إن النظام المصري غير مأزوم بالدرجة التي يتم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي، والإجراءات التي تم اتخذها من الإفراج عن بعض المعتقلين أو دعوة رئيس الجمهورية إلى حوار سياسي نابعة من إرادة النظام ورؤيته أكثر منها أي شيء آخر وعلى رأسها الضغوط الخارجية. كانت هذه الرسالة خلاصة عدد كبير من المكالمات التي تلقيتها خلال الأيام الماضية منذ إفطار الأسرة المصرية الذي دعا فيه الرئيس بعض رموز العمل السياسي وأعلن خلاله عن الحوار السياسي المشار إليه.

ومع إيماني واقتناعي بصدق حاملي تلك الرسائل، وبعيد عن نية الرئيس التي لا يعلمها إلا الله، فأنا على العكس من ذلك كله، أرى بأن الجميع مأزوم، ليس النظام وحده، بل الدولة بأكملها، شعبا ونظاما ومؤسسات، ولكني متفق تماما مع أهمية، بل وحتمية الحوار في هذه اللحظة.

تواجه مصر اليوم الكثير من الأزمات المتزامنة، والتي يأتي في صدارتها كارثة سد النهضة، والذي يمثل تهديدا وجوديا لبقاء هذا الوطن ومستقبله، ومن بعده الأزمة الاقتصادية التي تستفحل يوما بعد يوم مع تردي الأوضاع الدولية والعالمية من جائحة كورونا إلى الحرب الروسية الأوكرانية بجانب كوارث الديون والتضخم والغلاء.

ثم تأتي الأزمة المستقبلية والمهمة السياسية الجوهرية التي تواجه النظام الحاكم بعد الانتصار -شبه الحاسم- على الإرهاب، وهي مهمة بناء نظام سياسي حقيقي ينتشل البلاد من أزماتها ويؤسس لعهد جديد ودولة جديدة عنوانها الديمقراطية والحرية وتداول السلطة، بعيدا عن أجواء التطرف والإرهاب والعنف والكراهية والاغتيالات والمعتقلات والتعذيب والاخفاء القسري وغيرها من أجواء حرب أهلية لم تكن عنا ببعيد أعقبت تولي جماعة الإخوان حكم مصر ولسنوات طويلة تالية.

لكل طرف من الأطراف هواجسه وأزماته. فالمعتقلين من الإسلاميين لا تتوقف رسائلهم التي تحمل الاستغاثات لإنقاذهم من غياهب السجون مقدمين كل الوعود والضمانات التي يطلبها النظام، في الوقت الذي تثير تحركات كثير من إخوانهم في الخارج قلق النظام. وبعض أطراف النظام لديه قلق عميق من عودة جماعة الإخوان إلى السياسة متسللين من أي منفذ للحرية يمكن فتحه وفق ما تطالب أطراف أخرى داخل النظام ذاته وخارجه. وبين كل هؤلاء هناك قوى سياسية أخرى تريد أن تنتهي هذه الحقبة المظلمة وأن تخرج مصر إلى عصر جديد ودولة جديدة.

وفي وسط تلك الأجواء المضطربة جاءت دعوة الرئيس للحوار متزامنة مع بادرة الإفراج عن بعض المعتقلين الذين يغلب على معظمهم البعد عن جماعة الإخوان أو حتى التيار الإسلامي وبالطبع بعيدا عن العنف.

لكن اعتقادي أن هذه الدعوة غير مكتملة وجاءت قفزا على خطوات أخرى جوهرية أهمها على الإطلاق شرعية الأطراف المدعوة إلى هذا الحوار، إن كانت النية صادقة لحوار حقيقي وجاد. ولا أرى حلا لهذا إلا بانتخابات برلمانية مبكرة حرة ونزيهة وبعيدة عن التدخلات الأمنية كالتي حدثت سابقا وأفرزت البرلمان الحالي والسابق، وأن تمثل الأحزاب المنتخبة شعبيا نواة هذا الحوار على أسس شرعية وشعبية ومنتخبة انتخابا حرا.

ولكن، خطوة كهذه لن تأتي إلا في أجواء أكثر أمنا وسلاما على الأحزاب والقوى السياسية. فهذه الأحزاب والأفراد المشاركين في العملية السياسية يجب أن يشعروا بالأمان على أنفسهم وذويهم وسلامتهم الشخصية والمهنية والسياسية في تحركاتهم وحملاتهم، ولو وفق ضوابط قانونية واضحة للجميع، حتى تستطيع المضي قدما في العملية السياسية. فلا يجب أن يشعر أي شاب بالخوف لانضمامه إلى حزب من الأحزاب القانونية المشهرة رسميا والخاضعة لقوانين الأحزاب المصرية، ولا الأحزاب ذاتها أن تشعر بنفس الخوف في حملاتها واجتماعاتها وتواصلها وتنسيقها.

ليس سرا على أحد أن جميع المؤسسات الدستورية الحالية (رئاسة، وبرلمان، وحكومة) هي ابنة مكون واحد، وأن أي دعوة للحوار سيكون أي طرف فيها جزء من هذه المؤسسات هو جزء من النظام الحاكم نفسه حتى وإن بدا غير ذلك، وهو ما سيبدو للجميع حوارا مع النفس وليس حوارا سياسيا.

كما أن دعوة أي طرف آخر ستكون عبارة عن تفضيلات النظام وأجهزته ومؤسساته وليس تمثيلا لإرادة شعبية ومستندة إلى شرعية حقيقية، وفي نفس الوقت يجب ألا تشعر تلك الأطراف المدعوة للحوار بأنها تجلس والسكين فوق رقابها، وأنها معرضة للاعتقال والتنكيل في أية لحظة. هذا بجانب أن لجان العفو الرئاسي -مع كامل اعترافي بأهميتها القصوى وضرورة استمراراها- هي تعبر عن بوادر طيبة وليس توجه نحو حلحلة سياسية حقيقية تهدف إلى إرساء قواعد قانونية ودستورية معروفة للجميع تكون لبنة حقيقية لميلاد دولة جديدة.

وحلا لكل هذه المعضلات وغيرها، لا أرى سبيلا سوى بانتخابات برلمانية مبكرة حرة ونزيهة تشارك فيها أحزاب سياسية وتنظيمات سياسية وشخصيات حرة تعمل في النور لتواجه قوى الظلام.

إنني لا أطالب بأكثر مما قال به رئيس الجمهورية نفسه، وهو أن مصر تتسع للجميع، ولكن هؤلاء الجميع يجب أن يقفوا فوق أرض شرعية ثابتة، ووفق ضوابط قانونية تناسب هذه المرحلة المتأزمة والتي تغلب عليها أجواء من عدم الثقة المتبادلة بين الجميع، وتؤسس لدولة جديدة أكثر استقرارا ورخاءً، وأن هذه الدولة الجديدة هي دولة الديمقراطية والحرية وتداول السلطة، وما غير ذلك هو تكرار للقديم وقديم القديم.