة غير تاريخية، وأن النصوص التي يحيلون عليها تتجاوز التاريخ والاجتماع معًا، كما أن استثمار هذه الموجة لوسائل الاتصال جعلها الأكثر انتشارًا وتأثيرًا، بل والأكثر قدرة على التأثير السلبي على أنماط العلاقات الاجتماعية؛ فتوترت العلاقة بين الجنسين: الرجل والأنثى، وبين أصحاب الملتين: الإسلام والمسيحية، والشاب السلفي (الذي سيلقب بالملتزم) بصديقه الذي يتحفظ على السلفية، بل طال التوتر علاقة هذا الشاب السلفي بأفراد أسرته أنفسهم ..الخ.

ولا يمكننا فهم هذا كله بعيدا عن التأثير الوهابي الذي توسَّع في مفهوم البدعة، فاعتبر جلّ تغير طبيعي في حياة الناس نوعًا من “البدع”، التي تضرّ بعقيدة التوحيد. وإذا كان الوهابيون يناصبون الصوفية العداء، فقد جاراهم السلفيون المصريون في ذلك، فهم يعتبرون أن أضرحة الصوفية شرك صريح ووثنية جديدة، يجب هدمها والتخلص منها، ولعلّ هذا الطابع العنيف للدعوة الوهابية جعل رجلا مثل “محمد أبو زهرة” يقارن بينهم وبين الخوارج القدامى، حيث يقول: “وهم في هذا يقاربون الخوارج الذين كانوا يكفرون مخالفيهم ويقاتلونهم… ولقد كان ذلك لا ضرر منه أيام كانوا قابعين في الصحراء لا يتجاوزونها، ولكن وقد اختلطوا بغيرهم لما آل الأمر في البلاد الحجازية إلى آل سعود فإن الأمر يكون خطيرا”. (محمد أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية، الهيئة العامة للكتاب 2013م، ص221).

اقرأ أيضًا: سلفيو الإسكندرية وأقباطها.. كيف تنتج خطاب كراهية وتنتظر تعايشًا سلميًا؟

لقد خرجت السلفية الوهابية من الجزيرة، وأثرّت في محيطها أعظم تأثير، وأخذت السلفية المصرية على عاتقها محاربة ما رأته خروجًا على عقيدة التوحيد، الذي هو السبيل إلى إقامة دولة الإسلام القوية، ودحر الصهيونية العالمية، وأهم سبل تحقيق ذلك هدم أضرحة الصوفية، يتساءل “محمد حسين يعقوب” مستنكرًا: ” كيف تنتصر أمة بها أكثر من مائة وخمسين ألف قبر يعبد من دون الله”؟!

وبصرف النظر عن الجدل الفقهي الذي قد يقودنا إليه هذا الكلام، فالإشكال لا يرجع إليه فحسب، وإنما يرجع إلى التركيز عليه طول الوقت واستهلاك الطاقة فيما لا طائل منه.. لقد كما أنه قد رسّخ في الأذهان بساطة الحل وسهولته؛ ونحن دولة لم يحتلنا الغرب الاستعماري ولم تنتصر علينا إسرائيل بسبب ضعف عقيدتنا، ولكن بسبب تخلفنا الحضاري، وعجزنا عن الالتحاق بركب العلم والأخذ بأسبابه ـ

ولأن الحركة السلفية بكل تياراتها تقوم على التقليد والاتباع، وتقلل من شأن العقل، فقد تضاءل فيها دور النقد، واطمأن جمهورها- تاريخيا- إلى مشايخهم الذين اطمأنوا بدورهم، إلى ماضيهم. وهكذا وجدنا السلفية خطًا ممتدًا للخلف، يأنس بالماضي بقدر وجله من المستقبل، ويتوسع في معنى البدعة التي هي الضلالة نفسها، إلى درجة أنهم توهموا، فيما يقول أبو زهرة: “أمورا لا صلة لها بالعبادات بدعًا، مع أن البدع على التحقيق هي الأمور التي يفعلها العباد على أنها من العبادات، ويتقربون بها إلى الله، ولم يجئ بها أصل ديني”.

*

لم تستطع النسخة السلفية المصرية أن تبرم اتفاقا مع الدولة على غرار الاتفاق الذي أبرمه “محمد بن عبد الوهاب” (1703 – 1792م) مع محمد بن سعود (ت1765م) الذي مكّن الوهابية من إنفاذ ما آمنت به ومحاربة من خالفهم فيه، لم تجد السلفية المصرية هذا من الدولة المصرية، فاتخذت سبيلا تربويا أعادت فيه– على امتداد عقود- تشكيل العقل المصري وإحداث تغيير كبير في شكل العلاقات الاجتماعية؛ فلا يخطئ متابع فضلًا عن الباحث الطابعَ الدعويّ التربوي لمشايخ السلفية المصرية، هذا الطابع الذي ينفتح على كل طبقات المجتمع وكل فئاته، ولا يقتصر على السلفيين وحدهم، وكان لهذا أثره الكبير في تركيزهم على قيمة الشيخ وأهمية دوره، بالإضافة إلى التركيز على منهج الدعوة نفسه، ووضعه في نقاط سهلة يمكنها أن تنقل الإنسان من خانة الإنسان العادي إلى خانة السلفي الملتزم في يوم أو بضع يوم.

السلفية والصوفية..!

ومن المفارقات المدهشة التي يجدها المتابع لمشايخ السلفية، في موجتها الأخيرة، هو تماهيهم – في الجانب التربوي خاصة- مع المرتكزات التربوية الصوفية، والصوفية في نظر التيار السلفي أهل بدع وضلال؛ فالسلفيون كما المتصوفة يعلون من قدر الشيخ/ المربي ومن ضرورة  امتثال طالب العلم له، فنجدهم يرددون تقريبًا كلمات المتصوفة من حيث ضرورة وجود فكرة المربي، الذي يقترح على السالك (لاحظ أن هذه الكلمة من مصطلحات التصوف الأصيلة)، ويلزمه أحيانا بما يخالف هواه.( محمد حسين يعقوب: أصول الوصول إلى الله تعالى ط (2) 2005م بدون إيداع أو دار نشر.) والشيخ السلفي الوهابي “ابن عثيمين” يوصي تلميذه المصري “محمد حسان”، ويصفه الأخير وصيته بـأنها  “وصية عالم رباني مربي”.

وفي محاضراتهم وعظاتهم يؤكدون على مبدأ “التخلي والتحلي” الأخلاقي؛ فالهدف هو إرضاء الله، ولا يجب أن نتعلق بغيره، ويجب على السالك أن يعيش لهذا الهدف، والاستعداد الجاد والمراقبة المستمرة، فعلى سبيل المثال يقول الشيخ “يعقوب” في إحدى خطبه التي جعل عنوانها “يا ليت قومي يعلمون”:” إنَّ أول ما ينبغي عليك تعلمه فقه السير إلى الله، فتعرف السبيل الموصلة إليه جل وعلا كي تمضي فيها، ومن المعلوم أنَّ كل سبيل لا يخلو من عوائق، وكل طريق لابد له من نهاية، ودائمًا تكون الأهداف هي الباعث المحفز للجدية في السير، فعُلِم من هذا أنَّ مبادئ هذا العلم ثلاثة: معرفة السبيل، معرفة العوائق التي فيه، تعلق القلب بالمقصود”. وهذا كلام لو وضع على لسان رجل كأبي حامد الغزالي فلن يستغربه المتلقي.

إنَّ غياب العقل الناقد والإيمان بالتقليد جعل السلفيين يتماهون مع المتصوفة الذين يعتبرونهم فئة مشركة أو ضالة، دون أن يدركوا التناقض في خطابهم، والمدهش أنك إن دققت النظر وجدت بين التيارين أكثر من وجه للتشابه؛ فالمتصوفة يفرون من الحاضر والمستقبل إلى الله، والسلفية تفرّ من الحاضر والمستقبل إلى الماضي. المتصوفة لا يرون قيمة للحاضر أو المستقبل، والسلفيون لا يرتاحون حتى يروا الحاضر صورة للماضي.. ولأن تشكيل الحاضر على غرار الماضي محض وهْم، فقد استغرق التياران في الشكل؛ المتصوفة بزهدهم في المأكل والملبس ومنجزات العصر، والسلفيون باستغراقهم في الشكل القديم من لحية وجلباب قصير، وإن أكلوا واستمتعوا بمنجزات العصر الذي يرونه ضالا مارقًا.

ولا عجب بعد ذلك أن يغيب المشروع الحضاريّ عند كلا التيارين المتنابذين؛ فكلاهما في أصل الفكرة يغيب عن الواقع وما يقتضيه ذلك من شدة في مناجزته والارتقاء به، ولا يبقى له من الدين غير الإغراق في الشكل الذي قد يرضيه عاطفيًا ويقنعه بخلاصه الفردي.

*

لقد وجدت السلفية في نهاية السبعينيات لحظتها التاريخية المثالية، من مجتمع متخبط مضطرب، ومن نظام حكم استغل هذه الموجة في التمكين لنفسه ودحر معارضيه، فغض الطرف عن نشاطهم الدعوي، فتمكن السلفيون من التأثير في كل شرائح المجتمع، فتغير تقريبًا وجه الحياة في مصر، وصار العقل الجمعي مهزومًا أمام حاضره فضلا عن مستقبله، وهذا يعني أن السلفية لم تعد مجرد تيار ديني فحسب، بل صارت أسلوب حياة، ورؤية منغلقة، يستدعي فيها الجميع الماضي إما للتغني بمنجزه، أو لاجترار صراعاته وإحنه. فبدا الأمر وكأنّ مصر بكل تياراتها واتجاهاتها خارج التاريخ.