(ألم تأكل لحم أخيك يوماً؟)
أحكي في هذا المقال قصة عامل بناء فقير، عاش يحمل الحجارة والرمل لبناء بيوت الناس، وفي أحد الأيام سقط من أعلى فتحطمت جمجمته ومات، ولما حملوا جثته إلى البيت وضعتها زوجته وليمة ليأكلها المعزون، وأثناء (الجنازة/الوليمة) تحول النقاش حول سيرة الميت إلى شجار، وانسكب الشراب على جسد الميت، فنهض من كفنه راغبا في مواصلة حياته، لكنهم أعادوه إلى نعشه مؤكدين أن موته أفضل من حياته، فغافلهم “الميت العائد” وهرب من المدينة ليظهر بعد ذلك بأسماء وحيوات أخرى..
(كايوس)
هذا هو الحدث المركزي في رواية “يقظة فينيجان” لجيمس جويس، والمعنى المباشر للعنوان بسيط: “تيم فينيجان” هو اسم بطل القصة في حياته الأولى، أما كلمة “يقظة” فهي ترجمة حرفية دقيقة من حيث اللغة، لكن أحداث الرواية تأخذنا في متاهة غامضة وعجيبة تشبه الأحلام والكوابيس (كايوس)، لذلك نفكر في مفردات أخرى بديلة لكلمة يقظة مثل: “قيامة أو قيام أو صحوة أو بعث”، لأنها أقرب للعودة من الموت بينما كلمة “يقظة” ترتبط بالنوم أكثر، لكن هل كان فينجيان نائما أم ميتاً؟، ولماذا وكيف ظهر وعاش حياة شخصيات أخرى؟، وما دلالة ذلك الاسم الغريب (فينيجان)؟!
السؤال يظل غامضاً ومحيراً مثل أجواء الرواية التي اتفق نقاد العالم على أنها أعظم وأعقد رواية في تاريخ الأدب، وقد استغرق جويس في كتابتها 17 عاما حتى نهاية عمره، بينما استغرقت ترجمتها إلى الفرنسية 20 عاما، وهي المدة التي استغرقها المترجم المصري العظيم طه محمود طه لنقل رواية “عوليس” لنفس المؤلف، وربما أكثر من ذلك لترجمة “فينيجان” التي تأخر صدورها بالعربية لمدة 80 عاما تقريبا؟
هنا يبرز سؤال: هل تستحق قصة العامل “الكادح” كل ذلك العناء وكل تلك السنوات؟
وما هو الهدف والمغزى في قصة غرائبية عن ميت يصحو ويعيش حيوات صاخبة ويرتكب جرائم ويعترف بذنوبه وشهواته المحرمة؟
(هنا يأتي كل إنسان)
بدون تضييع العمر في التشويق أقول مباشرة إن “العامل الذي سقط فمات ثم عاش” هو أنا وأنت وكل الناس، ذلك هو التفسير الذي اهتدى إليه النقاد بعد قراءات وأبحاث مستفيضة، قالوا إن فينيجان يمثل “آدم” وزوجته تمثل “حواء”، والسقوط هو لحظة الإغواء، والهروب من المدينة هو الخروج من الجنة والنزول إلى الأرض، والحياة بأسماء أخرى هي التكرار اللانهائي لقصة البشر على الأرض، وهي قصة مكررة في عمومها، ومعروفة للجميع برغم اختلاف الأسماء والأحداث والتفاصيل، ويلخصها مثل فرنسي في ثلاث كلمات فقط: “نولد ونتعذب ونموت”، أما اسم فينيجان فهو مكون من كلمتين تجمع بين الميلاد والموت، بين البداية والنهاية، وفي نهاية الفصل الأول من الرواية يظهر في شخصية تدعى “HCE” وهي اختصار لعبارة ” Here Comes Everyman ” ومعناها “هنا يأتي كل إنسان”، أما الأحداث فتبدو متداخلة وغير مترابطة وتشبه الدوران في متاهة من الدوائر، فما هو المغزى؟
(إذا السماء انشقت)
في كل قراءة للقرآن أدون آية في مذكرة خاصة للبحث والتأمل غير التقليدي، ومن الآيات المدونة في مذكرتي الآية (6) في سورة “الانشقاق”: يا أَيها الإِنسان إنك كادحٌ إِلى ربك كدحاً فمُلاقيه، والسورة تتحدث عن الخلق ونشأة الكون ومصير الإنسان، والمعنى الواضح أن الحياة ليست إلا “رحلة كدح حتى نلقى الخالق”؟ وأن هذه الرحلة تتكرر بشكل حتمي ثلاثي نصوغه على وزن المثل الفرنسي: “نولد ونكدح ونموت”..
لهذا يقول العلماء أن الإنسان هو الكائن الوحيد من مخلوقات الله الذي يعرف أنه سيموت، أي أننا نعرف النهاية منذ البداية، فما الذي يدفع إنسان عاقل للاستمرار في مشوار يعرف أن موته في نهايته؟ لماذا لا يختصر المشوار ويحقق الهدف سريعاً؟
هذا واحد من الأسئلة التي حاول المتخصصون في دراسة دوافع الانتحار الإجابة عليها، لكن المتمسكون بالحياة من أمثالنا يقبلون ضمنا بفكرة الرحلة بصرف النظر عن النتيجة المعروفة، ويقبلون مع ذلك باللف في متاهة الدوائر، لذلك عندما استيقظ فينيجان من موته قال للمعزين المندهشين إن الشراب يعيد الحياة للموتى، وقد كان الويسكي هو شراب الوليمة، والاسم يعني بالأيرلندية “ماء الحياة”، أي أن هناك وسيلة للعودة الأبدية من الموت: نموت ثم نحيا ثم نموت ثم نحيا إلى مالا نهاية حيث يتحقق الخلود..
هل تشعرون بأن هذا عبث؟ أم تسلمون بفكرة العود الأبدي التي ارتبطت باسم نيتشة رغم طرحها في أفكار كثيرين قبله وبعده؟
(احمل صخرتك واتبعني)
لا أتذكر متى أصابتني حمى التأملات، لكنني أعود دائما إلى مرحلة في صبايا الباكر قرأت فيها اسطورة سيزيف لألبير كامو: إنسان متمرد يحكم عليه الإله بأن يدفع ضخرة من اسفل الجبل ليثبتها على قمته، وفي سبيله لتنفيذ العقوبة عرف سيزيف أن الصخرة لن تصل إلى القمة أبدا، فهي تفلت من يده وتتدجرح إلى أسفل مهما بلغ حرصه وقوته على عدم سقوطها، ولما أدرك سيزيف أن الإله حكم عليه بعقوبة تستهلك حياته كلها، لم يستسلم لفكرة أن حياة انتهت أو أنها تحولت إلى مأساة عبثية لقضاء العمر في عمل عبثي لا مردود له، ولم يفكر كذلك في إنهاء حياته للتخلص من العقوبة المقيدة بالكدح اللانهائي، لكنه قرر أن يعتبر العقوبة هي حياته، قرر ان يكون سعيدا بمهمته التي يعرف أن نتيجتها الفشل وعدم تحقيق شيء، قرر أن يجعل سعادته في عقوبته، قرر أن يسلك طريق الدوائر التي يصعد فيها الجبل، ثم يهبط وراء الصخرة ليدفعها لأعلى، ثم تسقط فينزل ويصعد وينزل ويصعد في عود أبدي
(عيد)
حالة العود الأبدي والتكرار اللانهائي هذه، هي أساس الاحتفال بالأعياد عند البشر، فالمخلوقات الأخرى لا تعرف الأعياد أيضا، البشر يحتفلون بفعل الإعادة: عيد.. عيد.. عيد: نجوع ونأكل، نشرف على الموت، ثم نقدم الفداء لنعيش مجددا، أو يسقط ماء الحياة على الميت ليصحو، أو ننكسر ثم ننتصر، أو نحتفل بتجدد الأيام والسنين، في كل الأحوال صرنا نبتهج بالعودة، بأن الأشياء يمكن أن تعود، وهذا مكمن الأمل الذي يحمي الإنسان السوي من الاحباط والانتحار والشعور بعبثية الحياة أو دورانها
(شربت حجرين ع الشيشة)
العيد في تعريفات أخرى (عند فرويد وليفي شتراوس مثلا) هو احتفال بكسر محظور ما، بمعنى أن العيد يتضمن إجازة للتمرد على الأفعال الطبيعية، أن تكون ممتمنعا عن الطعام في النهار فتأكل براحتك عادي، وأن تغيب من العمل، وأن تجهز الشيشة والبيرة لزوم إمتاع الضيوف في حفل الخطوبة والزواج، أن يذهب المراهقون إلى دور السينما لمعاكسة الفتيات، أن نفكر في شيء خارج عن المألوف (احنا في عيد بقى)
هذه المظاهر هي الأساس لفكرة التمرد التي احتار فيها البشر منذ الإنسان الأول الذي اخترع الأساطير لتفسير ظواهر الكون الغريبة حوله، وحتى أحمد دومة الذي وقف مكبلا وراء القضبان ليسخر من قاضيه وهو يدرك أنه سيحكم عليه بدفع الصخرة إلى أعلى الجبل، برغم أنه ليس إله، بل مجرد مراهق مكبوت يفتش خلسة عن لحظة جنس تحقق له نفس الشعور الذي يشعر به ولد مراهق استولت عليه رغبة الالتصاق بجسد البنات في زحمة أفلام العيد!
هذا الخروج عن المألوف صار “رحلة طويلة ومثيرة” ملازمة لحياة الإنسان توزعت بين “الخروج الانحرافي” المتمثل في السفاحين والمجرمين وقطاع الطريق الذين يكسرون قواعد الإنسانية للإضرار والإفساد والاعتداء على الغير، و”الخروج الإيجابي” المتمثل في المبدعين والمبتكرين والأنبياء و”غرباء الأزمنة” المتمردين على السائد الفاسد من أجل قيمة قد تتحقق وقد لا تتحقق، ومن هنا ظهر مفهوم “الآوت سايدرز” أو “الخارجون على القطيع”، وهذه الفئة تذكرني بقصة قصيرة لإيتالو كالفينو (بطل مقالنا السابق) بعنوان “الخروف الأسود”، والمصطلح يعبر عن كل شخصية غريبة ومختلفة عن القطيع (مثل ابن البطة السودا عندنا)، وبرغم أن القصة شائعة على مواقع التواصل دون ربطها بمؤلفها، إلا أنها تصلح (باختصار يسير) ختاما لطيفا لمقال غريب، كما تصلح لإثبات فكرة التكرار والعود، فلا بأس أن نعيد ونزيد إذا كان في العيد جديد، وعيدٌ بأي حالٍ عُدتَ يا عيد..
(خروف أسود)
كان ياما كان بلد كل من يعيش فيه لصوص، وكان كل ساكن من سكانها يخرج ليلا حاملا عصا ومصباح، فيسرق دار جاره، ولما يعود يجد داره مسروقة، وهكذا عاش الجميع في تآلف، كل واحد يسرق الآخر في تبادل لا ينتهي، وكان العمل في هذا البلد جريمة وغش، لأن الحكومة منظمة إجرامية مشروعها القومي هو السرقة، الحكومة تسرق الناس والناس تسرق الحكومة وبعضهم البعض، وتستمر الحياة في وفاق، لا أغنياء، ولا فقراء.
وذات يوم ظهر في البلد رجل شريف، كان يقضي الليل في بيته يدخن ويقرأ الرويات، لذلك لم يستطع اللصوص سرقته، وبعد أيام زاره وفد من المسؤولين وقالوا له: من حقك أن تسهر لتقرأ وتدخن، لكن ليس من حقك حرمان الآخرين من العمل، فأنت تعطل اللصوص عن عملهم وتحرم عائلة من رزقها، وفشل الرجل الشريف في اقناعهم بطريقة حياته، وبدأ يخرج ليلا ليقرأ ويتأمل الماء عند الجسر، ولما يعود فجرا يجد داره قد سرقت، لكنه ظل متمسكا بعدم سرقة دار أحد، وبعد أيام قليلة تم تجريد داره من كل شيء ولم يعد فيها شيء ليسرقه الجيران، وقد أدى هذا إلى خلل كبير في النظام، صار هناك أغنياء يسرقون الآخرين ولا يسرقهم الرجل الشريف، وصار هناك فقراء لا يجدون ما يسرقونه بعد تجريد اللصوص لبيت الشريف!
اندهش الأغنياء لسلوك حياة الرجل الشريف، وبدأوا يذهبون للجلوس معه ليلاً عند الجسر، يراقبون الماء ويسألونه فيما يقرأ، لكن هذا السلوك زاد من الفوضى وخلل النظام، لأن الأغنياء أدركوا أن سهرتهم مع الشريف عند الجسر ستجعل منهم فقراء بعد وقت قصير، لأنهم توقفوا عن السرقة، فاهتدوا إلى فكرة توظيف الفقراء ليسرقوا لحسابهم مقابل أجر، وبرغم العقود المبرمة كان كل طرف يغش وينصب على الآخر، فهم جميعا لصوص ويحرصون على تجويد عملهم، وكانت النتيجة أن الأثرياء ازدادوا ثراءً، والفقراء ازدادو فقراً..
وبرغم أن الأغنياء وصلوا إلى درجة من الثراء يمكنهم أن يستغنوا فيها عن الفقراء ويطردونهم من العمل، لأن البلد لم يعد فيه بيت قابل للسرقة إلا بيوت الأغنياء أنفسهم، إلا أنهم استمروا في دفع الأجور، وفي قصة أخرى لم يكتبها كالفينو، اقترح الأغنياء إجراء حوار مع الفقراء لخفض أجورهم لوجود أزمة مالية نتيجة إفلاس البيوت وعدم وجود ما يمكن سرقته
وكل عام وأنتم بخير.