“حوار سياسي مع كل القوى دون استثناء ولا تمييز” يترقبه الجميع، أملًا في أن يمهد لبناء جمهورية جديدة تؤمن بالمعارضة وتستمع إليها وتشاركها حل أزماتها. هكذا وعد رئيس الجمهورية. بينما كشف تفاصيل هذا الحوار -خلال إفطار الأسرة المصرية أمس- وقد كلف إدارة المؤتمر الوطني للشباب بالتنسيق مع كافة التيارات السياسية الحزبية والشبابية لإدارته في إطار أولويات العمل الوطني خلال المرحلة الراهنة.
“مصر 360” التقى الدكتور محمد عبد الغني عضو مجلس النواب السابق، للحديث عن هذا الحوار المرتقب والذي طالما دعت إليه منظمات المجتمع المدني. فقال إن انعقاده ضرورة ملحة. لا سيما في مثل هذه الظروف بالغة الخطورة، التي نعيشها سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
ويرى البرلماني السابق أن الحوار يعيد الاعتبار للعقل الجمعي ويجعله فاعلًا في مناقشة الرؤية الوطنية. مؤكدًا أنه لا يمكن لأي شخص مهما امتلك من إمكانات أن يدير الأمور منفردًا مهما كان إخلاصه وحبه لوطنه. مضيفًا أن من أهم أسباب الأزمات التي نعيشها غياب العقل الجمعي عند تنفيذ الرؤية، مؤكدا أن صدق الحوار والحديث بلسان الناس ومخاطبة قضاياهم هو الضامن الوحيد لبث الثقة المطلوبة كي يلتف الجماهير حول الحوار وخرجاته. محددًا من وجهة نظره أجندة أولويات للحوار، يأتي على رأسها الوضع الاقتصادي.
كيف ترى الدعوة الحالية للحوار الوطني؟
أرى أن تصريح الرئيس عبدالفتاح السيسي الأخير بخصوص أهمية الحوار الوطني، ينبع من أنه لا يمكن لأي شخص مهما امتلك من إمكانيات وتفانٍ وإخلاص وحب للوطن، أن يدير الأمور منفردًا. بل يحتاج إلى أن تجلس كل القوى للتحدث معًا، وأن تضع الرؤية المطروحة أمام العقل الجمعي.
هذا العقل الجمعي هو البديل الوحيد لبناء الرؤية والعمل على وضعها في إطارها الصحيح. بحيث يكون المحفز على استمرارية النجاح حتى لو غاب الفرد. فتبقى الرؤية ابنة العقل الجمعي. ما يخلق لها الاستمرارية.
ويمكن أن نضرب مثلًا عن الرؤية التي شرعت الدولة في تنفيذها حول تطوير صناعة الغزل والنسيج، والعمل على تدشين صناعة حقيقة متكاملة بإقامة مصانع عملاقة، وهي فكرة عظيمة ومقدرة لأنها تتعلق بأهم الصناعات المصرية في تاريخها الحديث، لكن للأسف نجد أن كل ما أحيط بالرؤية لتطوير تلك الصناعة طرح في الغرف المغلقة. وهنا لنا سؤال: لماذا لم تطرح تلك الرؤية للمناقشة من قبل خبراء صناعة النسيج ويتم الحوار عليها بصيغة عقل جمعي؟ لأن هناك خطورة بأن يتم التنفيذ وجلب المصانع والمعدات ورصد الميزانية دون أخذ رأي خبراء الصناعة. ولا قدر الله، يمكن أن تتعرض هذه الرؤية لانتكاسة وتتعطل المنظومة في المستقبل. ذلك لأنها كانت رؤية أو فكرة من شخص واحد. ما يهدد بضياع الفكرة لو غاب الشخص الذي يحملها.
وهذا أمر ينطبق أيضًا على رؤية تطوير التعليم، وهو مثال صارخ على فكرة غياب العقل الجمعي عن تنفيذ الرؤية. فنجد أن وزير التعليم اجتمع بمجموعة خاصة بالوزارة ضمت خبراء وأساتذة من أعظم الجامعات لوضع استراتيجية لتطوير التعليم. لكن للأسف لم يشارك فيها أو تعرض حتى على المهتمين بالعملية التعليمية سواء مدرسين أو مختصين أو خبراء. لذا ماذا سيحدث لو تم تغيير وزير التعليم؟
القصد هنا أننا في القضايا العامة سواء اقتصادية أو سياسية لا بد من مناقشة الجميع أو إعطاء فرصة لأكبر قدر من الناس للمشاركة بأفكارها. ذلك حتى تكون الأفكار بعقل جمعي يضمن استمراريتها والعمل على تنفيذها. ومن هنا تأتي أهمية الحوار وضرورته.
في رأيك، لماذا غاب الحوار الوطني طيلة السنوات الماضية؟
هناك ثلاثة أسباب لذلك؛ الأول مرتبط بعدم ثقة الدولة أو النظام بالقوى المدنية وقدرتها على إقامة الحوار الوطني. أما السبب الثاني فهو الخوف من سيطرة التيار الإسلامي على الحوار أو بمعنى أصح قفزهم عليه. وهو شعور يتعاظم مع التجربة المريرة التي عاشتها مصر مع جماعة الإخوان. وأخيرًا يمكن أن نرجع غياب الحوار الوطني إلى عدم وجود روابط حقيقية وتعاون بين الأحزاب والقوى السياسية بفعل الضغوط الممارسة عليها منذ أيام مبارك، ومحاولة تفريغها من كوادرها وعدم وجود أجيال جديدة قادرة على إدارة الأمور. وهو ما يوجد المبرر للنظام تحججًا بعدم صلاحيتهم لإقامة حوار.
هناك تخوف من بعض الجهات بشأن فتح الحريات وتكرار أحداث 2011. فما رأيك؟
دعنا نتحدث بصراحة، هناك تخوف من تكرار ما حدث في 2011 فعلًا. لكن علينا أن ندرك أن هناك فارقا بين الحراك ومساحة الحريات التي وفرتها 2011 وما أعقب ذلك من فوضى سياسية. يناير جاءت نتيجة لتراكم سياسات على مدار ثلاثة عقود من نظام مبارك. لكنها أيضًا أعطت الفرصة لتيار واحد فقط متمثل في تنظيم الإخوان، وجعلته يتمدد على الأرض.
والحقيقة، لو كان هناك نظام سياسي سليم قبل 2011 مهد الأمور لانتخابات نزيهة في 2010 لما جاءت الثورة. الناس تثور عندما تغلق المجال أمامها. أما إذا كانت هناك فرصة للتعبير عن الرأي بطرق ديمقراطية سليمة، فلا أحد يحتاج إلى تغيير الأوضاع بعمل ثوري. وأظن أن ما حدث من تجاوزات في انتخابات 2010 كان القشة التي قصمت ظهر البعير.
ولهذا نحتاج الحوار الوطني. فتح الحوار في حد ذاته مكسب. لأننا نحتاج إلى إعادة الناس للتكلم والبحث عن حلول. ولأن الانسداد وانقطاع الحوار مع ظروف اقتصادية ضاغطة، يمكن أن يؤدي لثورة جياع. الناس بحاجة لمن يطرح أفكارهم ويتحدث عن همومهم ويناقشهم ويبحث عن حلول. وهذا بداية للبناء على تفعيل الحوار، بعض النظر عن النتائج. لأننا نحتاج إلى تحريك المياه الراكدة.
اقرأ أيضًا: حوار مع| محمد أنور السادات: الحوار الوطني بداية لإزالة حالة الشك بين المكونات المصرية
تكرر اتهام القوى السياسية بأنها تتحدث دون إدراك لإمكانات البلد والواقع.. ما تعليقك؟
في كل التجارب البشرية هناك تصورات تطرح للخروج من المشكلات. وهناك تجارب عبقرية وملهمة في التاريخ استطاع أصحابها أن يكسروا المألوف بأفكار جدية لتغير الواقع، ولم يمنعهم الأمر الواقع وندرة الموارد. هناك تجربة رائعة في إندونيسيا وأخرى جيدة جدًا في ماليزيا، وما حدث في البرازيل، وكذلك الصين. هذه البلاد كانت تعاني نقص الموارد بالنسبة لعدد السكان. لكن قدمت نماذج ملهمة وغيرت من واقعها. المهم أن نعطي فرصة لتقديم بدائل وأفكار للعمل والاستغلال الأمثل للموارد والإمكانات، بما ينقل حياة الشعوب للأفضل. وأتصور أنه ليس حل الأزمة الاقتصادية بفرض الضرائب على الطبقات الوسطى والفقيرة ولكن كما ذكر الدستور بالضرائب التصاعدية الذكية، ولابد من تعظيم القدرة الذاتية بالإنتاج سواء بالصناعة أو الزراعة متضمنة الاستثمار في مشروعات جديدة وليس أصولنا الحالية.
لماذا التركيز على السياسات الاقتصادية وتغافل المخاطر الأخرى التي أثرت سلبيًا على النواحي الاقتصادية والسياسية معًا؟
غرض أي نظام سياسي هو تحسين أحوال الناس المعيشية، ويقاس نجاحه بتحقيق أكبر قدر من التنمية، وتوفير حياة رفاهة لمواطنيه، وتعديل أو تغيير السياسات الغرض منه تحقيق أكبر فائدة للمجتمع. وإذا فشل النظام في تحقيق ذلك يوجه له اللوم. نجد في كل التجارب السياسية الناجحة سواء في البرازيل أو ماليزيا أو إندونيسيا أو حتى الصين معيار الإنجاز الاقتصادي هو الذي يحكم على نجاح التجربة من عدمه. لأن الهدف الأسمى لأي نظام هو شعور مواطنيه بالرفاهية.
لكن لو استدعينا تجربة الصين معروف أنها تجربة ديكتاتورية تحكم بالحديد والنار
في الصين التجربة مختلفة صحيح. لأن هناك حزب واحد يحكم، هو الحزب الشيوعي. لكن لا تدار الأمور بشكل فردي. بل هناك مؤسسات في الحزب الحاكم تتم مناقشة القرارات أو التوجهات بينها ويتم البناء عليها في وضع السياسيات. والأمر هناك ليس بيد الرئيس الصيني وحده. الصين رغم عدم التعدد الحزبي تطبق داخل الحزب الأوحد التفكير بالعقل الجمعي.
مصر تواجه مخاطر خارجية، بل ومنافسين إقليميين يريدون السطو على دورك، وقوى دولية تريد أن تستقطبك لتدور في فلكها. بالإضافة إلى مشكلات أخرى تمثل خطورة كبرى، كالوضع في ليبيا والسودان وتهديد مياه النيل. وأعتقد أن جزء من الأخطاء في التعامل مع هذه القضايا هو غياب العقل الجمعي. وأعتقد أن الأطراف الخارجية لو أدركت أن الموقف المصري ليس مبني على أساس فردي، سيكون ذلك قوة للمفاوض المصري في أي قضية.
ما الأجندة التي تراها مناسبة للحوار الوطني؟
أرى أن الأولوية في الحوار الوطني، طبقًا للتحديات التي تواجه البلد، يجب أن يأتي على رأسها الوضع الاقتصادي. ومع احترامي لوجهات نظر عديدة تتحدث عن قضايا مثل الحريات وتداول السلطة. لكنها لا تمثل ضرورة الآن رغم وجهاتها. لأنها تتراجع أمام التحدي الاقتصادي. فالتنمية وأحوال الناس المعيشية يضع التنمية على رأس الأولويات.
أما التحدي الثاني فهو الظرف الدولي وما يحيط بمصر من مشاكل خارجية ومحيطها ودورها الإقليمي في ظل حالة استقطاب دولي مفصلي. ويلي ذلك في جدول ترتيب الأولويات للحوار الوطني الحديث عن الحريات ومدنية الدولة وتداول السلطة. وهنا، دعنا نتحدث بصراحة: ماذا سيكون الوضع لو هناك حريات ولا توجد دولة أو أنها في حالة انهيار اقتصادي؟ وهذا طبعاً لا ينفي أن جزءًا أساسياً من بدايات أي حوار هو الإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي من الذين لم يتورطوا في حمل سلاح أو مساندة الإرهاب.
في رأيك، ما الذي يمكن أن تقدمه أحزاب المعارضة أو القوى المدنية في الفترة المقبلة؟
لا نتحدث عن ماذا ستقدم المعارضة أو الموالاة. نحن الآن في مركب واحد. هناك خبراء اقتصاد، بينهم معتنقو فكر رأسمالي، مختلفين مع ما يتم تطبيقه من أفكار اقتصادية حاليًا. لا أحد مقتنع بأن فكرة فرض مزيد من الضرائب والرسوم سيحل المشاكل، بل على العكس فإنه يزيد من شعور الغضب لدى المواطن الذي لن يجد بديلاً سوى الخروج على النظام ، لذا لابد من إيجاد بدائل عن روشتة صندوق النقد الدولي وما ينتج عنها من أعباء يتحملها المواطن . نحتاج إلى الإنتاج في مجالات الصناعة والزراعة، ولابد من الاستعانة بالخبراء ممن يمكن أن يضعوا روشتة للتحرك في دعم الصناعة والزراعة، والاستعانة كذلك بمن له خبرة في تقديم حلول بديلة في وضع قواعد للبناء والتطوير العقاري.
أما فيما يخص القضايا الخارجية، أعتقد أن تجمع القوى السياسية خلف قيادة البلد يعد أهم مكسب. لأنه يعطي قوة للمفاوض لأنه سيكون متسلحًا بدعم شعبي ووطني. وهذا أمر يفرق كثيرًا عند الحديث مع أي طرف خارجي.
من ترى ضرورة مشاركته في الحوار؟
كل من لم يتورط في حمل السلاح ضد هذا الشعب ومؤسسات الدولة أو لم يلوح بالإرهاب في وجه المصريين من حقه أن يشارك في الحوار. لأننا نريد مشاركة مختلف القوى ومن يحمل أفكارًا لعل لديه ما يقدمه ويخدم به البلد.
هل تعتقد أن السلطة تتقبل الحوار؟
ليس من الطبيعي أن ترفض السلطة الحوار بشكل مطلق. لأن هناك احتياج له من أجل تجميع الناس وبث رسالة أن هناك من يهتم بشؤونهم.
والحوار لا يعنى به القوى السياسية فقط، بل هو رسالة لبث الثقة. وقد تحدث الرئيس عن ضرورته من أجل تدشين الجمهورية الجديدة. ونحن ننتظر وننظر كيف سيتم ذلك.
الحوار هو مجرد مناقشة تطرح فيها رؤى وتصورات وأفكار يتم التعامل معها سواء بالقبول أو الرفض أو التصحيح أو الاستفادة بجزء منها. وأعتقد أن المناقشة في حد ذاتها قد يستفيد منها النظام إذا كان يرى أن فيها حلولًا وتصورات للمشاكل التي تواجهه. وبغض النظر عن الاستفادة. الحوار في حد ذاته هو الطريق الصحيح.
كيف يثق الشعب في الحوار ومخرجاته وأنه يطرح مشاكلهم ويتعامل مع معاناتهم؟
أعتقد أن هذا هو أهم شيء في الحوار ومعيار نجاحه أن يحظى بثقة الشعب. لأن الناس عبر السنوات الماضية فقدت الثقة في كل النخب السياسية نتيجة التفريغ المتعمد للكوادر من الفصائل السياسية وعدم وجود قواعد لاختيار أعضاء البرلمان.
العامل الوحيد في هذه الثقة هو صدق الحوار، والكلام بلسان الناس ومخاطبة قضاياهم. وجزء من ذلك يتوقف على مع من يجرى الحوار؟ ومن يتحاورون؟ بمعني أن من يستدعى للحوار، هل أسماء وتوجهات معروفة أم الاختيار لقوى معبرة عن الشارع ووجهة نظره.
يضاف إلى ذلك وجود خطوات تنفيذية ووضع ما يطرحه الحوار في محل التنفيذ. ويبقى أن ننبه أن غياب الحوار في ظل الأزمات الخانقة، يمكن أن يخلق حالة فوضى. وهو أكثر ما نخشاه في الفترة الحالية والمستقبلية، وكل مخلص لهذا البلد حتى لو اختلف مع النظام الحالي. فلا يسعى أو يريد حدوث فوضى، لأننا في ظرف تاريخي ودولي بالغ الخطورة وشديد التعقيد، وأي هزات يمكن أن نتعرض لها خطر شديد وهو ما يستدعي الحوار كضرورة، وليس مجرد رفاهية الحديث.
كذلك هناك ضرورة ملحة لفتح المجال أمام الإعلام لخلق آفاق لكافة الآراء ومختلف الأفكار والرؤى ليكون منفذاً للجمهور ومعبراً عن معاناته وأحلامه، كذلك تغيير الوجوه الإعلامية التي أصبحت مرفوضة من عدد كبير من الناس.
كما أن الإفراج عن معتقلي الرأي وكافة السجناء ممن لم يتورطوا في أعمال عنف وإرهاب أو تحريض عليه يخلق مناخاً إيجابياً ضرورياً للحوار وثقة في الرغبة في إنجاح الحوار.