باسم الدفاع عن العلمانية منعت فرنسا ارتداء الحجاب في المؤسسات العامة ومنعت معه المظاهر الدينية في أي مؤسسة حكومية. فلن تجد صليبًا على حيطان مصلحة حكومية كما في إيطاليا، أو تبرك بالمصحف في مداخل كثير من المؤسسات كما في مصر. وفي الوقت نفسه باسم العلمانية، دافع الرئيس ماكرون أثناء حملته الانتخابية عن حق المسلمات في ارتداء الحجاب في الأماكن العامة. ذلك بعد أن طالبت مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان منعه في الشوارع والمواصلات العامة.
ويمكن القول إن النموذج الفرنسي من أكثر النماذج السياسية في أوروبا وربما العالم دفاعًا عن العلمانية “بمعناها الفرنسي” أي الفصل الكامل بين الدين والمجال العام وليس فقط السياسي. وهو مجتمع في مجمله ليس محايدًا تجاه المظاهر الدينية وخاصة الحجاب. فهو يقبله في الشارع أو المواصلات العامة على مضض ويمنعه في أي مؤسسة عامة أو حكومية.
وقد وقفت فرنسا حجر عثرة أمام بوست أوروبي وضع صور نساء متعددات الأعراق والألوان إحداهن ترتدي الحجاب، في دعوة للتسامح وقبول الآخر. ونجحت في منعه واعتبرته يروج للتطرف.
الفارق بالقطع كبير بين بريطانيا التي تسمح بارتداء الحجاب في المؤسسات الحكومية وتعطي الحق لشرطية مسلمة أن تغطي رأسها بشرط أن تضع شارة الشرطة على حجابها وكذلك تفعل مع السيخ دون أي حساسية.
لقد باتت فرنسا من أكثر دول العالم رفضًا للحجاب. وهي تعتبره أحد مظاهر مناهضة العلمانية. ويبقي السؤال: هل هذا الموقف يمكن تبسيطه بأنه “عداء للإسلام” أم أن هناك خصوصية للعلمانية الفرنسية جعلتها تتخذ هذا الموقف من المظاهر الدينية بما فيها الحجاب؟
من الصعب فهم كثير من المواقف التي اتخذتها فرنسا تجاه قضية الحجاب بعيدًا عن فهم طبيعة النموذج العلماني الفرنسي والإشكاليات التي يثيرها كمدخل لفهم السياق التاريخي لخبرة ثقافية وسياسية مختلفة عن بلادنا.
وقد شكل قانون 1905 الأساس الحاكم للقواعد المنظمة للنظام العلماني الفرنسي والذي ينص على عدم قيام الدولة بالإنفاق على المؤسسات والهيئات الدينية. وإجراء فصل كامل بين المجال العام والدين. وهو يعني رفض أي مظهر ديني في المؤسسات العامة. فلا تجد على لوحه الشرح في المدارس الحكومية صليبًا معلقًا مثل كثير من المدارس الأوروبية، ولا يسمح بالحجاب أو غطاء الرأس في أي مؤسسة حكومية. وهذا ينطبق على القلنسوة اليهودية وليس فقط الحجاب الإسلامي.
واللافت أن المدارس الكاثوليكية الخاصة في فرنسا هي التي قبلت الطالبات المسلمات بعد استبعاد من تمسك منهن بارتداء الحجاب من المدراس الحكومية. بما يعني أن المتدينين كانوا أكثر انفتاحًا وقبلوا في مشهد متحضر المسلمات المحجبات دون أن يطالبوا بتغيير قوانين الجمهورية العلمانية بمنع المظاهر الدينية في المدارس الحكومية.
صحيح، أن العلمانية الفرنسية تشغل نفسها بتفاصيل كثيرة وتسعي للوصول لعلمنة كاملة للمجال العام ليصبح “خاليًا” من أي مظاهر دينية. فترفض الحجاب وتثير معارك حول لباس البحر “البوركيني” وتهتم بمنع تقديم وجبات حلال في أحد سلسلة مطاعم “الهامبرجر” الفرنسية الشهيرة. على اعتبار أن تقديم اللحم الحلال يهدد العلمانية. وهي قضايا لا تشغل بال أبناء الثقافة “الإنجلوسكسونية” في بريطانيا وأمريكا (إلا المتعصبين منهم). ولم تمنعها حكومات هذه الدول بما فيها حكومة ترامب.
وقد عاد وفتحت مرة أخرى قضية علاقة الدين بالمجال العام عقب إعلان ماكرون محاربة ما سماه “الانفصالية الإسلامية” أي منع التمويل الأجنبي للمدارس الدينية. ومواجهة الكتاتيب وفصول الدراسة الإسلامية التي تعلم التلاميذ تعليمًا دينيًا موازيًا للتعليم الحكومي. وقد هاجم بشدة التيارات المتطرفة والسلفية، ومن يسعون لفرض الحجاب على الفتيات الصغيرات كمظهر أيديولوجي متشدد. ودافع بشراسة عن مبادئ العلمانية الفرنسية.
واللافت أن ماكرون الذي نظر له البعض في العالم العربي باعتباره “معاديًا للإسلام” عاد وهاجم بشراسة طرح مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان بمنع الحجاب في الأماكن العامة. واعتبر أن هذا الطرح سيجعل من فرنسا هي البلد الوحيد في الكرة الأرضية التي يمنع فيها الحجاب في الشوارع والمواصلات العامة، واعتبره توجه مناهض للعلمانية الفرنسية.
قضية الحجاب حضرت في الانتخابات الفرنسية بقوة، ولأول مرة نجد رئيس فرنسي يؤمن تمامًا بالنموذج العلماني الفرنسي مثل ماكرون، يضطر أن يدافع عن حرية ارتداء الحجاب طالما كان خيارًا شخصيًا، وطالما كان خارج المؤسسات العامة كما تنص قوانين الجمهورية.
لا أحد يتصور أن بلدًا يزوره 70 مليون سائح يرتدي كثير منهم أزياء هندية وخليجية وغطاء رأس بكل صورة وأشكاله، ويعيش فيه 6 ملايين شخص من أصول غير فرنسية ويكون هناك من يريد منع غطاء الرأس في الشوارع.
هذا الطرح خسرت فيه مارين لوبان ليس فقط الغالبية الساحقة من أصوات المسلمين (صوت 69% منهم لمرشح أقصى اليسار ميلنشون) إنما أيضًا كثير من أصوات الفرنسيين ممن لهم علاقة بالعالم الخارجي سواء من العاملين في الفنادق والمطاعم أو زاروا العالم العربي وعرفوا ثقافات ومجتمعات أخرى، واعتبروا هذا الطرح كارثة على فرنسا اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا.
سيبقى فهم خصوصية النموذج العلماني الفرنسي مدخلًا لفهم كثير من المواقف المركبة تجاه قضية الحجاب. فهو يرفضه في المؤسسات العامة ويقبله في الأماكن العامة. ويرفض الإجبار على ارتدائه أو منعه في المجال الخاص. وهي قضية قد تدفعنا في العالم العربي لإعادة التفكير في طريقة الحوار مع العالم وخاصة المجتمعات والثقافات المختلفة عنا، بعيدًا عن ثقافة الدعاة الجدد التي راجت في فترة من الفترات. وهي ترفع شعارات إقناع الفرنسيين بعظمة النبي الكريم أو هداية الأوروبيين للإسلام. في حين أن المطلوب فهم واحترام متبادل لنماذج وخبرات تاريخية وثقافية مختلفة.