يعتمد الكثير من فناني الكاريكاتير، كأحد فنون التعبير البصري، على المبالغة في رسم ملامح الشخصيات لإظهار رأي الفنان في الشخصية المرسومة، فيظهر من أول نظرة إن كان “طيباً” أو “شريراً”. ثم يُضاف في أحيانٍ كثيرة كلمات صادرة عن الشخصية المرسومة ( عادةً ما تكون مباشرة ومبالغ فيها ) حتى يصل للمتلقي ما عبرت عنه الصورة بالفعل بشكل مضاعف.

السيناريو .. أساسات البناء

كثيراً ما يطل أحد الممثلين أو الممثلات على شاشات التليفزيون ليخبر المشاهدين أن الإنتاج الفني يعاني من أزمة “ورق”، في إشارة للسيناريو (لا أعلم متى أصبحت كلمة “سيناريو” كلمة غير مُستحبة أو ربما تبدو كلمة “ورق” أكثر عمقاً). المؤكد أن كل شئ يبدأ هنا على الورق/السيناريو. بدءاً من الفكرة إلى بناء الشخصيات وصولاً إلى رحلة تلك الشخصيات نحو أقدارها التي تصنعها بنفسها عبر السيناريو.

فيصبح من أكثر مهام الكاتب أهمية ألا يقوم بِلَيّ ذراع الاحداث أو الشخصيات حتى يفرض أفكاره الشخصية حتى وإن غاب المنطق عن الدراما وشخصياتها.

يبدأ السيناريو في “بطلوع الروح” بداية قوية ساخنة من الحلقة الأولى. حيث نتعرف على طبيعة شخصيات أبطالنا، ومع نهاية الحلقة يبدأون بالفعل رحلتهم. تبدو الخريطة عند نقطة البداية واضحة في رأس الكاتب، ولكن هل ظلت كذلك؟

بانتقال الأبطال لمكان بقية أحداث السيناريو “الرِقة/سوريا” أصبحت معالجة الموضوع في مواجهة مأزق محتوم. بين أن تبقى الشخصيات بشر من لحم ودم ومشاعر مختلفة تتفاعل مع المواقف المتباينة أو أن تتحول، بسبب حساسية الموضوع وتوقع الجمهور، لما يريد المشاهدون ويتوقعون. لدى الجمهور صورة مسبقة بسبب طبيعة الحدث ( المبني على وقائع حقيقية ) عما حدث في الرقة السورية وقت سيطرة تنظيم داعش. رغم ذلك تظل هناك مساحات كبيرة للإبداع في الكتابة حول خلفيات الأبطال الرئيسيين والثانويين وما دفعهم قصصهم نحو التقاطع في هذا المكان والزمان. وهنا انزلق السيناريو نحو تبسيط غير مقنع للخلفيات والدوافع. كأن يصبح الدافع الرئيسي لكل ما حدث هو رغبة رجل في الحصول على إمرأة رفضت حبه في لحظة ما! (وهو ما جاء على لسان شخصية عمر الدسوقي / أحمد السعدني).

أو أن نتناسي أهم المتأثرين بحدث كبير في الأحداث (شخصية أم جهاد / إلهام شاهين)، حيث يصبح أول ظهور لها بعد حادث اغتيال زوجها بستين يوماً كما جاء في سياق المشهد، فكأن الحدث لم يكن وليس له تأثير سوى رغبتها الحالية في الزواج من عمر الدسوقي. ثم تلح في تلك الرغبة حتى نصل لمشهد لا تعبأ فيه لمكانتها بين “المجاهدات” وتدخل في وصلة أقرب لل”ردح” في الطريق العام.

أو أن يقتصر أثر خبر القبض على “لينا” زوجة “عمر” وابنه على غضب لحظي لا يتناسب مع قدر الحدث ثم ينطلق فوراً لاستكمال الاستحواذ على “روح/منة شلبي”. فجوات زمنية قد يكون سببها تكثيف الأحداث واختصار زمنها في ١٥ حلقة وليس ٣٠، إلا أن تنفيذ ذاك التكثيف لم يخلو من ارتباك.

أو أن يتصرف “أكرم/محمد حاتم” بعنف شديد أحياناً ثم بمنتهى الإنسانية واللطف أحياناً أخرى، فهو مهتز لأنه برج الجوزاء ويحمل وشم بذلك، وذلك يبرر كل شئ.

إلى جانب الوقوع فيما تقع فيه أغلب الأعمال التي تحكي عن أحداث تاريخية وهو اللجوء لبعض المشاهد الحوارية لتحكي السياق التاريخية/السياسية فيما يشبه المقال المباشر.

إلا أن أهم ما غطى على الكثير من تلك الفجوات، زرع الكاتب “محمد هشام عبية” مسألة التوازي والصراع ضد الزمن بشكل مستمر. يوجد دائماً حدث متوقَع حدوثه تصارع الشخصيات ضده. حصول عُمر على روح قبل عودة أكرم، أو تمكن روح من الهروب قبل أن ينفذ عمر خطته، أو حدوث كل شئ قبل أن يسيطر الأكراد على المدينة. تشابك يؤدي لحبس الأنفاس عند الكثير من المشاهدين المتعاطفين مع شخصية “روح” في صراعها الدرامي.

الصورة .. سياق إقناع العين والعقل

نانسي عبد الفتاح

ظهر في السنوات الاخيرة ميل لدى الكثير من مديري التصوير للاهتمام بجماليات للصورة أقرب لصورة الإعلانات أو الأغاني المصورة، حيث تُعطى أولوية مبالغ فيها لمسألة الألوان والتكوين (على سبيل المثال) بصرف النظر عن علاقة ذلك بطبيعة دراما المشاهد وخصوصية المكان والزمان.

وبذلك، أصبح وجود مدير/ة تصوير بعين سينمائية واعية أمر يستحق الاحتفاء.

حين يقف وراء الكاميرا من يستطيع الإسهام بوعي في الرؤية البصرية لترجمة السيناريو من المقروء للمرئي، يكتسب العمل بُعداً يدفعه أميالاً إلى الأمام. خاصةً في وجود تحديات تخص أماكن التصوير من حيث التنوع ومصادر الإضاءة التي تبدو منطقية وطبيعية في الصورة النهائية. أحد أمثلة تلك التحديات، وأصعبها، مشاهد الليل الخارجي التي تدور إما في شوارع/حواري ضيقة أو التي تدور في أماكن مفتوحة ( صحاري أو مناطق جبلية ). فتتجلى الجرأة والقدرة المدهشة لدى مديرة التصوير “نانسي عبد الفتاح” في استخدام مصادر كإضاءة مصابيح السيارات، على سبيل المثال وعدم الإفراط في استخدام ما من شأنه الإنقاص من مصداقية الصورة في تلك المشاهد.

فهم عميق للحالة الشعورية لكل مشهد إلى جانب طبيعة المكان انعكس بوضوح في مشاهد بيت الضيافة.

ولا يمكن هنا الحديث عن التصوير دون ذكر تحدياً كبيراً آخر، وهو وجود وحدات تصوير إضافية عزف فيها مديري التصوير “تيمور تيمور” و “كريم نادر” بتناغم إبداعي شديد مع “نانسي عبد الفتاح” فلم نشعر بتفاوت بصري سقطت في فخه الكثير من الأعمال الرمضانية الأخرى.

ذاك الوعي المشترك كنز يبحث عنه المخرجون وقد وجدته، بالتأكيد، “كاملة أبو ذكري” في “نانسي عبد الفتاح”

الرؤية ال”كاملة” لرقعة الشطرنج

شئنا أم أبينا، جرت العادة أن يُنسَب العمل لمخرجه. وفي ذلك ظروف ومحددات الانتاج التليفزيوني الأقرب لمفرمة لا ترحم، أصبح لزاماً على المخرج أن يمتلك ما هو أكثر من الموهبة، وأن يضطر للتفكير في تفاصيل إضافية تزيد من تعقيد مهمته الأصلية، فمع القيادة توضع المسئولية. مسئولية عن الانتهاء من التصوير ضمن الجدول الزمني المحدد، ومسئولية عن التناغم بين كافة العناصر الفنية للعمل، والمسئولية الأولى عن إكساب السيناريو المكتوب طابعاً بصرياً يعزز الأحداث ( أو حتى التغطية على مشاكله )، ويوجه الممثلين نحو الوصول لأقصى استغلال لقدراتهم ومواهبهم، وقبل ذلك الرؤية والذكاء في اختيار الممثلين الذين يمتلكون الموهبة والحضور اللازمين لجذب المشاهد، إلى جانب القدرة على تجسيد شخصيات العمل، كاختيار “إلهام شاهين” لدور “أم جهاد” الذي أثار جدلاً واسعاً إنعكس إيجاباً على مشاهدات المسلسل.

وهنا يجدر الوقوف عند اختيار بعينه وهو اختيار الممثلة اللبنانية “دارينا الجندي” في دور “أم سعود”.

أداء ناضج راكز على النغمة الصحيحة لم ينجرف لحظة خلف انفعال زائد من الممكن تبريره درامياً (وقد حدث ذلك في بعض اللحظات مع أبطال وبطلات العمل الآخرين)، وإدراك عميق بأبعاد الشخصية جعل حضورها لافتاً للانتباه، خاصة وأن الغالبية العظمى من مشاهدها جاءت مع بطلة المسلسل “منة شلبي”، والتي من جانبها قدمت أداءاً صعدت به درجة جديدة في خطوات تخطوها بمزيج من الموهبة والوعي الشديدين.

وبدرجات متفاوتة، نتيجة الطريقة اللي كُتبت بها الشخصيات، جاء أداء بقية الممثلين في العمل.

“أحمد السعدني/عمر الدسوقي” الذي أثبت بالفعل مقدار قوة وتنوع موهبته من خلال أعمال ك”أفراح القبة” و “منورة بأهلها”، إلى جانب “محمد حاتم/أكرم” الذي أثبتت موهبته كذلك حضور ملفت في أعمال ك”نسر الصعيد” و “منورة بأهلها” كلاهما ظلمهما، في رأيي، طريقة بناء شخصيتيهما في المسلسل من حيث التبسيط في الدوافع والأفعال وردود الأفعال.

ومع كل التحديات، التي سبق ذكرها، من حيث خصوصية مواقع التصوير إلى جانب الضغط النفسي على الممثلين نتيجة طبيعة بعض المشاهد التي لا تخلو من عنف جسدي/نفسي، تزداد تلك المسئولية إخراجياً. وقبل كل ذلك كون العمل مأخوذ من أحداث حقيقية يعرف الكثيرين كيف انتهت كما تم عرضها في أعمال أخرى سابقة، فتصبح القدرة على جذب المشاهدين مهمة صعبة.

للعام الثاني على التوالي تبرهن المخرجة “كاملة أبو ذكري” على ذكاء شديد ونجاح في إدارة عناصر عملها الفني ( بعد مسلسل ب١٠٠ وش ) في الموسم الرمضاني الماضي، وبعد أعمال ناجحة أخرى مثل “سجن النسا” و “واحة الغروب”.

نجاح يضعها في مكانة خاصة بين مخرجين ومخرجات جيلها.

جنودٌ غير مجهولة .. التفاصيل تصنع الفارق

عملٌ يُرجى منه اللمعان والنجاح، لا يمكن أن يتحقق له ذلك دون توافر عناصر فنية واعية لتفاصيل عملها في كل الأقسام.

وهنا وجبت الإشارة بشكل خاص لتصميم الملابس الذي يمثل تحدياً خاصاً نظراً لطبيعة الأحداث والشخصيات وحتمية المقارنة مع الواقع من جانب المتفرجين. عملٌ حاسم أدته بامتياز معتاد “ريم العدل”.

وإيقاعاً بصرياً متزناً يميز بين طبيعة المشاهد المختلفة وما يستتبعه كل منها من إيقاع من خلال مونتاچ “محمود فتيح” و “وسام الليثي” تحت إشراف أحد أهم مونتيري السينما المصرية “منى ربيع”.

ختاماً، وكما تقول الحكمة الإنجليزية، قد يأتي أحدهم متأخراً بعد وصول الجميع فيكون دخوله قوياً وعالياً.

وهو بالتأكيد ما حدث في النصف الثاني من رمضان بعد أن أخفق أغلب من دخلوا السباق لأسباب مختلفة، فتم إنقاذ الموسم “بطلوع الروح”.