ترجع الزيادة الكبيرة في أسعار الطاقة الدولية مؤخرًا إلى مكانة روسيا كمصدر عالمي رئيسي للنفط والغاز، وفرض العقوبات الغربية. مما قد يضعف أو يجعل واردات الطاقة من روسيا أكثر تكلفة. من المحتمل أن يؤثر ذلك على اقتصادات البلدان المستوردة الصافية للهيدروكربونات. وبالطبع، من المرجح أن تتفاقم أسعار الطاقة المرتفعة مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية، حيث يمثل الوقود مدخلاً زراعيًا رئيسيًا.

على الجانب الإيجابي -بالنسبة للغرب- من المرجح أن تساعد أسعار الطاقة المتزايدة على انتعاش الاقتصادات التي تعد مصدراً صافياً للنفط والغاز. وأن يتردد أصداء الانخفاض السريع في قيمة الروبل، ليصل إلى زعزعة استقرار الاقتصاد الكلي. للاقتصادات المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بروسيا، بعد فرض العقوبات الغربية، والانكماش الكبير المتوقع للاقتصاد الروسي.

في الوقت نفسه، يتسبب تناقص الإمدادات على المستوى الدولي في قيام بعض الدول المنتجة بتقييد الصادرات أو حظرها. لضمان استقرار الأسعار المحلية. يمثل هذا حاليًا أكبر عامل خطر بالنسبة لأسواق المواد الغذائية، حيث إن الانخفاض السريع الناجم عن الحظر على جانب العرض. قد يعزز بشكل كبير وتيرة الزيادات في الأسعار، ويمنع الاقتصادات المعتمدة على الاستيراد بشكل فعال. من ضمان التدفق الحيوي للإمدادات الغذائية.

نظرًا لأن الصراع في أوكرانيا لا يبدو أنه سيتراجع في أي وقت قريب. فإن آثاره المتتالية تتردد بالفعل في البلدان التي عانت أكثر من غيرها خلال الوباء. ما يثير القلق بشكل خاص هو وضع بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تواجه بالفعل أزمات موجودة مسبقًا. مثل اليمن وسوريا والسودان.

اقرأ أيضا: روسيا وأوكرانيا.. لماذا يبقى انعدام الأمن في مجال الطاقة؟

ما هي الدول التي يحتمل أن تكون أكثر تضررا؟

نظرًا لأن الانخفاض الحالي في العرض يؤثر على حصة إنتاج الحبوب العالمي المتبادلة دوليًا -ما يقرب من ربع الإنتاج العالمي- فإن البلدان التي يُرجح أن تتأثر. هي تلك التي لا يكفي إنتاجها لتغطية الطلب المحلي. من بين البلدان المعتمدة على الاستيراد، الدول منخفضة الدخل و/ أو تلك التي تعاني من اختلالات خطيرة في الاقتصاد الكلي.

يعتمد مدى تعرض البلدان للضغوط الاجتماعية والاقتصادية، الناجمة عن الحرب في أوكرانيا. على خمسة عوامل رئيسية. أولها الاعتماد المباشر على الواردات من حوض البحر الأسود. فالبلدان التي تستورد كميات كبيرة من الحبوب مباشرة من أوكرانيا وروسيا. عرضة لمواجهة ارتفاع أسعار المواد الغذائية المحلية أو نقصها. من بين هذه الدول مصر، وتركيا، ولبنان، وسوريا، وتونس، والجزائر، والمغرب، والسودان. بالفعل، بدأت بعض هذه البلدان تشهد نقصًا في الحبوب وارتفاعًا في الأسعار.

أيضا، دأبت العديد من البلدان على تخزين احتياطاتها الغذائية على مدى الأشهر الماضية لمنع الزيادة المستمرة في أسعار المواد الغذائية. قد تكون هذه البلدان قادرة على تأخير ارتداد أسعار الغذاء الدولية في أسواقها المحلية بشكل كبير. وتعتمد قدرتها على تسهيل انتقال الأسعار على حجم مخزونها بالنسبة لاستهلاكها.

من المرجح أن تشهد البلدان المستوردة الصافية للمواد الغذائية -وخاصة الحبوب- ارتفاعًا في الأسعار خلال الأشهر المقبلة. حتى لو لم تستورد مباشرة من روسيا أو أوكرانيا. من المرجح أن يمتد الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية العالمية إلى الأسعار المحلية في أوقات مختلفة.

وفقًا لدراسة حديثة حول هذا الموضوع، تؤدي زيادة أسعار الغذاء الدولية إلى زيادة الأسعار المحلية. بسرعة أكبر في البلدان منخفضة الدخل، بمتوسط ​​تأخير زمني يبلغ نصف شهر. بينما يميل الانتقال إلى مزيد من الوقت في الاقتصادات ذات الدخل المتوسط، حوالي 6 أشهر. وقد سلط بحث برنامج الأغذية العالميWFP الضوء على تعرض منطقة جنوب الصحراء الكبرى -بشكل خاص- للتعرض المرتفع خلال الأشهر المقبلة. بسبب وجود العديد من الاقتصادات التي تتميز بالاعتماد على الاستيراد ومستويات الدخل المنخفض.

هل يكفي تكديس السلع الغذائية؟

في بعض البلدان، قد يؤدي وجود احتياطات محلية لتقلب أسعار الغذاء. أو برامج دعم للمواد الغذائية، أو تدابير مؤقتة لترويض الزيادات في الأسعار. إلى تأخير أو تفادي انتقال زيادات الأسعار الدولية إلى الأسعار المحلية تمامًا. مع ذلك، قد تصبح هذه التدابير غير مستدامة إذا كانت الزيادات في الأسعار واضحة أو مطولة. وقد يؤدي خفض الدعم أو إلغائه- بسبب صعوبات الاقتصاد الكلي- إلى زيادات سريعة ومفاجئة في الأسعار المحلية. مثل هذا السيناريو مرجح في البلدان التي هي بالفعل غير مستقرة اقتصاديًا، بسبب تراكم أعباء الديون التي لا يمكن تحملها.

من المرجح أن تكون البلدان التي تواجه صعوبات في الاقتصاد الكلي. بسبب عوامل متنوعة -مثل أعباء الديون الثقيلة والعجز الشديد في الحساب الجاري وانخفاض احتياطيات النقد الأجنبي- أكثر عرضة للتداعيات السلبية التي تسببها زيادة أسعار المواد الغذائية. هذا هو الحال في البلدان ذات الدخل المتوسط ​​الأدنى. والتي عادة ما تكون أقل تعرضًا لانعدام الأمن الغذائي، مثل باكستان وسريلانكا. قد يواجهون صعوبات في تمويل التكاليف الإضافية للواردات الغذائية. أو استيراد المدخلات الزراعية، مثل الأسمدة. قد تؤدي هذه التكاليف الإضافية إلى تفاقم هشاشة الاقتصاد الكلي الحالية، مما يزيد من احتمال حدوث أزمات اقتصادية كلية محتملة.

اقرأ أيضا: عيش مرحرح.. أسئلة السيادة على الغذاء

الاقتصاد المصري تحت الضغط

تعتمد مصر -وهي أكبر مستورد للقمح في العالم- بشكل كبير على روسيا وأوكرانيا. اللتين توفران 80% من وارداتها. وتستهلك سنويا نحو 21 مليون طن قمح، منها 13 مليونا مستوردة. يشتريها المشتري من الدولة المصرية، أو الهيئة العامة للسلع التموينية، أو القطاع الخاص.

ويخفف نظام دعم المواد الغذائية -الذي يعود تاريخه إلى الأربعينيات- تأثير ارتفاع الأسعار العالمية على المواطنين. اليوم، يستفيد حوالي 70 مليون شخص من نظام البطاقة التموينية. بينما يستفيد 83 مليون من الخبز البلدي المدعوم. وتتطلب برامج الدعم كل عام حوالي 9 ملايين طن من القمح.

ظل سعر الرغيف الأساسي المدعوم ثابتًا عند 5 قروش -0.003 دولار- منذ عام 1988. وعلى الرغم من تقلص وزنه تدريجياً بمرور الوقت لتقليل كمية القمح المطلوبة. لكن، يكلف برنامج دعم المواد الغذائية الحكومة حوالي 5.5 مليار دولار ، ومن المتوقع أن يتسبب ارتفاع أسعار القمح في نفقات إضافية بقيمة 763 مليون دولار.

الشهر الماضي، أعلنت الحكومة المصرية أنها طلبت دعم صندوق النقد الدولي لتخفيف الصدمات التي تعرض لها اقتصاد البلاد منذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا. إضافة على ما يقرب من 22 مليار دولار من السعودية وقطر والإمارات. في شكل ودائع واستثمارات البنك المركزي. وبينما تعمل البلاد على التعافي الاقتصادي غير المكتمل من جائحة كوفيد 19.

يزيد تأثير الصراع في أوكرانيا من تدهور الوضع، حيث ارتفعت أسعار الطاقة والغذاء -ولا سيما الحبوب- بشكل ملحوظ. كما ارتفعت أسعار الحبوب العالمية بنسبة 27% في عام 2021. وبعد اندلاع الصراع، ارتفعت مرة أخرى بنسبة 19.7% إضافية بين فبراير/شباط، ومارس/أذار.

الخبز والاستقرار

يقول الباحث الإيطالي ألدو ليجا: في أكثر دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كثافة سكانية. يعتبر سعر الخبز أمرًا حاسمًا للحفاظ على التوازن الاجتماعي والسياسي. في مصر، يعيش ما يقرب من ثلث سكانها البالغ عددهم 103 ملايين نسمة تحت خط الفقر الرسمي. على هذه الخلفية، ظهرت مخاوف بشأن احتمال أن يؤدي تضخم أسعار الغذاء إلى تأجيج الاضطرابات الاجتماعية. تتمتع البلاد بتاريخ طويل من الاضطرابات المتعلقة بالغذاء، من أعمال شغب عام 1977 -انتفاضة الخبز- إلى أزمة الغذاء العالمية في 2007-2008. كان الشعار الرئيسي للمتظاهرين خلال انتفاضة 2011، التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك “الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية”.

يُضيف: ساعد دعم المواد الغذائية الحكومات تاريخيًا على تعزيز “شرعية حكمها في غياب مشاركة سياسية ذات مغزى”. واليوم، يخشى العديد من المحللين من أن تضخم أسعار الغذاء الحالي. وما يترتب عليه من تأثير على ميزانية الدولة. يهدد بزعزعة استقرار البلاد، بسبب الجزء الكبير للغاية من السكان. الذين سيتأثرون بشكل مباشر أو غير مباشر بارتفاع الأسعار.

اقرأ أيضا: مصير الدعم.. رفع أسعار الزيت وتأجيل معركة الخبز هل يحمي محدودي الدخل؟

إدارة تداعيات الصراع

مع بدء موسم الحصاد المحلي هذا الشهر، أكدت الحكومة المصرية أن لديها مخزونًا استراتيجيًا من القمح سيكفي حتى نوفمبر/تشرين الثاني. ووافق مجلس الوزراء على مجموعة واسعة من الإجراءات. لمعالجة الأزمة التي تلوح في الأفق. من بينها، وضع حد أقصى لسعر الخبز غير المدعوم، والذي ارتفع بنسبة 25% عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا. وضوابط مكثفة على الأسعار.

ومن أجل إدارة تداعيات الصراع، تنتهج الحكومة استراتيجية لتنويع موردي القمح. في الوقت نفسه، ورغم حالة الصراع في البحر الأسود، لم تتعطل الواردات من روسيا. وارتفعت كميتها الشهر الماضي بنسبة 24% مقارنة بشهر مارس/أذار 2021. لتبلغ 479195 طنا. بالمقابل، انخفضت الواردات من أوكرانيا بنسبة 42%.

حتى الآن، لا زالت عطاءات الهيئة العامة للسلع التموينية -الخاضعة لمعايير محددة مثل حدود رطوبة القمح- مفتوحة لـ 16 بلدًا معتمدًا لاستيراد القمح. وهي روسيا، أوكرانيا، الولايات المتحدة، كندا، أستراليا، فرنسا، ألمانيا، بولندا، لاتفيا، الأرجنتين، كازاخستان، باراجواي، المجر، رومانيا، بلغاريا، وصربيا. وهذه الأسابيع، تجري القاهرة محادثات مع نيودلهي لبدء استيراد القمح من الهند.

على جانب آخر. تعد زيادة الإنتاج المحلي ركيزة أخرى من ركائز الاستراتيجية المصرية لتقليل اعتمادها على الأسواق العالمية. على الرغم من وجود مخاوف كبيرة بشأن ندرة المياه. وكان الرئيس السيسي قد أعلن في فبراير/شباط، عن زيادة المساحات المزروعة بالقمح -حاليًا 3.6 مليون فدان- بمقدار مليون فدان العام المقبل. وبمقدار 2 مليون فدان في عام 2024.

وحسب نقابة الفلاحين، مصر بحاجة أكثر من 6 ملايين فدان لتحقيق الاكتفاء الذاتي. كما تهدف الحكومة إلى رفع إنتاجية الفدان -1.04 فدان- باستخدام أصناف جديدة من القمح وطرق الري الحديثة. كذلك، خصصت الحكومة المزيد من الأموال لإنتاج القمح. مما رفع سعر شراء القمح المحلي إلى 885 جنيه -48 دولارًا- لتحفيز المزارعين على توفير أكبر كمية ممكنة للحكومة. وتستثمر الدولة في تحديث وتوسيع سعتها التخزينية الاستراتيجية، حيث أطلقت المشروع الوطني للصوامع في نهاية العام الماضي.