مع وصول مفاوضات إحياء الاتفاق النووي لمراحل حاسمة في ظل الإشارات الأمريكية بشأن إزالة الحرس الثوري من قائمة الإرهاب الأمريكية. بالإضافة إلى إلغاء العقوبات الاقتصادية على قطاعي النفط والمصارف الإيرانية. تتسارع خطى القوى الخليجية وفي المقدمة منها المملكة العربية السعودية في محاولة لصياغة معادلة أمنية جديدة لضمان أمنها في مقابل الانسحاب الأمريكي من المنطقة وتخفيض مستوى التزام واشنطن تجاه أمن حلفائها بالخليج.
فكل خطوة يتم التقدم بها نحو إنهاء الملفات العالقة بين واشنطن وإيران لإحياء الاتفاق تسارع خطى السعودية عبر عدد من المسارات. وذلك لاحتواء التداعيات التي سيخلفها إتمام الاتفاق.
فمخاوف السعودية بشأن رفع الحرس الثوري تتجاوز ما ستحققه طهران من انتصار شكلي إلى زيادة النشاط الإيراني في المنطقة. وهو ما من شأنه استهداف مصالح المملكة.
منذ اللحظات الأولى لوصول بايدن للبيت الأبيض وهزيمة الحليف الاستراتيجي للمملكة دونالد ترامب أدرك العاهل السعودي وولي عهده صعوبة الأيام القادمة في ظل الموقف المسبق الذي أعلنه الرئيس الأمريكي الجديد خلال حملته الانتخابية. خاصة بشأن ولي العهد وقناعته بتورطه في مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول وتعهده بجعله “منبوذا”.
أمام تلك التهديدات بدأت الرياض التحرك عبر مسارات في إطار صناعة استراتيجية دفاعية وتحالفات أمنية بالشكل الذي يجعلها في منأى عن شظايا إحياء الاتفاق النووي.
تصفير الأزمات
تحركت المملكة سريعا عقب وصول بايدن للبيت الأبيض لتدارك الخلافات بين دول مجلس التعاون الخليجي. وقادت جهود إنهاء القطيعة الرباعية لقطر. وتبع ذلك السعي نحو تقريب سلطنة عمان إلى دوائر النفوذ السعودي مجددا بعد فترة طويلة من العزلة للسلطنة. وربما يكون ذلك إدراكا من جانب الرياض لقيمة السلطنة التي نأت بنفسها طوال السنوات الماضية عن الدخول في أي صراعات. ما جعلها طرفا مرحبا به على كافة موائد التفاوض الخاصة بأزمات المنطقة.
ولتوثيق علاقة المملكة بالسلطنة قامت بتوقيع شراكة اقتصادية معها تضمنت افتتاح الطريق البري لربط السعودية بمواني عمان. لتكمل الرياض الربط المباشر مع كل دول مجلس التعاون الخليجي بطرق عالية الجودة.
استعادة التحالفات القديمة
ثاني الأزمات التي سعت الرياض للتعامل معها بشكل عاجل نظرا لحساسيتها كانت استعادة العلاقات مع تركيا. خاصة في ظل تأثيراتها غير المباشرة على مستقبل الحكم في المملكة. لارتباطها الوثيق بجريمة اغتيال خاشقجي. كون الجريمة وقعت على أراضيها. وتأكيدات مسؤولين أتراك بارزين عبر التصريحات المباشرة تارة والتسريبات تارة أخرى بشأن امتلاك أنقرة أدلة على تورط ولي العهد. بخلاف المحاكمة القضائية لعدد من الشخصيات السعودية المتورطة في القضية.
وأبدت الرياض منذ اللحظة الأولى استعدادها لتجاوز الخلافات مع تركيا والاتجاه لاستعادة مستوى العلاقات بين البلدين. وساعدها في ذلك الأزمة الاقتصادية وتهاوي الليرة التركية وحاجة النظام الحاكم في تركيا إلى مزيد من الاستثمارات لدعم أنقرة في أزمتها الاقتصادية. كما صادف ذلك رغبة تركية في تصفير أزماتها بالمنطقة.
وتكللت تلك الجهود مؤخرا بزيارة للرئيس التركي إلى السعودية تعد الأولى من نوعها التي يلتقي خلالها بولي العهد السعودي بعد سجالات واتهامات متبادلة.
إعادة النظر للأردن ودور في القضية الفلسطينية
وضمن خطوات استعادة التحالفات القديمة وتعزيز دور المملكة في المنطقة وامتلاك أدوار وأوراق ضغط تسمح لها بهوامش واسعة للحركة وتجنبها الضغوط عمدت الرياض مؤخرا إلى إعادة تأكيد الروابط مع الأردن. وذلك عبر انخراط مباشر في قضية الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية بالقدس. وتأكيد دعمها للعاهل الأردني عبد الله بن الحسين في تلك القضية. وسط تخفيض لمستوى الجانب الظاهر من الاتصالات مع إسرائيل. والتأكيد في الجانب المعلن منها أن أي تطبيع مع إسرائيل سيكون هشا طالما لم يعمل على حل الأزمة الأساسية الخاصة بالقضية الفلسطينية. وهو ما عبر عنه وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في تصريحات فبراير الماضي.
كما عملت الرياض أيضا على إعادة توثيق علاقتها بمصر. ورفع مستوى العلاقات مجددا لتصل حد التحالف. بعد حزمة من الدعم الاقتصادي السعودي بلغ في شق منه نحو 8 مليارات دولار في صورة ودائع بالبنك المركزي خلال خمسة أشهر فقط. بواقع وديعة في نوفمبر الماضي بقيمة 3 مليارات دولار وأخرى بقيمة 5 مليارات دولار نهاية مارس الماضي.
بناء تحالفات جديدة
وفي محاولة لبناء توازنات جديدة تتواءم مع مرحلة ما بعد الاتفاق النووي. وكذلك تتلاءم مع حالة الانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط. وتخفيض التزامها بأمن الخليج ووضع قيود على تزويدهم بالأسلحة المتطورة. عملت الرياض على توسيع علاقتها مع الصين في محاولة لتعويض فراغ المساحة التي خلفها الانسحاب الأمريكي.
ووصل ذلك ذروته في محادثات مع بكين متعلقة بتوسيع التعاون الاقتصادي وإمكانية استبدال العملة الصينية بالدولار في دفع أموال النفط السعودي. وجاء ما كشفته تقارير استخبارية أمريكية بشأن عمليات نقل واسعة النطاق لتكنولوجيا الصواريخ الباليستية الحساسة بين الصين والسعودية. لمساعدة الأخيرة على إنتاج الصواريخ الباليستية ليكشف حجم التوسع في العلاقات بين الرياض وبكين مؤخرا.
التعاون الصيني السعودي في مجال تصنيع الصواريخ الباليستية جعل إدارة بايدن أمام أسئلة ملحة حول ما إذا كان التقدم السعودي في مجال الصواريخ الباليستية يمكن أن يغير بشكل كبير ديناميكيات القوة الإقليمية ويعقد الجهود لتوسيع شروط الاتفاق النووي مع إيران. ليشمل قيودًا على تكنولوجيا الصواريخ الخاصة بها وهو هدف تشترك فيه الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل ودول الخليج.
التحاور مع إيران
بعد ست سنوات من القطيعة اتجهت الرياض إلى الطرف الرئيسي المحرك لمخاوفها إلى جانب تحركاتها الرامية لتأمين مصالحها. وبات شعار حكام المملكة “لماذا لا يتم الحديث مع إيران مباشرة بدلا من كل هذه الجهود والكلفة الخاصة بالاحتماء من تحركاتها؟”.
وفتحت السعودية حوارا مباشراً مع إيران بوساطة عراقية–عمانية على مدار خمس جولات كان آخرها منتصف أبريل الجاري بالعاصمة العراقية. وذلك بحضور مسؤولين كبار من الأمانة العامة للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني ورئيس جهاز المخابرات السعودي بحسب ما كشفه موقع نور نيوز التابع للمجلس الأعلى للأمن القومي.
وكانت الرياض قد أعلنت قطع علاقاتها مع إيران عام 2016 على وقع تصاعد الأزمة بين البلدين إثر إعدام السلطات السعودية لرجل الدين الشيعي نمر النمر. وما تبع ذلك من مهاجمة متظاهرين إيرانيين للسفارة والقنصلية السعوديتين في إيران.
ومنذ ذلك الحين تصاعد التوتر بين السعودية وإيران وتزايدت حدة الخلافات بينهما في كافة القضايا الإقليمية. خاصة في اليمن وسوريا ولبنان. لكن يبدو أن الفترة الماضية قد شهدت بعض التغيير في شكل العلاقة. خاصة مع تصريح أعرب فيه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن أمله في أن “تؤدي المحادثات مع إيران إلى نتائج ملموسة لبناء الثقة وإحياء العلاقات الثنائية”.
وكان واضحا مؤخرا حرص المملكة على إنجاح مساعي الوساطة بشأن المحادثات الثنائية مع إيران وتجنبت الرياض الوجود في ثلاث قمم جرت مؤخرا في النقب بإسرائيل وشرم الشيخ في مصر والعقبة في الأردن. والتي جاءت تحت هدف أساسي متعلق بتكوين تحالف أمني عربي إسرائيلي ضد إيران.
مسارات لتحفيز التقارب الأمريكي الإيراني خارج إطار فيينا
منذ توقف المفاوضات مؤخرا في فينا فإن التحركات خارج فيينا لم تتوقف للدفع باتجاه الاتفاق في أسرع وقت عبر مسارات بديلة للمفاوضات التي عطلتها الحرب الروسية على أوكرانيا.
جميع تلك المسارات اقتصر على إدارة المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة. باعتبارهما الطرفين الأساسيين في الاتفاق النووي. في الوقت الذي لم يعد هناك ما يمكن التفاوض عليه بين طهران وشركاء الاتفاق النووي الأوروبيين والقضايا العالقة هي ثنائية بين طهران وواشنطن.
أول تلك المسارات تقوده مفوضية السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي. ووفقا للمتحدث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زادة فإن نائب رئيس المفوضية الأوروبية أنريكي مورا لا يزال ينقل الرسائل بين طهران وواشنطن.
المسار الأوروبي نجح مؤخرا في دفع الطرفين تجاه تفاهمات غير معلنة منحت خلالها واشنطن الضوء الأخضر لعودة إيران لسوق الطاقة بطريقة غير رسمية. بحيث إنها حاليا تبيع يومياً أكثر من مليوني برميل من نفطها.
في المقابل ستتجنب إيران اتخاذ خطوات نووية تصعيدية وستسهل عمليات التفتيش للوكالة الدولية للطاقة الذرية وتزيدها بشكل محدود فضلا عن خفض إجراءات نووية.
المسار الثاني تقوده عُمان ويركز على إنجاز صفقة تبادل السجناء بين أمريكا وإيران. فضلاً عن الإفراج عن أرصدة إيرانية في الخارج في إطار الصفقة. وخلال جولات من المفاوضات باتت هناك صفقة شبه جاهزة بين الطرفين تشمل الإفراج عن 3 سجناء مزدوجي الجنسية في إيران وسجناء إيرانيين في أمريكا فضلاً عن الإفراج عن 7 مليارات دولار من الأرصدة الإيرانية المجمدة في الخارج.
قطر تجمع الكل
أما الثالث فتقوده قطر ويعمل بشكل رئيسي على جمع الأمريكان والإيرانيين على مائدة تفاوض مباشر لحل القضايا المتبقية في مفاوضات فيينا. في الوقت الذي لا تزال فيه طهران متمسكة بتقديم واشنطن تنازلات كبيرة مرتبطة بأرصدتها المجمدة في الخارج. ويمكن توصيف ذلك المسار أو الدور الذي تقوده الدوحة في هذا الإطار بـ”المكمل”.
المسار الرابع لإحياء الاتفاق الذي انسحب منه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مرتبط بالمفاوضات المباشرة بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية. بشأن حلحلة القضايا الخلافية المتبقية بينها حول ثلاثة مواقع مشتبه بممارستها أنشطة نووية غير معلنة. بعد أن عثر مفتشو الوكالة قبل عامين على مواد نووية فيها.
ورغم الاستقلالية التي يتمتع بها هذا الملف فإنه لا يمكن التوصل إلى اتفاق في مفاوضات فيينا دون إنهاء هذا الملف. حيث تشترط إيران إغلاق ملف خلافاتها مع الوكالة قبل التوصل لاتفاق نهائي.