ما من شك في أن الرؤية الاقتصادية القاصرة، التي تنظر إلى الطبيعة والأرض والغلاف الجوي والمحيطات باعتبارها رأس مال يمكن تقديره بالدولار، قد ساهمت بدور كبير في تقاعس كثير من دول العالم وتأخر استجابتها لمواجهة تغير المناخ. تفرض علينا أزمة المناخ أن نعمل اليوم لتفادي ما يمكن أن يحدث في المستقبل، الأمر الذي يعني أننا لابد وأن نكون على ثقة في النماذج الرياضية التي تتنبأ بالمناخ في المستقبل، لكن الحقيقة التي أدت إلى اختلاف وجهات النظر، هي أن هذه النماذج ليست متكافئة ولا تؤدي إلى نفس النتائج.

تنطلق النماذج الفيزيائية التي طورها سيكورو مانابي وكلاوس هاسلمان -الحائزين على جائزة نوبل في الفيزياء العام الماضي- من الطبيعة بمكوناتها الأساسية، المادة والطاقة، الأرض والغلاف الجوي والمحيطات، المصادر الأساسية لإنتاج الثروة الحقيقية، وتطورت هذه النماذج في السنوات الأخيرة لدرجة أن معالجة البيانات تستغرق شهورا على أسرع أجهزة الكومبيوتر في العالم. وتنبأت النماذج الفيزيائية بدقة بالاحترار العالمي وتغيرات المناخ الأخرى التي شهدناها خلال العقود الأخيرة، وتتوقع أنه إذا ارتفعت درجات الحرارة العالمية بأكثر من 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة- وهي العتبة التي يمكن أن نصل إليها في غضون العقد المقبل- فسوف تعاني الأرض من تحولات مدمرة ولا رجعة فيها.

قارن بين التوقعات الفيزيائية، التي تبدو قاتمة، مع تنبؤات النماذج الاقتصادية، والتي فاز بسببها الاقتصادي الأمريكي ويليام نوردهاوس من جامعة ييل الأمريكية بجائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2018. تنطلق هذه النماذج من الثروة الافتراضية، من التقدير المالي- أو النقدي- للظواهر الطبيعة والاجتماعية، وتسعى إلى وضع سعر “مناسب” لكل شيء في الطبيعة من الكربون إلى الأرض والمياه والهواء والغلاف الجوي. قدم نوردهاوس أول نموذج اقتصادي للمناخ وهو نموذج “دايس” أو “النرد” (DICE) قبل سنوات، وهو نموذج حسابي بسيط بما يكفي لتشغيل إصدار منه على برنامج إكسيل.

تقوم فكرة النماذج الاقتصادية على أن السياسة المثلى هي تلك السياسة التي توازن -بشكل أفضل- بين الأضرار الاقتصادية للاحتباس الحراري وبين تكاليف العمل المناخي، ويقول نوردهاوس: “أنه يمكننا العمل بشأن المناخ الآن، “لكن إذا تصرفنا بسرعة أو بقوة مفرطة فسوف نضر بالاقتصاد”. نقطة البداية هي الاقتصاد، الاقتصاد الرمزي، والهدف أيضا هو الاقتصاد، الأرقام المجردة، بعيدا عن الطبيعة المادية للثروة والعمل والمعاناة البشرية. وتتوافق توقعات نموذج “دايس” مع ارتفاع درجة الحرارة بمقدار ثلاث درجات ونصف الدرجة المئوية بحلول نهاية القرن الجاري.

تدعم النماذج الاقتصادية، على غرار دايس، مفهوم التكلفة الاجتماعية للكربون، وهي تقدير للتكاليف الاقتصادية أو الأضرار الناجمة عن انبعاث كل طن إضافي من ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي مقدرة بالدولار، وبالتالي، هي تقدير أيضا  لفوائد تقليل الانبعاثات بمقدار طن واحد من ثاني أكسيد الكربون. التكلفة الاجتماعية المرتفعة للكربون تعني أن الأولوية يجب أن تكون للاستثمار في العمل المناخي، في حين تعني التكلفة المنخفضة تأجيل العمل المناخي والإستمرار في النمو.

لكن النماذج الاقتصادية المختلفة تعطي تقديرات مختلفة جدا للتكلفة الاجتماعية للكربون، وتتراوح التقديرات بين 20-220 دولار للطن. التقدير الحالي في الولايات المتحدة الأمريكية يصل إلى 51 دولار للطن، لكنها محل تدقيق ومراجعة حاليا من قبل مجموعة العمل التي شكلها الرئيس بايدن بعد وصوله إلى البيت الأبيض.

كثير من علماء الاقتصاد يرفضون فكرة التكلفة الاجتماعية للكربون من الأساس، ويشككون في قدرة النماذج الاقتصادية على إنتاج معرفة حقيقية بالمناخ وبالتالي اقتراح سياسة المناخ في المستقبل. ينتقد نيكولاس ستيرن، من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، في ورقة بحثية نشرت عام 2013 سيطرة هذه النماذج على السياسات السائدة. ويرى أن “النماذج الاقتصادية تقلل بشكل خطير من مخاطر وإلحاح أزمة المناخ”، وأن هذه النماذج تحاول القيام بمهمة لم يكن علم الاقتصاد جاهزا للقيام بها: توقع الآثار الاقتصادية للاحتباس الحراري في المستقبل البعيد عن طريق العلاقات الحالية بين درجات الحرارة والنشاط الاقتصادي، “يحاولون تطبيق الظروف الاقتصادية الحالية على اقتصاد ليس موجودا بعد”.

ستيف كين الخبير الاقتصادي الإسترالي في معهد الاستراتيجية والمرونة والأمن بالكلية الجامعية في لندن، يرى أن فكرة أن تستخدم هذه النماذج البيانات الاقتصادية الحالية لتخبرنا بشكل صحيح ودقيق عن النتائج الاقتصادية في المستقبل البعيد، في ظل هذه الظروف المناخية المنهارة، هي فكرة أكثر من ساذجة. ويفسر ذلك بقوله أنه “قبل قرن من الآن مثلا، لم يكن من الممكن تخيل وجود أجهزة كومبيوتر مثل تلك التي نستخدمها على نطاق واسع حاليا، وبالمثل، لا يمكن تصور الاقتصاد العالمي بعد قرن من الآن، وليس من المؤكد، أن عوامل تغير المناخ المختلفة التي تؤثر على الاقتصاد حاليا سيكون لها نفس التأثيرات في المستقبل”.

ويشير كين إلى أن هذه النماذج الاقتصادية تستبعد أن تتأثر قطاعات كبيرة في الاقتصاد بتغير المناخ، ففي أصدار 1991 استبعد نموذج دايس أن تتأثر قطاعات التجارة والتصنيع والتمويل والتعدين والعقارات وقطاعات أخرى، بتغير المناخ. والمبرر في نظره هو إن معظم أنشطة هذه القطاعات غالبا ما تحدث في بيئات داخلية معزولة أو يمكن التحكم فيها والسيطرة عليها، وبالتالي، يتوقع أن لا يتأثر 87% من قطاعات الاقتصاد بتغير المناخ، في حين يتوقع أن تتأثر بشدة حوالي 3% فقط من قطاعات الاقتصاد.

أحد الأخطاء الجوهرية للنماذج الاقتصادية عموما، هو أنها لا ترى في تغير المناخ سوى عامل واحد فقط هو الاحتباس الحراري، لكن تغير المناخ ينتج ما هو أكثر من الاحتباس الحراري: الكوارث المناخية والظروف المناخية المتطرفة، كموجات الحر والجفاف والفيضانات، يمكن أن تقتل الآلاف وأن تؤثر في كافة قطاعات الاقتصاد. إرتفاع مستوى سطح البحر، يمكن أن تؤثر في كل القطاعات الاقتصادية خصوصا في المدن والمناطق الساحلية.

كما أن العواصف الشديدة يمكن أن تهدد سلاسل التوريد والإمداد، حرائق الغابات يمكن أن تؤدي إلى تدمير شبكات الطاقة، وتلوث الهواء يمكن أن يقلل من كفاءة شبكات الطاقة الشمسية. كما أن الآثار غير المباشرة لتغير المناخ في دول بعيدة، يمكن أن تنتقل وتؤثر في مناطق مختلفة في العالم، وآثار الحرب الروسية الأوكرانية على إمدادات الغذاء والطاقة والمعادن في العالم واضحة للعيان.

عيب آخر جوهري في هذه النماذج، هو افتراض وجود علاقة ارتباط بسيطة بين ارتفاع درجة الحرارة والتأثير الاقتصادي لتغير المناخ. بلغة الرياضيات: يفترض النموذج أن تتخذ دالة الضرر- أو- دالة الخسائر- التي ترسم العلاقة بين درجة الحرارة والخسائر الاقتصادية- شكل منحنى تربيعي، أو معادلة من الدرجة الثانية.

لكننا نعلم من الفيزياء أن تغير المناخ لا يسلك سلوكا بسيطا، حيث يمكن أن تتفاعل عوامل تغير المناخ معا بحيث تؤدي إلى حدوث نقاط شاذة متفردة غير متوقعة، يمكن أن تتحول الأرض بعدها إلى نظام مختلف تماما.

ولا يوجد دليل على أن العلاقة بين الخسائر الاقتصادية وتغير المناخ ستظل علاقة متصلة دائما، على العكس، برهنت ورقة بحثية نشرت في العام الماضي، على أن ذوبان الجليد في القطب الشمالي أو في جرينلاند، والذي يمكن أن يحدث في غضون القرن، يمثل إحدى نقاط الشذوذ أو التفرد، التي تنهار عندها القوانين الفيزيائية، وبالتالي، تنسف من الأساس افتراض أن دالة الخسائر كدالة من الدرجة الثانية في الاحتباس الحراري.

على الرغم من اعتراف نوردهاوس بأن “دايس” والنماذج الاقتصادية عموما، لا تتضمن تكاليف أخرى مثل فقدان التنوع البيولوجي وتحمض المحيطات وارتفاع مستوى سطح البحر وتحولات دوران المحيطات والكوارث والظروف المناخية المتطرفة، بحجة أنه يصعب تقديرها، إلا أنه وبدلا من تعديل النموذج، يلجأ إلى حيلة تعسفية لا أساس لها، ويفترض دون دليل أن الخسائر الاقتصادية الناتجة عن تجاهل هذه العوامل لا تزيد على 25% من أجمالي الخسائر… ولا نعرف لماذا 25؟ لماذا ليس 5؟ أو 50 مثلا؟

تخبرنا الفيزياء بأن الكربون الذي ينبعث اليوم، سوف يبقى لقرون في الغلاف الجوي، وسيؤثر بشكل غير عادل وغير متناسب على الناس، وأن الملايين في البلدان الفقيرة سيعانون الكثير من الآلام، لكن معظم الاقتصاديين يتجاهلون احتياجات- بل حقوق-الفقراء، الذين لم يساهموا سوى بجزء صغير في أزمة المناخ، ومع ذلك، هم أكثر من يعانون من نتائجها المدمرة. بينما تعتمد النماذج الاقتصادية على حساب التكاليف والمنافع.

وفقا لليزا هاينزرلينج، أستاذ القانون بجامعة جورج تاون الأمريكية، تقوم الفرضية الأساسية في حساب التكاليف والمنافع على أنه لا توجد حقوق، بل مجرد تفضيلات وتحيزات فقط. إختيار رقم من بين عدة أرقام، أو إجابة من بين عدة إجابات قد تبدو متكافئة، لكنها ليست كذلك. في الحساب المجرد للتكاليف والمنافع، من الوارد جدا أن نفقد بوصلتنا الأخلاقية، وأن نضحي بالملايين الذين يتضررون من تغير المناخ.

هذه بعض العيوب الجوهرية في النماذج الاقتصادية، والتي قد تكون من الأهمية بحيث تمثل تهديدا حقيقيا لبقاء الحضارة الإنسانية، مع ذلك، تحظى هذه النماذج بحضور واسع في السياسة ووسائل الإعلام وتتمتع بنفس التقدير والاحترام الذي تتمتع به النماذج الفيزيائية، إن لم تكن أكثر حظوة. واعتمدت الأمم المتحدة على توقعات هذه النماذج في تحديد أهدافها المناخية واقتراح المسار الأمثل لسياسة المناخ في العالم، وخلاصة القول هي أن نماذج دايس، والنماذج الاقتصادية التي سارت على نهجه، تؤثر على سياسات المناخ أكثر بكثير مما تؤثر النماذج الفيزيائية.

المستخدم الماهر يجب أن يعرف حدود أدواته، فلا يمكن قياس ضغط الدم بترمومتر الحرارة مثلا، وأيا كان ما يخطط له الاقتصاديون، فهو لا يشبه النمذجة الفيزيائية. ولا ينبغي أن نثق في هذه “العلوم” المعيبة والمتحيزة والمليئة بالحيل والأخطاء والتقديرات التعسفية، ولا يمكن أن نقبل أن تكون النماذج الاقتصادية هي دليلنا الأساسي في الأمور الكبرى والملحة والمعقدة أخلاقيا، يجب أن تكون مبررات اتخاذ إجراءات فعالة بشأن المناخ على أسس أخلاقية، وليست اقتصادية.

“اقتصاديات المناخ خذلتنا”- كما قال الخبير الاقتصادي الأمريكي “نوح سميث” على مدونته الشخصية، مع ذلك، يبدو أن صناع السياسة وأصحاب القرار عازمون على التعامل معها كما لو كانت دقيقة وموثوقة ونهائية، وهو خطأ تجريبي ومنطقي وأخلاقي جسيم، وسوف تكون عواقبه أسوأ من الكابوس.

إن أكبر خطأ يمكن أن نرتكبه هو تسليم قيادة العمل المناخي للاقتصاديين، هل يتوجب علينا مثلا أن نحسب التكلفة الاقتصادية والاجتماعية للرق؟ في خطبة حول تجارة الرقيق في القرن الثامن عشر، قال العالم والسياسي البريطاني جوزيف بريستلي “إن السكر الرخيص لا يبرر العبودية”، بالمثل، لا ينبغي أن تستخدم تكاليف العمل المناخي، كذريعة لإلحاق الضرر بالملايين من سكان الأرض وبالأجيال التي لم تولد بعد.