في أكتوبر 2015، أصدر رئيس مجلس القضاء الأعلى قراراً بإحالة أربعة قضاة إلى التفتيش. وحرر رئيس المجلس مذكرات ضدهم تتضمن مجموعة من المخالفات، حيث أشارت المذكرة إلى أن المستشار محمد العواني، رئيس نادي قضاة مجلس الدولة، أقدم في 21 أكتوبر 2015، على مخالفة الضوابط والأصول المتعارف عليها قضائيًّا، من خلال تحرير وإرسال خطاب إلى رئيس الجمهورية يشكو فيه العشوائية، التي انتابت أداء توزيع قضاة المجلس على اللجان الانتخابية، خلال الجولة الأولى من انتخابات المرحلة الأولى للبرلمان. كما طلب العواني أن يتنحى المسئولون الذين أخفقوا في مهامهم عن مناصبهم، على حد وصف الخطاب، وقد اعتبر رئيس مجلس القضاء هذا الخطاب استدعاءً للسلطة التنفيذية الممثلة في رئاسة الجمهورية، لكي تتدخل في شأن قضائي، يتعلق بتوزيع قضاة مجلس الدولة في المرحلة الثانية، وتسكينهم باللجان الفرعية المختلفة، بما يخرق المبادئ والأصول المقررة قانونيًّا لحق الشكوى.

وفي الواقع العملي نجد أن هناك لعديد من القضايا التي تنظرها المحاكم والمتعلقة بممارسة حرية الرأي والتعبير وخصوصاً فيما يتعلق بالتعرض بالطعن في أعمال الموظفين العموميين، وذلك على الرغم من قول المادة 302 من قانون العقوبات في فقرتها الثانية أن ” ومع ذلك فالطعن في أعمال موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامه لا يدخل تحت حكم الفقرة السابقة إذا حصل بسلامة نية وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة وبشرط أن يثبت مرتكب الجريمة حقيقة كل فعل اسند إليه ولا يغنى عن ذلك اعتقاده صحة هذا الفعل”.

ومنذ زمن بعيد قد أقرت محكمة النقض المصرية مبدأ إباحة الطعن في أعمال الموظف العام، ونجد ذلك في حكمها بتاريخ 10 أبريل سنة 1930، حيث تؤكد المحكمة على أن ” للصحافة الحية في نقد التصرفات الحكومية وإظهار قرائها على ما يقع من الخطأ في سير المضطلعين بأعباء الأمر وإبداء رأيها في كل ما يلابس الأحوال العامة”. ونجد أن السبب أو العلة في إباحة الطعن في أعمال الموظف العام أو صاحب الصفة النيابية أو المكلف بخدمة عامة تكم في كون هؤلاء يقومون بأعمال ذات أهمية اجتماعية كبيرة تمثل ممارسة في صميم اختصاص الدولة ككيان عام في ميادين الحياة المختلفة، وان للمجتمع مصلحة جوهرية في أن تؤدى هذه الأعمال على وجهها السليم، وكذلك فإن من يكشف عن خلل قد شاب هذه الأعمال من قبيل من يؤدي خدمة اجتماعية، إذ أنه يبين لأجهزة الدولة مواجهة خطر أو تفادي ضرر محتمل قد ينال المجتمع من جراء هذا العمل، كما أنه يتيح للدولة تأديب الموظف المسؤول عن ذلك التقصير أو الخلل.

وحق النقد فيما يتعلق بأعمال الوظيفة أو الخدمة العامة ينبع في أصله الفكري القانوني السليم من نظرية الحق في استعمال الحق بشكل مشروع، إذ إنه يمثل جوهر وحقيقة حرية الفكر والرأي والتعبير بشكل عام، وذلك كلما كانت غير مستهدفة أو قاصدة للسب أو القذف أو الإهانة، ولا تسعى إلى المساس أو التشهير بشرف واعتبار وسمعة من يتوجه إليه النقد، بل كان النقد أو العمل الصحفي أو ممارسة الحرية مستهدفة وقاصدة إلى تصرفات أو أعمال وسلوكيات، وهنا فلا يجوز التضييق على العمل الصحفي أو مصادرة نشاطه، وذلك لأن المصلحة العامة تقتضي الكشف عنها وعن ما يدور من العاملين عليها والقائمين على تحقيقها ويدخل في هذه الحالة بوجه خاص أن تتضمن الأقوال أو العبارات وإبداء الرأي في مسلك موظف عام أو شخص مكلف بخدمة عامة بشأن واقعة تتعلق بأعمال وظيفية أو بالخدمة المكلف بها بالقدر الذي يكشف عنها.

وإذ أن عرض الآراء المتعلقة بالشؤون العامة في مجالاتها المختلفة وانتقاد أعمال القائمين عليها مشمولا بالحماية الدستورية تغليبا لحقيقة أن الشؤون العامة وقواعد تنظيمها وطريقة إدارتها ووسائل النهوض بها وثيقة السهولة بالمصالح المباشرة للجماعة وهي تؤثر بالضرورة في تقدمها وقد تنعكس بأهدافها الوطنية متراجعة بطموحاتها للوراء ويتعين بالتالي أن يكون انتقاد العلم العام من خلال الصحافة أو غيرها من وسائل التعبير وأدواته حقا مكفولا لكل مواطن، وأن يتم التمكين لحرية عرض الآراء وتداولها بما يحول كأصل عام دون إعاقتها او فرض قيود مسبقة على نشرها وغايتها الوصول للحقيقة، كما يجب الاعتماد على أن القانون ليس أداة تعوق حرية التعبير وإنما ضابط لمراعاة الحدود، إذ أن النتائج هي حصيلة الموازنة بين آراء متعددة جرى التعبير عنها في حرية كاملة، وأنها في كل حال لا تمثل انتقاء من السلطة العامة لحلول بذاتها تستقل بتقديرها وتفرضها عنوة فالطبيعة الزاجرة للعقوبة التي توقعها الدولة على من يخلون بنظامها لا تقدم ضمانا كافيا لصونه وأن الطريق إلى السلامة الوطنية إنما يكمن في ضمان الفرص المتكافئة للحوار المفتوح لمواجهة أشكال من المعاناة متباينة في أبعادها وتقديرها يناسبها من الحلول النابعة من الإرادة العامة وبالتالي فإن حرية النقاش والحوار في كل أمر يتصل بالشؤون العامة يفرضه المنطق والدستور ولو تضمنت انتقادا حادا للقائمين بالعمل العام إذ لا يجوز لأحد أن يفرض على غيره صمتا ولو كان معززا بالقانون، ولأن حوار القوة إهدار لسلطان العقل ولحرية الإبداع والأمل والخيال وهو في كل حال يولد رهبة تحول بين المواطن والتعبير عن آرائه بما يعزز الرغبة في قمعها ويكرس عدوان السلطة العامة المناوئة لها مما يهدد في النهاية أمن الوطن واستقراره.

ولما كانت المصلحة العمومية هي دائما هي الأجدر بالحماية والرعاية، فإن من يقومون بمناقشة ونقد أعمال الموظفين العموميين هم كذلك أجدر بالحماية متى تمتعوا في ممارسة عملهم بحسن النية وتوخي المصلحة العامة هدفا لم يقوموا به من أعمال صحفية أو نقدية للوظيفة العامة، كما يجب في مجمل القول أن تتحرى السلطات الدقة في إحالة من يقومون بالنقد للصالح العام إلى المحاكمات الجنائية، وألا يكون ذلك سبيلاً لتكتيف الكلمة أو لتكبيل حرية الرأي والتعبير بشكل تام، وذلك عن طريق تخويف ممارسيه بالعقاب الجنائي ومتابعة القضايا بدلاً من متابعة الأعمال التي تكشف للرأي العام ما يتصل بشؤونهم ومصالحهم.