لدى البعض من الأجيال الجديدة من المصريين حنين إلى كل ما هو نقيض دولة يوليو 1952م-2022م. حنين إلى كل ما قبل ثورة 23 يوليو 1952م. حجم البؤس الذي صنعته دولة يوليو في كل عهودها هو المسؤول عن هذه الردة لدى بعض المصريين. هي ردة لأنها انتكاسة إلى الأوضاع ذاتها التي أفسحت الطريق لثورة ثم دولة ثم بؤس 23 يوليو. الأوضاع قبل يوليو 1952م كانت من السوء بحيث أدت إلى يوليو. وأدت إلى ترحيب الناس بها وسمحت ليوليو بإمكانية التنكر لكفاح المصريين من أجل الاستقلال والدستور والعدالة الاجتماعية.

زعمت دولة يوليو لنفسها -كانت وما زالت- أنها تنوب عن الشعب في كفاحه من أجل التحرر من قيود الأجنبي ومن استبداد الوطني ومن استغلال من يملكون كل شيء لمن لا يملكون إلا جهدهم وعرقهم وإنسانيتهم.

زعمت يوليو ذلك بصياغات مختلفة في كل عهودها. زعمت النيابة عن الشعب والحديث باسم الشعب وهي -في الواقع- تصادر فكرة الشعب من جذورها وتطفئ أنوارها وتكتم أنفاسها لصالح حاكم فرد مطلق.

لو كان ما قبل 23 يوليو 1952م جيداً وحكماً صالحاً ما كان من الوارد أن تكون يوليو بهذا السوء. كل ما في يوليو من سوء هو امتداد وتطور طبيعي لما كان قبلها من سوء منذ تأسست الدولة الحديثة عند مطلع القرن التاسع عشر. باستثناء محمد علي باشا الأرناؤوطي 1776-1849م فإن مصر الحديثة لم تعرف حاكما من الوزن الثقيل غيره. لا فرق في ذلك بين ورثته -باستثناء نجله الأكبر- القائد إبراهيم باشا 1789-1848م الذي لم يحكم ستة أشهر. من عباس إلى سعيد إلى إسماعيل إلى توفيق إلى عباس حلمي إلى السلطان حسين إلى السلطان ثم الملك فؤاد ثم الملك فاروق. فقد ورثوا مصر كضيعة تركها لهم أبوهم وجدهم وقد وضع يده عليها بمزيج عبقري من الخداع والذراع. لكنهم لم يرثوا ما فيه من جينات العبقرية التي جعلت منه واحداً من العباقرة العظماء -في العالم- الذين ملؤوا النصف الأول من القرن التاسع عشر وسوف يبقون محلاً للدرس والبحث والاتفاق والاختلاف والإعجاب والازدراء ما بقي التاريخ فناً وعلماً على قيد الحياة. ثم لا فرق بين ورثة محمد علي باشا الأرناؤوطي ومن حكموا مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952م.

بعض أهل النظر يشبهون عبدالناصر بمحمد علي باشا لكنه تشبيه لا يصمد لعقل ولا منطق إلا إذا قبلنا تشبيه رئيس فرنسي مثل ماكرون بعبقري مثل نابليون بونابرت. والبعض -وأنا منهم- يرى حكام ما بعد ثورة 23 يوليو 1952م أقرب ما يكونون إلى الخديوية. فلا هم يمثلون عبقرية الديكتاتورية البناءة التي امتاز بها محمد علي باشا الأرناؤوطي ومعه نجله الأكبر القائد إبراهيم. ولا هم أفلحوا في تأسيس جمهورية ديمقراطية حداثية حقيقية. حكام يوليو من 1952 إلى 2022م جمعوا بين ديكتاتورية الأرناؤوطي دون عبقريته العظيمة وترهل الخديوية وفشلها المتوالي والمتصاعد. كان كل خديو يسلم من بعده مصر أسوأ مما كانت عليه قبل أن يتسلمها. وتكررت هذه المتتالية بعد ثورة 23 يوليو 1952م. فكل رئيس يسلم البلد لمن بعده أسوأ مما كان قد تسلمها في أول عهده وعند بداية حكمه.

………………………………….

ليس فيما بعد ثورة 23 يوليو 1952م ما يدعو للرضا الفردي ولا للفخر القومي. وبالقدر ذاته ليس فيما قبلها -وبالذات فترة المائة عام من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين أي من وفاة محمد علي باشا الأرناؤوطي حتى خلع حفيده فاروق- ليس في هذه الأعوام المائة من شيء يدعو للرضا الوطني ولا للفخر القومي. لا الحكم يدعو للفخر ولا الهيمنة ثم الاحتلال فيهما ما يدعو للفخر. ولا تكوين طبقة حاكمة ومالكة تحكم في كل شيء وتملك كل شيء فيه ما يدعو للفخر.

عندما قامت ثورة 23 يوليو 1952م كانت هذه الحقبة -من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين- قد تعفنت وفسدت وتلفت تلفاً كاملاً من داخلها. وبات من المحال إصلاحها لا بإصلاح من الداخل ولا بإصلاح من الخارج. هذه المائة عام بمن فيها من ملك وطبقة حكام وطبقة ملاك وعلاقات هيمنة وسيطرة واستغلال للشعب كانت قد ماتت. بالمعنى التاريخي الحضاري للموت ماتت. بمعنى أنها فقدت تماماً أي قدرة على التجدد أو العطاء. كانت قد أفلست تماماً. لم تكن غير جثمان -بالمعنى الفلسفي والمجازي للجثمان- جثمان فاقد للحد الأدنى من الحياة. جثمان استهانت به ثم داست عليه ثم عبرت من فوقه بيادات ودبابات النفر القليل من الضباط الأحرار بعد منتصف الليل وقبل فجر الثالث والعشرين من يوليو 1952م. جثمان لا حراك فيه ولا عافية. استسلم لمقاديره ورقد تحت جنازير المدرعات في استسلام وسكون ورقد في مدافن التاريخ في تسليم وصمت وهدوء. بلا اعتراض ولا احتجاج ولا صراخ ولا مقاومة قلت أو كثرت. جثمان لم يلفت انتباه عوام المصريين كيف باد وانتهى.

حقبة المائة عام -قبل أن تموت- كانت قد ورثت حكام يوليو أسوأ ما فيها. سواء من خصال الحكام أو من خصال المؤسسات. فالملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو رأس السلطات الثلاث وهو من بيده مقاليد ما يسمى بالوزارات والهيئات السيادية. وهو من بيده قرار تعيين شاغلي المناصب الكبرى في كل المرافق العامة دون استثناء من جيش إلى شرطة إلى دبلوماسيين إلى أئمة المؤسسات الدينية.

ورث حكام ما بعد 23 يوليو وحتى وقت كتابة هذه السطور ذلك التراث ثم زادوا فيه حتى بلغوا به ذروة ليس من فوقها ذروة.

وكان من تناقضات يوليو أنها قررت القضاء على الطبقة العليا القديمة مثلما قررت أن تحكم باسم الفقراء والعمال والفلاحين. ولكنها -في الواقع- أحلت طبقة من الباشاوات الجدد بألقاب عرفية واقعية وإن لم تكن قانونية ولا رسمية محل طبقة الباشوات القديمة. بحيث بقي التمييز الاجتماعي قائماً وبقيت العدالة الاجتماعية -باستثناء سنوات الرئيس جمال عبدالناصر- حلماً بعيد المنال. وبقيت الكثير من الفرص والوظائف حكراً يتم توريثه أو اصطفاء من يشغله بصورة تجعل الحراك الاجتماعي الطبيعي نوعاً من المحال إلا إذا مر بالفساد ورضي به وتكيف معه.

…………………………………

الحنين إلى مجتمع الأجانب في مصر هو أحد وجوه ذاك الحنين الخطأ. وهؤلاء الأجانب مثلهم مثل ورثة محمد علي باشا الأرناؤوطي ومثل طبقة الحكام والملاك من الشركس والترك والمصريين ومثل الظاهرة الاستعمارية ذاتها. كل ذلك من تراث المائة عام الميتة من منتصف القرن التاسع عشر أي من رحيل الأرناؤوطي حتى منتصف القرن العشرين أي خلع حفيده فاروق.

يتذكر بعض الكبار في السن من المصريين وينظر صغار السن في الصور القديمة. صور أحياء رفيعة المستوى الحضاري مثل الزمالك وجاردن سيتي والمعادي وشوارع وسط البلد وبعض مناطق من شبرا مصر. وكذلك بعض أحياء في الإسكندرية والإسماعيلية وبورسعيد وطنطا والمنصورة. الكبار يتذكرون والصغار ينظرون في الصور القديمة بجلال بياضها وسوادها. ثم إذا الجميع يلعب بهم الحنين إلى أيام كانت تلك الأحياء ليست أكثر من مستوطنات استعمارية أوروبية على أرض مصر.

أفهم دوافع هذا الحنين. في النفور الفطري من قبح الواقع ودمامته. وكذلك في الهروب الفطري إلى الجمال حتى لو كان صورة جزئية منفصلة عن الواقع الكلي. لكن ما بين النفور ثم الهروب يضل العقل عن الحقيقة التي هي أساس الوجود وصلب الواقع.

هذه الصور الجميلة -في ظاهرها- هي عنوان هزيمتنا الحضارية الشاملة في وجه الغرب. كانت كذلك عندما كانت جميلة مريحة يسكنها المستعمرون ومن في مستواهم من الأرستقراطية المصرية من يهود ومسيحيين ومسلمين. كذلك فإن مقارنة جمال الصور عند الأجيال وجمال الذكريات عند المسنين الكبار بقبح الواقع الذي آلت إليه هذه الأحياء تحت حكام ما بعد ثورة 23 يوليو مقارنة جمال ما قبل يوليو بقبح ما بعدها في هذه الأحياء هو عنوان على هزيمتنا الثانية. هزيمتنا الأولى في وجه الاختراق الاستعماري ثم هزيمتنا الثانية أمام أنفسنا بما يعنيه ذلك من فشلنا من 1952م-2022م في إقامة حكم وطني حداثي يتقدم بنا ولا يتخلف بنا كما هي عادته.

………………….

قصة الأجانب في مصر هي قصة مصر ذاتها. سواء مصر العثمانية أو مصر كمستعمرة أوروبية أو مصر كدولة استقلال وطني مستبدة ومتخلفة.

قصة الأجانب هي قصة الامتيازات الأجنبية. والامتيازات الأجنبية هي حكاية من فصول طويلة أليمة تروي كيف كنا ونحن ولاية عثمانية والسلطنة العثمانية في أوج قوتها. وعلى النقيض من ذلك تروي كيف أصبحنا وقد أخذت السلطنة العثمانية تشق الطريق المحتوم لانحدار ثم سقوط الإمبراطوريات.

كذلك فإن قصة  الأجانب والامتيازات الأجنبية  تحكي تاريخ الدولة الحديثة في ظل حاكم قوي مثل محمد علي باشا الأرناؤوطي. كان يعرف كيف يتوظف الأجانب في خدمة طموحاته ثم يعرف كيف يجعل العصمة في يده. وكيف يكون قراره من رأسه ومصلحته ثم تحكي مائة عام من حكم ورثته الضعفاء الذين لعب بهم الأجانب ولعبوا بالبلد تحت مظلتهم.

بدأت الامتيازات الأجنبية باتفاق بين الملك فرانسوا الأول الذي حكم فرنسا من 1515م حتى 1547م . والسلطان العثماني سليمان القانوني الذي حكم الإمبراطورية العثمانية من 1520-1566م. تم الاتفاق على إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين اعتبرتها باقي أوروبا كفراً من الملك فرنسي وخروجاً منه على صحيح الدين. هذا الاتفاق سمح للتجار الفرنسيين بالتجارة في أراضي الدولة العثمانية بما فيها مصر. كانت شروط التجارة تخضع للقانون العثماني -وهو الشريعة الإسلامية على مذهب أبي حنيفة النعمان 699-767م. وكانت الدولة العثمانية في ذروة قوتها. بحيث كانت من القوة بما يكفي لفرض شروطها وتنفيذها وعدم السماح بالخروج عليها ثم القدرة على إنزال العقاب الرادع بمن يفكر في انتهاك شروط التجارة.

توسعت الامتيازات التجارية لتشمل كل المتاجرين الأوروبيين من فرنسيين وغير فرنسيين. ثم مع ضعف الدولة العثمانية تطورت الامتيازات إلى حقوق مكتسبة. كما انزاحت الحواجز أمام تدفق الأوروبيين إلى داخل الأراضي العثمانية من تجار ومغامرين ولصوص وأفاقين ومبشرين ومستشرقين وتجار مخدرات ومهربي آثار وتحف وسارقي فنون ورحالة وباحثين وفئات من كل شكل ولون.

وكانت الإمبراطورية تفقد كل يوم بعضاً من مناعتها وقوتها وهيبتها. حتى بات السلطان العثماني في قصره رهين الخدم والحشم في بهوه ثم رهين الجند من الانكشارية على أسواره. ثم رهين طبقة فاسدة من الوزراء والمستشارين في مكاتبه. ثم السلطان ومعه كل هؤلاء جميعاً لم يكن ولم يكونوا أكثر من دُمى ولُعب حلاوة في أيدي السفراء الأوروبيين من روس ونمساويين وإنجليز وفرنسيين وغيرهم.

…………………………..

عند منتصف القرن التاسع عشر كانت المناعة مفقودة تجاه اختراق الأجانب وما يتمتعون به من امتيازات. كانت المناعة مفقودة على مستوى الدولة العثمانية الآيلة للسقوط. كما كانت المناعة مفقودة على مستوى الدولة المصرية الناشئة بعدما آلت من مؤسسها القوي إلى ورثته الضعفاء وخائبي الرجاء.

تزامن فقدان المناعة الذاتية مع نزوح الأوروبيين -من كل الجنسيات- إلى خارج القارة. فقد توقفوا عن الحرب فيما بينهم من انتهاء حروب نابليون 1815م إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914م. بين هاتين الحربين توقف الأوروبيون مائة عام كاملة عن بث ما في عمقهم التاريخي من عنف وعدوان داخل حدود القارة. فانطلقوا خارج حدودها إلى العالم كله. يبثون فيه ما يحملونه في عمقهم وتكوينهم التاريخي من عنف وعدوان وطبع غريزي يميل -بالسليقة والتعود- للحرب والسلب والنهب. فلم يسلم منهم أحد لا شرق ولا غرب ولا شمال ولا جنوب ولا عرب ولا عجم ولا هند ولا سند ولا صيني ولا هندي ولا مسيحي مثلهم ولا كافر بمنطقهم في العصور الوسيطة. خرج الأوروبيون خلال هذه الأعوام المائة من حدود قارتهم الضيقة إلى آفاق العالم الواسع أسراباً وراء أسراب من الجراد تفسد كل يابس وتأكل كل أخضر.

كان نصيبنا منهم في مصر فوق الوصف. كانوا قبل الاحتلال احتلالاً. كانوا طلائع الاستعمار. كانوا عمقه الحضاري. كانوا ظهيره الاجتماعي. كانوا سكيناً مغروساً في صدر مصر. كانوا ثماني عشرة جالية، كل جالية منهم دولة داخل الدولة. كانت كلمتهم نافذة على الحاكم ونظرتهم كلها ازدراء للمحكوم. كانوا أسوأ ما صدرت أوروبا من منتجاتها الفاسدة للشعوب الأقل في تطورها الحضاري المعاصر -حتى لو كانت صاحبة حضارة قديمة عريقة- لم يكن هؤلاء الأوروبيون دعاة سلام بين الشعوب ولا دعاة تعاون مشترك بين الحضارات. كانوا قوة تخريب بعثت بها أوروبا تستغل وتنهب وتزيف وتزور دون رادع ما دامت عندهم القوة وما دامت ضحاياهم على درجة من الضعف المطمئن المستقر الذي يغري بالعدوان دون حساب للعواقب.

…………………………..

مثل الاحتلال العسكري الإنجليزي ومثل استبداد وفشل حكام مصر من ورثة محمد علي باشا الأرناؤوطي. مثل هذا وذاك كان الأجانب وما يستمتعون به من امتيازات جعلت منهم ثماني عشرة دولة داخل الدولة.

هذه القضايا الثلاث كانت هي موضوع كفاح ونضال أجيال عدة من المصريين حتى منتصف القرن العشرين.

وهذه النقطة هي موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.