تعتزم الحكومة تفعيل لجنة إدارة ملف الدين العام وتنظيم الاقتراض الخارجي. والتي صدر قرار بتدشينها قبل أربعة أعوام لضبط النفقات العامة والحيلولة دون انفلات ملف الدين.
يأتي القرار بعد الهجوم العنيف الذي شنته لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب برئاسة فخري الفقي -مساعد المدير التنفيذي السابق بصندوق النقد الدولي- والتي طالبت بمزيد من الحوكمة والضبط والترشيد فيما يتعلق بملف الدين الخارجي.
وارتفع الدين الخارجي لأكثر من 145 مليار دولار بنهاية الربع الثاني من العام المالي الحالي. وبارتفاع بنحو 6% يعادل 8.1 مليار دولار -بحسب بيانات البنك المركزي الصادرة في 19 أبريل الحالي.
وخلال تسع سنوات قفزت قيمة الديون الخارجية على مصر بما يزيد على 100 مليار دولار. إذ قفزت من مستوى 34.4 مليار دولار في 2012 مقابل 147 مليار دولار في نهاية ديسمبر 2021.
وبحسب دراسة للدكتور فريد النجار -المستشار السابق بالبنك الدولي وجامعة الدول العربية- فإن أهم محاور الديون الخارجية بمصر هي غياب الأولويات في تخصيص القروض الدولية على مجالات الاستثمارات المختلفة. بالإضافة إلى عدم المتابعة الرقمية لدورة حياة الدين الخارجي. وانخفاض إنتاجية الديون ببعض القطاعات الاقتصادية وتوجيه القروض للخدمات بدلاً من الصناعة.
وتعزو وزارة المالية ارتفاع الدين إلى تداعيات جائحة كورونا التي ألقت بظلالها على الاقتصاد العالمي وليس المصري فقط. وسببت توقفًا لنشاط السياحة وعرقلة التصدير بجانب ارتفاع الإنفاق العام على برامج الحماية الاجتماعية بميزانية العام الماضي. ما أدى لزيادة المصروفات 10٪ لتُسَّجل 1.6 تريليون جنيه.
تقول “المالية” إن الموازنة المذكورة حققت فائضًا أوليًا بنسبة 1.46٪ من الناتج المحلى الإجمالي. تم استخدامه في تمويل جزء من فوائد الدين العام. ما أسهم في خفض العجز الكلي إلى 7.4٪ من الناتج المحلي.
قياس المشروعات ضرورة لمواجهة الدين الخارجي
لا ترى وزارة المالية غضاضة في نسبة الديون الخارجية إلى الناتج المحلي الإجمالي حاليًا. فهي لم تتخط حدود 40٪. وهي أقل من المستويات العالمية. وتؤكد أن مصر “لم تتخلف يوماً عن سداد ما عليها من أقساط وديون وفوائد. كما أنها تسدد في المتوسط سنوياً نحو 90 مليار جنيه.
في المقابل تحدثت لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان عن “فوائد وعمولات ارتباط” نتيجة التأخر في اتخاذ الإجراءات اللازمة لدخول القروض التي تمول بعض المشروعات حيز التنفيذ. وطالبت بقياس مدى الحاجة إلى المشروعات التي يتم الاقتراض لها قبل البدء في إدراجها في خطة الدولة وقياس الآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عليها. والمردود الناجم عنها في حالة الاستقرار عليها.
مناقشات اللجنة أوصت بإعداد دراسات الجدوى الاقتصادية التي تسبق تنفيذ المشروعات الاستثمارية. التي تم الاستقرار على تنفيذها سواء الممولة من الخزانة العامة أو من القروض والمنح. ووضع خطط مستقبلية للتعامل مع المشكلات التمويلية والتنظيمية والإدارية التي قد تطرأ أثناء عمليات التنفيذ.
وطالبت بإعطاء الأولوية عند وضع الخطة الاستثمارية لتنفيذ المشروعات الجاري استكمالها وتدبير الاعتمادات اللازمة لها. والرقابة على تنفيذ المشروعات وبالأخص الممولة بقروض ومنح. ووضع برنامج زمني معتمد للقيام بالزيارات الميدانية للمشروعات للتحقق من انتظام سير العمل في تنفيذها.
المالية وعجز الموازنة وأزمة الاقتراض
تتحدث وزارة المالية عن أنها نجحت خلال 5 سنوات في خفض عجز الموازنة بنسبة 50%. مع تراجع معدل دين أجهزة الموازنة للناتج المحلى الإجمالي من 108% عام 2016/2017 إلى 90.2% بنهاية يونيو 2019 قبل جائحة كورونا. قبل أن يشهد زيادة طفيفة إلى 91.6% بنهاية يونيو 2021.
وبحسب آخر البيانات المنشورة على موقع وزارة المالية فإن الدين العام المحلي بلغ 4.7 تريليون جنيه بنهاية يونيو 2020. لكن أعباء خدمته سجلت في الفترة ذاتها 910 مليارات جنيه على صعيد سنوي.
الديون الخارجية.. حمل ثقيل على الاقتصاد المحلي
يشير الدكتور فخري الفقي -رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب- إلى أن استراتيجية وزارة المالية استراتيجية متوسطة الأجل لإدارة الدين العام (2015- 2020)، والتي تم تعديلها عام 2019 وإعادة تحديثها نهاية ديسمبر 2020 بدعم البنك الدولي وصندوق النقد، تتضمن مستهدفات جديدة بحلول العام المالي 2025. ووضع سقف كمي لحصة صافي إصدارات المحلية الجديدة قصيرة الأجل من أدوات الدين الحكومية (أذونات وسندات الحكومة).
ويقول “الفقي” إن التمويل المحلي يمثل العمود الفقري 91.3% في تمويل العجز الكلي في الموازنة عام 2015/2016. لكن بعد تصاعد أسعار الفائدة المحلية وتحسن تصنيف مصر الائتماني استعادت مصر قدرتها على الاقتراض من أسواق المال العالمية. وبدأت الحكومة تخفف تدريجيا اعتمادها على الاقتراض المحلي لتمويل عجز الموازنة.
زادت مصر اعتمادها على التمويل الخارجي لانخفاض تكلفة فائدته 40% عن سعر الفائدة على الاقتراض المحلي. ويفسر ذلك انخفاض نسبة إسهام التمويل المحلي لعجز الموازنة تدريجيا حتى بلغ 36.3% في العام المالي 2017/2018، بحسب “الفقي”.
الديون الخارجية والضغوط التضخمية
لكن توجد إشكالية في العلاقة بين تزايد أعباء خدمة الديون الخارجية من فوائد وأقساط واجبة السداد وزيادة الضغوط التضخمية. إذ تسهم تلك الأعباء في اقتطاع جزء کبير من إجمالي الناتج المحلي للوفاء بالتزامات المديونية الخارجية. وبالتالي انخفاض قدرة الاقتصاد على تمويل الصادرات.
يقول الدكتور صلاح الدين فهمي -أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر- إن الاقتصاد المصري يواجه صدمات خارجية منذ أزمة كورونا سببت تقليص الموارد الدولارية. لكن الأزمة الأوكرانية حملت تأثيرًا عنيفًا. إذ أثرت على السياحة كما تسببت في ارتفاع تكاليف السلع الاستراتيجية بجانب خروج أموال ساخنة.
ويرى بعض خبراء الاقتصاد أن الإشكالية الرئيسية في حساب الدين العام تتعلق بكيفية حساب الناتج المحلي.
ففي مصر لا يتم حساب الاقتصاد الموازي الذي يعادل نحو 40% من الناتج المحلي. وكثير من قوة العمل في قطاع الزراعة. أو العمل المنزلي للسيدات. ما يعني أن اقتصاد مصر متنوع وأقوى من الحسابات الرسمية.
ويضيف أن الاقتصاد المصري ما زال مستقرا رغم إثارة الدين الخارجي بعض القلق. كما أن مؤسسات التصنيف الائتماني وآخرها “فيتش” ثبتت تصنيف مصر عند “بي موجب” مع نظرة مستقبلية مستقرة. بدعم سجل مصر الأخير في الإصلاحات المالية والاقتصادية واقتصادها الكبير ونموه القوي.
وتشير دراسة لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية إلى أن المديونية الخارجية لمصر کانت معتدلة خلال الفترة 2007-2016. وأصبحت مرتفعة خلال 2017 2019 بما يعكس أن الديون الخارجية أصبحت المورد الأساسي للعملة الصعبة وللحفاظ على استقرار سعر الصرف.
كما أن نسبة معدل خدمة الدين الخارجي من إجمالي الصادرات بلغت 6% في المتوسط خلال الفترة 2007-2014. وارتفعت بشكل كبير خلال الفترة 2015-2019 لتصل إلى 25.5% عام 2019. ما يعني أنها تلتهم 25.5% من عائدات الصادرات المصرية. لكن رغم ذلك فإن تلك النسبة في درجة الأمان. فالحد المقبول عالميًا 30%.
ويقول الدكتور رشاد عبده –الخبير الاقتصادي- إن الحكومة مجبرة على الاقتراض في ظل وجود فجوة تمويلية يتم تعبئتها بالاقتراض. والدين ليس مشكلة في حد ذاته لكن المشكلة في التوظيف: استهلاكي أم انتاجي. فأمريكا واليابان أكبر مقترضين في العالم.
وأضاف أن الاقتراض إذا كان في صالح الأنشطة الاقتصادية فلا بأس به. وبالتالي المشروعات تدر عائدا يتم سداد الفائدة ومشكلة بعض المشروعات العامة أنها تكون لصالح جوانب اجتماعية كالتوظيف. وتابع أن الحكم على معدل الديون ومدى أمانها يرتبط بوجود قدرة على السداد أم لا.
ونقلت وسائل إعلام غربية وعربية عن المديرة العامة لصندوق النقد كريستالينا غورغييفا أن الظروف المحيطة بالاقتصاد المصري تتجه للأسوأ. مشيرة إلى حاجة مصر إلى الاستقرار المالي والاستمرار في الإصلاحات بجانب الحاجة إلى برنامج تابع لصندوق النقد يحمي الفئات الضعيفة.
الاقتراض والحدود الآمنة
لكن الدكتور محمد معيط –وزير المالية- قال في تصريحات على هامش اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين، إن مديرة الصندوق أشادت بحرص الحكومة المصرية على مواصلة تنفيذ الإصلاحات الهيكلية لاستدامة تحقيق الاستقرار المالي والنمو الاقتصادي الغني بالوظائف وتعزيز مظلة الحماية الاجتماعية. خاصة في ظل ما يتعرض له الاقتصاد العالمي من ضغوط شديدة. تجسدت في ارتفاع أسعار النفط وأزمة الغذاء الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية.
وبحسب فخري الفقي فإن هيكل الدين العام يتسم بالاستقرار. فالدين العام (متوسط وطويل الأجل) يزيد على ثلثي إجمالي الدين العام. وهي نسبة مطمئنة بالمعايير الدولية. كما لا تتعدى نسبة الدين بالعملات الأجنبية نسبة (43.4%) من مزيج عملات الدين العام على أقصى تقدير.
ويمثل الدين الخارجي (33.2%) من إجمالي الناتج المحلي. وهي نسبة ما زالت في الحدود الآمنة (30–50%) التي لا تشكل خطرًا كبيرًا على استدامة إدارة الدين العام. كما يتكون معظم الدين الخارجي بمصر من ديون دول نادي باريس الثنائية والمؤسسات الدولية ومعظمها متوسطة وطويلة الأجل.
يؤكد الأمر ذاته مركز البحوث في زيلا كابيتال. والذي يرى أن الزيادة في حجم الدين الخارجي لمصر طبيعية. في ظل ما يتعرض له الاقتصاد العالمي من هزات عنيفة. خصوصا منذ ظهور جائحة كورونا بجانب مشكلات سلاسل الإمداد المستمرة وحرب روسيا وأوكرانيا وارتفاع أسعار السلع الأساسية.