ذات مرة، منذ سنوات طويلة، وفي إحدى محاضرات تعليم كتابة السيناريو، أشار السيناريست الكبير الراحل أستاذ “رأفت الميهي” إلى طلابه. وقال: “من الأفضل أن يكون مستوى الأفكار في السيناريو عند هذه النقطة (مشيرا إلى ما فوق رأسه بقليل)، لأن الأعلى كثيرا سيؤلم رقبة المتلقي المضطر للنظر عاليا كثيرا، ونفس الألم إذا ما اضطر للنظر إلى أسفل”.

كما ذكر الأستاذ الراحل أن فيلم “غرباء” الذي كتب السيناريو له وأخرجه الراحل “سعد عرفة” هو من أكثر التجارب التي لا يحب أن يكررها نظرا لشدة المباشرة فيه. فما الإبداع أن يمثل شخص العلم وآخر الفن وآخر الدين بشكل صريح يقترب من الفجاجة؟

سؤال يبدو أن الزمن لم يحسم إجابته منذ عرض فيلم “غرباء” عام 73 وحتى الآن.

“جزيرة غمام/اللا غمام”..

يُعرَّف الغمام على أنه السحاب أو ما يشبه السحاب فيحجب السماء، وبالتالي يوحي اسم “جزيرة غمام” بأننا مقبلون على أجواء من الغموض والألغاز ما سيتطلب تركيزا خاصا لفك خيوط ذاك الغموض. فهل النص فعلاً بهذه الدرجة من الغموض؟

ربما لا توجد إجابة مطلقة على هذا السؤال. وقد يكون التعميم مضلل.

فمن ناحية وبالنسبة لغالبية جماهير التليفزيون في رمضان، العمل الأقرب للمشاهدة هو ذاك الأقرب للكلاسيكية في كل شيء. ما يمكن أن يُسمع ويُفهم أثناء عمل شيء آخر أو تبادل حوار جانبي في تجمع عائلي.

ما يحمل بعض رائحة من أعمال لأسامة أنور عكاشة أو محمد صفاء عامر .. كتابة سهلة الهضم دون أن تخلو من التوابل المحببة. ألغاز غير مستعصية تعطي مفاتيح حلها أثناء تلاوتها.

ومن ناحية أخرى، وبالنسبة لجماهير “الصفوة/المثقفين”، تثير نفس تلك العوامل مقداراً ليس بالقليل من النقد الساخر. حيث يُنظر للحوار بين أبطال العمل وأداءهم له على أنه أقرب للمسرحية. كما يُنظر لرمزية العناصر الفنية الموجودة على أنها رمزية فجة تُذَكِر برمزية لقطة “القرنين” الشهيرة في فيلم “القاهرة 30” للمخرج الراحل “صلاح أبو سيف”.

حوار وأداء أشبه بالخطبة المباشرة أو المقال، رغم المجهود الواضح المبذول من المخرج ومدير التصوير لإضافة عنصر بصري موازي للحوار. مجهود أكد على شخصية بصرية لمخرج العمل “حسين المنباوي” أسسها في مسلسله السابق “الفتوة”، مما قد يشير لتصنيفه كمخرج مفضل كلما سادت أجواء شبه أسطورية للعمل.

الجزيرة.. مكان عابر لمحدودية التاريخ والجغرافيا..

تأتي التساؤلات المطروحة في المسلسل (تحديدا بخصوص الصراع بين رؤى مختلفة للمسألة الروحية/الدينية) في لحظة مخاض صعب لِما اصطُلح عليه بـ”تجديد الخطاب الديني”. ليس فقط في مصر بل وعبر المنطقة المنطقة العربية. ذاك التشابك الذي أعطى لمشاهدة المسلسل زخما وفتح مجالا لمساحة أكبر للدراما المصرية كانت قد افتقدتها عبر السنوات الماضية. مكسب يبدو أن حجر الأساس فيه هو الطبيعية “الصوفية” لسيناريو وحوار “عبد الرحيم كمال”، وهو ما جعل النص عابرا للحدود ومثيرا للتأمل بشكل ما.

وضع “عبد الرحيم كمال” نصه في تلك النقطة الذهبية التي بدأنا منها، أعلى قليلا من مستوى الرؤية المعتاد، بحيث لا يُنهك من يشاهد بما فوق طاقته فيفقد الاهتمام، ووضع المسلسل في صندوق بعيد عما يزعج جمهوره المستهدف مما يمكن أن يسميه ذاك الجمهور “إسفافا” أو “تشويها” في مسلسلات أخرى، فكان له ما أراد.