بعد شهور من انتصار أكتوبر 1973 وقبيل لقائه مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كينسجر بدأ الرئيس الراحل أنور السادات في الترويج لما أُطلق عليه حينها “ورقة أكتوبر”. والتي تهدف إلى “رسم معالم الرؤية الاستراتيجية الحضارية الشاملة لمصر”. والعمل على “إيجاد تصور شامل لبناء الدولة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا حتى عام 2000”.

كشف السادات عن مضمون الورقة في نهاية أبريل 1974. وتم التسويق لها في الصحف باعتبارها “فتح جديد” وبداية لـ”بناء الدولة الحديثة القادرة”. عُرضت الورقة على الشعب في استفتاء عام في 15 مايو من العام نفسه. وكعادة الاستفتاءات في مصر وافق نحو 99% من المصريين على ما طرح عليهم.

الصياغة النهائية للورقة جاءت بعد حوارات ومناقشات أجراها السادات مع مستشاريه. وضمت المسودة الأخيرة تصورات ورؤى الرئيس وتم حصرها في 10 أهداف رئيسية وهي:

1- تحقيق التنمية الاقتصادية بمعدلات تفوق كل ما تحقق حتى عام 1974.

2- إعداد مصر حتى عام 2000 مما يضمن توفير أسباب استمرار التقدم للأجيال المقبلة.

3- الانفتاح الاقتصادي في الداخل والخارج الذي يوفر كل الضمانات للأموال التي تستثمر في التنمية.

4- التخطيط الشامل والفعال والذي يكفل بالعلم تحقيق الأهداف العظيمة للمجتمع.

5- دعم القطاع العام وترشيده وانطلاقه تمكيناً له من قيادة التنمية.

6- التنمية الاجتماعية وبناء الإنسان.

7- دخول عصر العلم والتكنولوجيا.

8- التقدم الحضاري القائم على العلم والإيمان.

9- المجتمع المفتوح الذي ينعم برياح الحرية.

10- المجتمع الآمن الذي يطمئن فيه المواطن على يومه وغده.

بعد أسابيع من الاستفتاء تم الإعلان عن عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والولايات المتحدة. وزار الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون القاهرة في يونيو من العام نفسه. وكان من ضمن نتائج الزيارة إلغاء الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف زيارته لمصر.

بعدها بدأت البوصلة السياسية لمصر تتحول في اتجاه المعسكر الغربي. وبعد أقل من عامين وبالتحديد في 29 مارس 1976 ألغى السادات معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفييتي، ثم وضع 99٪ من أوراق اللعبة في يد أمريكا.

بالتوزاي اتخذ السادات بعض السياسات الشكلية المتوافقة مع نموذج حلفائه الجدد “لا نخشى الخلاف في الرأي ولا النقاش الحر ولا التعبير عن المصالح المختلفة لقوى الشعب”. فقرر إلغاء الرقابة على الصحف لكنه رهن القرار بأن تعمل الصحافة على تعظيم كل ما هو إيجابي “نكشف الأخطاء في غير مغالاة، ونرفض كل محاولة لتركيز الأضواء كلها على الجوانب السلبية حتى تختفي من الصورة كل الجوانب المشرقة”.

وإمعانا في التماهي مع النموذج الغربي الذي مال إليه انتهج السادات ما عرف حينها بـ”سياسات الانفتاح الاقتصادي”. مبشرا بأن الرخاء سيعم ربوع المحروسة كنتيجة مباشرة لتوجهاته الحكيمة. لكن ما حدث أن الأمور تعقدت أكثر مما كانت عليه. معدلات النمو أخذت تتراجع بشكل مطرد. وضغطت الأزمة الاقتصادية بشكل مقلق فتصاعدت معدلات التضخم من 3-4% عام 1973 إلى 22.3% عام 1978. فيما سمي حينها بـ”التضخم الانفجاري”.

اعترف السادات في مطلع عام 1976 بأن الموقف الاقتصادي “آخذ في التدهور وأنه لا بد من التحكم في الموقف”. وفشل في إقناع الأصدقاء العرب في دعم الاقتصاد المصري بما يحتاج إليه من سيولة للخروج من “عنق الزجاجة”.

متوالية الفشل الساداتي قادت إلى انتفاضة الخبز 18-19 يناير 1977، التي نزل فيها ملايين المصريين إلى الشوراع للاحتجاج. ليس على رفع أسعار بعض السلع فحسب بل على مجمل سياسات السلطة. وهو ما عرض شرعية نظام كبير العائلة المصرية وبطل الحرب إلى شرخ كبير.

وبعد أن هدأت عاصفة انتفاضة الخبز سعى السادات إلى مراجعة ما جرى. فاستدعى عددا من خبراء السياسة والأمن والاقتصاد للوقوف معهم على حقيقة الموقف ووضع رؤية لتدارك آثاره.

كان الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل الذي كان بعيدا عن دوائر اتخاذ القرار منذ عزله عن موقعه كرئيس لتحرير “الأهرام” عام 1974 ضمن المجموعة التي التقاها السادات.

أشار الأستاذ على الرئيس بأن علاج أزمة الانفجار الذي جرى إثر سوء الأحوال الاقتصادية يتوقف على تشخيص السلطة للظاهرة. “إذا كان الرئيس يعتقد -كما كان يقول البعض حينها- بأن ما حدث كان مؤامرة من الناصريين والشيوعيين- إذا فإن العلاج لا بد أن يكون بأجهزة السلطة. وأما إذا كان التشخيص الحقيقي لما حدث -كما يقول آخرون وأنا من بينهم- بأن ما حدث كان انفجارا سياسيا له دواعيه الاجتماعية والاقتصادية- إذا فإن العلاج لا يمكن أن يكون بأجهزة السلطة وأدواتها. وإنما يتحتم أن يكون العلاج سياسيا واقتصاديا واجتماعيا”.

ويصف هيكل أزمة شرعية الأنظمة في العام الثالث ويقول: “عندما يجد نظام من النظم الحاكمة في العالم الثالث نفسه أمام أزمة مع جماهيره لا تكفيه لمواجهتها وسائله السياسية العادية. ولا تكفيه وسائل القمع البوليسي التي تمكلها الدولة. ولا تكفيه وسائل القمع المعنوي الذي يمكن أن تصنعه وسائل إعلامه. ثم يجد نفسه مضطرا إلى فرض الأحكام العرفيه وحظر التجول. واستدعاء القوات المسلحة لكي تمسك بزمام الأمور. معنى ذلك أن شرعية هذا النظام تكون قد أصيبت بكسر أو بشرخ كبير على الأقل. وكان ذلك بالضبط ما واجهه نظام السادات في أعقاب حوادث 18و19 يناير 1977”.

وكعادة الأنظمة التي فقدت توزانها واهتزت شرعيتها بسبب انهيار مستوى “الرضا الشعبي العام” حاول السادات أن يجري عملية “ترميم” لإخفاء الشرخ الكبير الذي أصاب واجهة نظامه. “كان أسلوبه في ذلك هو الأسلوب التقليدي الذي لجأ إليه دوما. وهو أسلوب الاستفتاء. لقد خرج من فترة الحيرة وقد استقر رأيه مع الذين يرون أن ما حدث يومي 18 و19 يناير كان مؤامرة خطط لها ونفذها بعض الشيوعيين وغيرهم ممن تحركهم الأروح الشريرة. وهكذا تقدم السادات إلى الناخبين باستفتاء يضم 11 مقترحا وكان على الناخبين أن يقولوا رأيهم في هذه المقترحات”. يضيف هيكل.

منح الاستفتاء للرئيس شرعية مواجهة شعبه بالعصا الأمنية. وتم تقنين عمليات الاعتقال التعسفي لكل المخالفين. وظهرت “أنياب” الديمقراطية التي بشر بها السادات في بداية حكمه ونهشت تلك الأنياب كل من حاول أو فكر حتى في هز مكانة السلطة.

بعدها باغت القائد المنتصر الشعب بإعلان درامي مفاجئ عن استعداده لزيارة القدس والخطاب في “الكنيست ذاته”. وانتهى الأمر بتوقيعه اتفاقية سلام منفرد مع العدو الصهيوني قبل أن تجف دماء الشهداء على رمال سيناء. وتعددت القفزات ومحاولات الهرب وتعددت معها الأزمات والصدامات مع معظم فئات المجتمع. حتى وصلنا إلى الفصل الأخير الذي شهد اعتقالات سبتمبر الشهيرة والتي جمع فيها السادات نخبة مصر خلف الأسوار. وشهد من قبلها تعديل مواد الدستور لتسمح ببقائه في الحكم لمدد غير محددة. لُيسدل الستار على مشهد النهاية باغتيال بطل الحرب في المنصة على أيدي أولاده.

تجربة السادات معتمدة لدى العديد من النظم الشمولية التي تبدأ بتبشير الشعوب بالرخاء والحرية والديمقراطية لتنتهي التجربة بالفقر والإفلاس والديكتاتورية وتسلط نظام الرجل الواحد. ثم يسدل الستار على التجربة تماما بمشهد درامي يختفي فيه الزعيم الأوحد لتبدأ دورة جديدة من الحكم. ينجح البعض في تدارك أخطاء أسلافه ويعيد البعض تلك الأخطاء كما هي دون تدبر أو تفكر فيما جرى.

في كلمته خلال إفطار الأسرة المصرية أول أمس الثلاثاء كلف الرئيس عبد الفتاح السيسي إدارة المؤتمر الوطني للشباب بالتنسيق مع التيارات السياسية الحزبية والشبابية كافة “دون استثناء أو تمييز” لإدارة حوار سياسي حول أولويات العمل الوطني خلال المرحلة الراهنة.

وأعلن السيسي خلال الحفل الذي حضره عدد من رموز المعارضة -على رأسهم المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي- عن إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي لبحث الحالات التي تم تشكيلها كأحد مخرجات المؤتمر الوطني للشباب. على أن توثق إعادة عملها بالتعاون مع الأجهزة المختصة.

وقال الرئيس: “لا أخفي عليكم سعادتي البالغة في خروج دفعات لعدد من أبنائنا الذين تم الإفراج عنهم خلال الأيام الماضية. وأقول لهم أن الوطن يتسع لنا جميعا. وأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية”.

تحدث الرئيس عن أولولويات الدولة خلال الفترة الماضية. وأشار إلى أن المواجهة مع الإرهاب كلفت الدولة مليارات الجنيهات التي كان من شأنها تحسين الأحوال الاقتصادية والمعيشية للمواطنين. لافتا إلى أن القوات المسلحة المصرية دفعت من دماء أبنائها وميزانيتها الكثير حتى نصل إلى حالة الاستقرار الذي ينعم بها الشعب المصري الآن.

يرى البعض أن ما طرح خلال هذا الحفل قد يمثل بداية جديدة لإدارة حوار جاد حول أولويات المرحلة المقبلة. ويراهن هؤلاء على أن يكون الحوار السياسي مخرجا لأزمات الدولة المتعاقبة وتفكيك لحالة الانسداد التي ضربت المجال العام في السنوات الأخيرة. بينما يعتقد آخرون أن إطلاق حوار بين السلطة ومعارضيها خلال تلك اللحظة ما هو إلا قنبلة دخان للتغطية على الإخفاقات والأزمات التي لاحقت الدولة. والناتجة عن هيمنة الصوت الواحد والرأي الواحد على قرارت الدولة.

بعد ساعات من حفل الإفطار صدر قرار عفو رئاسي عن الناشط والصحفي حسام مؤنس. وهو ما اُعتبر بادرة جيدة. فإطلاق سراح المحبوسين على ذمة قضايا رأي يعد خطوة أولى قبل الدخول في أي حوار سياسي. من شأنها التأكيد أن السلطة عازمة على فتح صفحة جديدة مع كل القوى السياسية المعترفة بمدنية الدولة.

نتائج الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد لن تؤثر على السلطة ولا شرعيتها فقط. بل ستطال الكارثة الجميع إن حلت. لذا ففتح حوار مع كل المكونات السياسية والاجتماعية والاقتصادية يدفع في اتجاه إشراك المجتمع في وضع رؤية لتجاوز وحلحلة توابع ما جرى.

وحتى يكون المجتمع مشاركا ومتفاعلا مع ما يدور في هذا الحوار يجب أن تكون أطرافه حاضرة في المنصات الإعلامية دون إقصاء أو تمييز. وأن تُعرض مناقشات وقضايا هذا الحوار بكل شفافية على الجمهور قبل الوصول إلى محطة المخرجات. فالمواطن هو المعني الأول بما يجري في تلك الجلسات.

هناك اتفاق على أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد هي نتاج تراكم سياسات خاطئة وانفراد السلطة باتخاذ قرارت في غيبة الشعب دون رقابة أو محاسبة أو مساءلة. وتغييب الرقابة والمحاسبة والمساءلة هو نتاج حصار العمل السياسي واحتكار الدولة لمفاتيحه. لذا فكسر تلك الحالة قد تكون بداية لبعث العمل السياسي الذي تم دفنه في مقابر الصدقة.

ظني أن جميع الأطراف ترغب في فتح صفحة جديدة. والفرصة لا تزال قائمة لتعديل المسار. فلا أحد يرغب في تعرض البلد إلى هزات جديدة. فعلى من يُحضر لفعاليات الحوار السياسي أن يشرك من البداية كل الأطراف في وضع أجندة محاوره. وأن يضمن حضور جلساته كل من له قدرة على طرح رؤية “دون تمييز أو استثناء”، وأن يفتح الباب أمام المنصات الإعلامية للاشتباك مع ما يجري مناقشات لهذا الحدث دون أن يضع أي خطوط حمراء. فالبلد تتسع للجميع والتحديات التي تواجهها تحتاج إلى الجميع.

“العلاج لا يمكن أن يكون بأجهزة السلطة وأدواتها. وإنما يتحتم أن يكون العلاج سياسيا واقتصاديا واجتماعيا” بحسب الروشتة التي وضعها الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل.