يرى المراقبون الفترة منذ أواخر القرن العشرين، وحتى اندلاع ثورات الربيع العربي. على أنها فترة استقرار نسبي في الشرق الأوسط. فرغم وجود بعض الصراعات، إلا أن العنف نادرًا ما أدى إلى تغيير جذري. وباستثناء غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003. لم تشهد المنطقة أعمال عسكرية ضخمة.
ربما -فقط- جاء بعض الدكتاتوريين وذهبوا. وتغيرت الحدود وحتى الأنظمة قليلاً. بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 -والمعروفة في الغرب بـ “حرب يوم الغفران/يوم كيبور”- توقفت معظم الدول الكبرى في المنطقة عن محاربة بعضها البعض بشكل مباشر. اعتمدت استراتيجيات أخرى بدلًا من الهجمات التقليدية. لكن، استغرق الرئيس العراقي صدام حسين والزعيم الليبي معمر القذافي وقتًا أطول لفهم ذلك. كانا الاستثناءان اللذان أثبتا القاعدة.
كان أساس هذا الاستقرار هو توازن عسكري منحرف، أثبت أنه شبه مستحيل للتغيير. كانت رعاية الولايات المتحدة لإسرائيل لا تنقطع لجعلها قادرة على هزيمة أي خصم. على الطرف الآخر، كانت الدول العربية -لفترة طويلة- غير قادرة على شن حرب حديثة بشكل فعال حتى ضد بعضها البعض. حتى جاءت موجة التحديثات الكبرى في جيوش مصر والإمارات. وسقطت إيران وتركيا بين الطرفين.
دافعت الولايات المتحدة وإسرائيل بقوة عن الوضع الراهن. فقد كانا يميلان إلى العمل للحفاظ على النظام الحالي، بدلاً من إعادة تشكيله. هنا أيضًا، أثبتت الاستثناءات القاعدة. استخدمت إسرائيل القوة لمحاولة تغيير لبنان عام 1982، ودفعت ثمن ذلك 18 عامًا من حروب العصابات. وفعلت الولايات المتحدة الشيء نفسه في العراق عام 2003 وحصلت على مصير مماثل.
اقرأ أيضا: ما بعد أمريكا.. البحث عن الفرص والمخاطر في الشرق الأوسط (1-2)
تمزيق التوازنات الجيوسياسية التي حكمت الشرق الأوسط
لم يشهد الشرق الأوسط حربًا تقليدية كبرى منذ أكثر من 30 عامًا. الاستثناء الجزئي الوحيد كان حرب لبنان عام 2006. عندما حاربت إسرائيل حزب الله. وكان هذا أيضًا استثناءً يثبت القاعدة “لا أحد يريد الحرب”. فكلاهما تعثرا فيها، وأصيبا بصدمة شديدة من النتائج، لدرجة أنهما لم يكررا أخطائهما منذ ذلك الحين.
لكن، كل ذلك بدأ يتغير. في السنوات الأخيرة، بدأت الشرنقة الجامدة للتوازن العسكري في الشرق الأوسط في الانهيار، مهددة بإعادة تشكيل المشهد في المنطقة. مع ظهور تقنيات عسكرية ومدنية جديدة، وبينما تفكر الولايات المتحدة في دور أصغر في الشؤون الداخلية للمنطقة. تجد دول المنطقة صعوبة متزايدة في معرفة من له اليد العليا الاستراتيجية.
بدأ التحرك الهادم لهذا التوازن بعد اندلاع الحروب الأهلية التي تدخلت فيها القوى الإقليمية والدول الكبرى. وبعد إقناع الحكومات التي تواجه قتالًا شديدًا من المعارضة، بأنها قد تنتصر بمساعدة أسلحة جديدة وغير مختبرة. فإن ظهور عصر حرب المعلومات يهدد بتمزيق القوانين الجيوسياسية التي حكمت الشرق الأوسط لما يقرب من نصف قرن.
شهدت السنوات من 1948 إلى 1973، صراعاً بين الدول العربية وإسرائيل. بعد اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل 1979 -والتي مهّدت بعد عقود لاتفاقيات إبراهيم– انتقل التوتر إلى جانب آخر، فقد طور الإيرانيون بعض القدرات الجديدة غير المتوقعة. خلال السنوات الأولى للحرب الإيرانية– العراقية التي أخافت جيرانهم والولايات المتحدة. ولكنهم بعد ذلك بالغوا في تقدير مدى قدرة قواتهم بالفعل. بينما -من البداية إلى النهاية- بالغ صدام حسين في تقدير القدرات العسكرية العراقية.
يشير كينيث بولاك، الزميل في معهد أمريكان إنتربرايز. إلى أن اليوم، هناك أسئلة أكثر بكثير من الإجابات حول الحرب. يقول: كلما زاد ضباب الحرب على المنطقة، زاد احتمال تعرض تلك المنطقة لأهوال الحرب. إن الفهم الواضح للتوازن العسكري في الشرق الأوسط. الذي كان يومًا ما أساس استقراره النسبي. يتفكك أمام رياح التغيير التكنولوجي والاستراتيجي الجديد. ولذا، يجب على الجميع الاستعداد لإعصار الصراع المستقبلي في منطقة لا تحتاج إلى المزيد.
حروب المستقبل
مثلما أعادت الثورة الصناعية تشكيل القتال تمامًا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. تفعل ثورة المعلومات ذلك اليوم. ومثلما استغرقت الجيوش ما يقرب من قرن من الزمان لفهم شكل الحرب الناضجة – ممارسة الحرب بشكل صحيح والتنبؤ بدقة بالقدرات العسكرية النسبية- فهي تحاول اليوم اكتشاف كيف ستخوض الحروب وسط تقنيات جديدة ناشئة. لكن، لا أحد يعرف حتى الآن أيها سيصبح مهيمنًا في الحرب، وأيها سيثبت هامشيًا.
يلفت الخبير العسكري جاي ميشو. وكينيث بولاك، الزميل في معهد أمريكان إنتربرايز. إلى أن التغييرات التكنولوجية العميقة في الحرب غالبًا ما تتبع مسارًا من ثلاث مراحل. فـتبدأ التكنولوجيا الجديدة على أنها أكثر من مجرد حداثة. ثم يُنظر إليها باعتبارها رصاصة فضية لمشكلة قائمة. مثلما حدث مع انطلاق الحرب العالمية الأولى، عندما بدأت القوات الجوية في تقديم وعود لتوجيه ضربات مباشرة إلى العدو. وقاعدته الصناعية، وسكانه، وحتى حكومته. بعد الحرب، أخذ الجنرال الإيطالي والمنظر العسكري جوليو دوهيت هذا المفهوم إلى نهايته المنطقية. اقترح أن القوة الجوية يمكن أن تتخطى بالكامل مذبحة الحرب البرية، مما يتيح انتصارات سريعة وحاسمة بأقل قدر من إراقة الدماء. على الأقل للجانب الذي يمتلك أكبر وأفضل قوة جوية. في النهاية، أثبتت بعض التقنيات الجديدة أنها ذات قيمة كبيرة لدرجة أنها تؤدي إلى مجالات القتال الخاصة بها.
في الوقت الحالي، لا أحد يعرف ما هي ابتكارات ثورة المعلومات التي قد توسع كل المراحل الثلاث وتؤدي إلى تطوير مجالات حربية حاسمة جديدة. حتى الآن، يبدو أن الحروب السيبرانية هي المرشح الأكثر ترجيحًا. على الرغم من الفوائد المحدودة التي جنتها روسيا منها خلال المراحل الأولى من غزوها لأوكرانيا.
اقرأ أيضا: خادم الإرهابيين المطيع.. الدرونز سلاح القرن الرخيص: كيف تطيل حربا من الجو؟
حروب الطائرات بدون طيار
تظهر الطائرات بدون طيار بسرعة كمكون حيوي في حرب عصر المعلومات. كثير منها رخيص الثمن. مثل ألعاب الأطفال المحسّنة. ولأنها غير مأهولة، فإنها جذابة للبلدان التي تحجم عن التضحية بمواطنيها في الحرب. علاوة على ذلك، فإن الطائرات بدون طيار هي نفسها ذخيرة حرب المعلومات النهائية. يمتلك العديد منها نطاقًا كبيرًا، وأجهزة استشعار مدمجة، وقدرات خلسة، وقدرة على تنفيذ ضربات دقيقة.
كذلك، يمكن للعديد من الطائرات بدون طيار الرخيصة التهرب من الكشف عن طريق تقنيات باهظة الثمن. بما في ذلك رادارات الإنذار المبكر والدفاع الجوي التقليدية. كما يصعب تدميرها بأسلحة دفاع جوي، باهظة التكلفة ودقيقة بما يكفي لإلحاق أضرار مؤلمة بالأهداف المعرضة للخطر.
حاليًا، هناك إمكانات هائلة لتحسين قدراتها الذاتية لتتناسب مع الإجراءات المضادة المستقبلية وربما تفوقها. وربما إلى أجل غير مسمى. تعمل العديد من البلدان على طائرات صغيرة يمكنها التهرب بسهولة من الاكتشاف، وأسراب الطائرات بدون طيار المصممة للتغلب على الدفاعات. وأسراب الطائرات الصغيرة التي يمكنها القيام بالأمرين معًا.
الآن يجري العمل للتغلب على نقطة ضعف رئيسية واحدة للطائرات بدون طيار. وهي حاجتها إلى شكل من أشكال التوجيه من عامل على الأرض. يمكن لأنظمة القيادة والتحكم المتطورة والطائرات بدون طيار المستقلة الموجهة بالذكاء الاصطناعي أن تقضي على هذه النقطة. وإن كان ذلك في خطر بسبب الخوارزميات التي قد تسبب خراب غير المقصود.