لا أحد يجادل في أهمية الحوار وضرورته، لكن أجدني من أصحاب الرأي القائل بأن الغائب الحقيقي في مصر هو مناخ الحوار، وإن لم يتوفر المناخ الملائم لإجراء حوار جدي ومنتج ومفيد، أخشى أن تنتهي دعوة الحوار إلى ما يقال عنه في مثل هذه الأحوال بأن الجبل تمخض فولد فأرًا.

وأنا هنا لست أتحدث باسم أهل المعارضة، وبالتأكيد لست أعرف نوايا أهل الحكم، وإن كنت أؤمن بأن البعرة تدل على البعير، كما قال الأعرابي قديمًا، والأثَر يدل على المسير، والحال يدل على المآل، وليس هناك من جديد يُومض فيشير إلى أننا بصدد تعديل المسارات التي مضينا فيها طويلًا بدون دليل.

ومع ذلك، وبالرغم من ذلك، لابد أن أبادر بالقول إن العاقل لا يملك ترف أن يرفض دعوة للحوار، أو يتعامى عن فرصة لا يجوز أن تضيع من بين أيدينا، حتى لا تتراكم في وادينا الطيب تلال الفرص الضائعة.

**

هذا المقال هو مجموعة أفكار فرضت نفسها عليَّ حين شرعت في الكتابة حول الموضوع، في محاولة مني للمشاركة الجدية والصادقة في إطلاق حوار وطني عام، وإثراء النقاش حول قضية يبدو أن كلًا من السلطة والمعارضة توصلا إلى ضرورتها وأهميتها في الوقت نفسه.

أضع نفسي في خانة المؤمنين بجدوى الحوار وضرورته ودوره الحضاري والإنساني، وبقدرته ـ لو صدقت النوايا ـ على صناعة توافق مجتمعي واستقرار وطني، يمهدان لتنمية حقيقية، ويعيدان ترتيب أولويات العمل الوطني في مرحلة تكتنفها ظروف ضاغطة، وأزمات متلاحقة.

لهذا لابد أن نتصارح بأمانة ومسئولية أننا بإزاء تقلبات مناخية يمكن لها أن تجهض أي دعوة للحوار، ومع ذلك أقول إنه ليس أمامنا ما يمكن عمله غير الحوار، وهو وحده الذي يقودنا إلى التوافق حول الكيفية التي تضمن لنا خروجًا آمنًا من حالة حكم الفرد، وهو الطريق الوحيد الذي يصل بنا إلى إقامة مجتمع حر ديموقراطي تسوده العدالة والمساواة، ويقوم على الشراكة بين جميع مكوناته وفاعلياته وقواه الحية، مجتمع المواطن السيد في الوطن السيد حسب نص ديباجة الدستور.

**

تهيئة مناخ الحوار الوطني، تفضي إلى نجاحه، وقد جاءت تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي (في توشكي، ثم في حفل إفطار الأسرة المصرية) ليربط بين ثلاثة أمور، أولها: الأزمات المتلاحقة التي تجتاح العالم، وعلى رأسها أزمة كورونا ثم الأزمات الناشبة في أعقاب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا وتوابعه، وثانيها: تأثير تلك الأزمات علينا، والأخطار التي تتهدد استقرار بلدنا، وثالثها: إطلاق الجمهورية الجديدة في موعد يبدو أنه بات قريبًا.

تبدى من حديث الرئيس أنه يعتبر أن هذه الأمور مجتمعة، بالإضافة إلى أزماتنا ومشاكلنا الداخلية، كل ذلك يدفع بنا إلى إجراء حوار وطني شامل ومفتوح (بدون إقصاء أو استثناء)، وبدا أن الرئيس ينظر إلى الحوار باعتباره المنفذ الآمن للدخول إلى عصر الجمهورية الجديدة الموعودة.

**

نحن بالفعل أمام حزمة أزمات متداخلة وتأثيراتها السلبية (حتى لا أقول الكارثية) على الاستقرار في مصر، وهو الإنجاز الأهم للسلطة الحالية الذي حققته ودفعت الملايين من المواطنين إلى تأييد النظام ومؤازرته، وهو (أي الاستقرار) مهددٌ بتداعي كل هذه الأزمات، ومعرَّضٌ للانقضاض تحت وقع هذه الأزمات.

لهذا فإن حاجتنا ماسة وملحة (في ظل هذه الأزمة المركبة) إلى حوار متعدد الموضوعات والاهتمامات للعبور منها جميعًا بأكبر المكاسب وأقل الخسائر، وهو أمر يجب أن تُجمع له كل الكفاءات والعقول والخبرات والتخصصات، وأن تشارك جميعها على قدم وساق بعيدًا عن كونها ضمن صفوف الموالين أم من بين صفوف المعارضين.

**

مناخ الحوار وآلياته أولًا، لأننا على الحقيقة في حاجة إلى مناخ سياسي قبل أن نلج في غمار أي عملية تحمل عناوين سياسية، ومن غير المتصور أن ينشأ أي نوع من أنواع الحوار من دون رفع القيود على أطرافه، وإلا صار إملاءًا من طرف على باقي الأطراف المدعوة إلى الحوار.

ولا يمكن إنكار أن الأحزاب والقوى المدنية في حالة يرثى لها، وقد أرهقت من جراء التقييد المفروض على حركتها وفاعليتها، وهي بالضرورة في حاجة ماسة إلى مناخات جديدة تُعيد إليها قدرتها على التنفس بحرية، مناخات تمكنها من إحياء إمكانياتها على الحركة والتفاعل النشط في حياة سياسية تحكمها قواعد معروفة سلفًا ومقررة ولها ضمانات متوافق عليها.

نجاح أي حوار يستدعي ضماناته، وفي حالتنا وأحوالنا الراهنة، أول وأهم عوامل النجاح تتطلب توفير المناخ المناسب لحوار صريح وبناء، وهو أمر تملكه السلطة وحدها، كما يتطلب أعلى درجات الجدية والموضوعية والعقلانية والرشد من كل أطراف الحوار، وهي مهمة يجب أن تحرص عليها قوى المعارضة وتوفر أسبابها وأدواتها والأساليب التي تضمن نجاح الحوار ووصوله إلى نقطة متقدمة على صعيد العمل الوطني.

****

من قبيل ترديد البديهيات القول بأن أي حوار جاد ومثمر يتطلب (أول ما يتطلب إلى جانب تهيئة المناخ) توفير ضمانات نجاحه، وكل هذا يبدأ بتأكيد الثقة بين أطراف الحوار.

واحدة من الأسس التي تكفل هذه الثقة يتمثل في إتاحة الفرصة كاملة للتعبير عن الهواجس لدى كل طرف، وتبادل الآراء بصراحة من دون حجر أو تضييق، ولا شك أن للسلطة هواجسها التي يجب أن تضعها على مائدة النقاش بصراحة وبكل وضوح، وفي المقابل تستمع بكل تفهم لهواجس وشكوك الأحزاب وقوى المجتمع المدني.

الضمانات يجب أن تكون متبادلة، من أجل حوار مبدع ومنتج، وقادر على أن يصل إلى محطة جديدة في العمل الوطني، تتوافق حولها قوى المجتمع المدني، ويضع الحوار أجندتها وطرائق الانطلاق منها إلى مسار آمن، يحفظ للوطن استقراره، ويحقق آمال مواطنيه في الحرية والعدالة والكرامة والأمن.

السلطة عليها أن توفر للحوار مقدمات تبعث الأمل في إمكانية الوصول لنتائج حقيقية.

والمعارضة عليها أن تؤمِّن للحوار الجدية المطلوبة، وأن يكون ممثلوها قادرين ومؤهلين للخوض في حوار متعدد الموضوعات، منها ما هو رئيسي وأساسي، ومنها ما هو فرعي وضروري، وأول علامات الجدية هو إعلان توافقها حول أجندة الحوار وأهدافه والبرنامج الزمني المقبول للوصول إلى المأمول.

**

نقطة البداية من السلطة فهي المنوط بها تهيئة الأجواء وتعديل المناخ القائم على كبت الحريات وغلق المجال السياسي، وموت السياسة، وتسييد التعامل الأمني مع كل الملفات.

الإفراجات التي تمت خلال الأيام القليلة الماضية خطوة صغيرة على طريق طويل لبناء الثقة واسترجاع اللحمة بين مكونات التحالف الذي صنع 30 يونيو، وهو التحالف الذي أطاحت به إجراءات السلطة وسياساتها وتوجهاتها خلال السنوات التسع الماضية.

إقرار حق الخلاف المعلن مع توجهات النظام الحاكم، وسياساته، وعدم تجريمه، والتخلص نهائيًا من كل النصوص التي تقف حجر عثرة أمام إطلاق الحوار العام في الوطن، ليس فقط بين المعارضة وبين السلطة، ولكن بين كل المواطنين القادرين والمؤهلين على الإدلاء بدلوهم في هذا الحوار الوطني.

وهذا الأمر بالذات يتطلب العمل على ضمان حرية التعبير وتنوع الأصوات في الإعلام بدلًا من إعلام الصوت الواحد الذي فشل في أن يحقق أي نتيجة حقيقية.

**

لا يمكن أن يكون مستساغًا أن تُدعى القوى المدنية والأحزاب السياسية إلى حوار وطني شامل في ظل معاداة إعلام السلطة لكل معارضة، وتخوينه لكل المعارضين، لمجرد خلاف في الرأي، أو اختلاف في النظر إلى الأمور، أو في النظرة إلى الأولويات.

الفشل العلني اليومي لإعلام الصوت الواحد يوجب علينا أن نفكر في أهمية وضرورة ضمان حرية التعبير وتنوع وتعدد الأصوات فوق صفحات الجرائد وعلى شاشات التلفزة.

المواقع المحجوبة، والتضييق على المواقع المسموح بها، لا يصنع مناخًا مؤاتيًا لحوارٍ جاد حول القضايا الوطنية التي تهم كل المواطنين، وتمس حياتهم وتؤثر على مستقبلهم.

الحوار يحتاج أول ما يحتاج إلى حرية في التعبير، ثم حرية في النشر، ثم حرية في التلقي، والنقاش، فالمجتمع المفتوح أكثر أمنًا على المدى الطويل من المجتمعات المغلقة بالضبة والمفتاح، ضبة الإجراءات الاستثنائية، والمفتاح الذي ليس له غير وظيفة واحدة هي الغلق لا الفتح، ويعادي أي انفتاح على الآراء المختلفة ولا يحبذ السماح بالتنوع ويتخوف من ممارسة الحق في الاجتهاد والاختلاف لكل المواطنين.

**

حقوق المواطنين وحرياتهم المصانة بنصوص الدستور يجب أن تكون مرعية في إجراءات الواقع، خاصةً وأننا عشنا طوال السنوات القليلة الماضية حالة تصادم بين نصوص دستورية وبين الإجراءات التنفيذية، وكان الدستور في هذا التصادم هو الطرف الأضعف فداست عليه الإجراءات، ووضعت نصوصه فوق أرفف المخازن العمومية بدون أن يرف جفن لسلطة الإجراءات.

ليس عاقلًا من لا يضع الاستقرار على رأس الأولويات، وليس مقبولًا تجاهل أن مسألة تحقيق الأمن تقع في صدارة المهمات الوطنية، ولكن لابد أن يكون مستقرًا في وعي الجميع، (المجتمع والسلطة والمعارضة) أن الإجراءات الخشنة التي تهدر حقوق المواطنين وتصادر حرياتهم لا يمكن لها أن تصنع استقرارًا طويل الأمد، وهي على الحقيقة تضع البلاد دائمًا على صفيح ساخن قابل للاشتعال في أقرب فرصة متاحة، يكفي لإشعال نيرانها عود ثقاب صغير من الخشب.

**

إن تحقيق الأمن في المجتمع لا يمكن أن يقف على قدم واحدة، قدم الإجراءات البوليسية الثقيلة، ولا يجب أن نتناسى أن تحقيق العدالة، وضمان حد أدنى من مقدرات العيش الكريم لكل المواطنين هي القدم التي يقف فوقها بنيان مجتمع مستقر وآمن وقادر على تجاوز كل مشاكله، والتغلب على كل ما يعترض طريقه من معوقات.

لم يعد ممكنًا استمرار المعالجات الأمنية والاقتصار عليها، خاصة في قضايا هي بطبيعتها تستلزم العلاج السياسي أو المعالجة الاقتصادية والاجتماعية.

تبييض السجون، من كل المظالم التي تحتويها زنازينها لا يضمن انطلاقة فعالة لحوار وطني جامع ومثمر فقط، ولكنها بالأساس تهيئة لمناخات أكثر تحفيزًا على التضامن الوطني الفعال في مواجهة كل التحديات.

تستطيع أن تفرض سلطتك على عناصر الإرهاب بالقوة المسلحة، لكنك لن تستطع أن تضمن ألا يتحول المسجونون الفاقدون لأي أمل إلى مددٍ لموجات جديدة من الإرهاب.

**

سؤال إلى الذين يتبنون فكرة السيطرة على النشاط النقابي، والتضييق على نشاطات جمعيات المجتمع المدني، ما الذي خسرته الدولة من نجاح شخصية وطنية مشهود لها بالكفاءة والتاريخ الوطني الطويل نقيبًا للمهندسين؟

في ظني أن الدولة والسلطة ربحت أكثر مما خسرت في نقابة المهندسين رغم فشل مرشحها في الحصول على موقع النقيب.

كسبت على الأقل نقابة قوية متماسكة بدون قلاقل، ويمكن أن نعظم باستمرار حضورها ومشاركتها في العمل الوطني، وهي حسب قانونها وبطبيعة تكوينها ونوعية أعضائها يمكن تحويلها إلى الجهة الاستشارية الأهم في كل مشروعات الحكومة العملاقة، وكافة المشروعات العقارية التي تستحوذ على اهتمام كبير بين أولويات الحكومة وأهداف النظام.

وهذا نموذج واحد لطريقة التفكير الجديد المطلوبة، وطرائق التناول الرشيد في جمهورية نريدها جديدة فعلًا.

**

أتمنى أن نبني تفاؤلنا بدعوة الحوار على قواعد وأرضية صلبة تحيط بها ضمانات عملية، ولا يجوز أن يستمر ملف المحبوسين احتياطيًا خارج دائرة الاهتمام، وهو ملف (كما نعلم) متخمٌ بالمظالم، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة في هذه الحال هو: كيف يُستساغ (أخلاقيًا قبل قانونيًا) أن يظل إنسان رهين محبسه على ذمة تحقيق في اتهامات نمطية لمدد تزيد على السنة والسنتين والثلاثة وأحيانًا أربعة سنوات، دون أن يفرج عنه أو تتم إحالته إلى المحاكمة؟،ألا تكفي كل هذه الأعمار التي ضاعت على أصحابها الذين امتلأت بهم السجون.

هذا ملف لا يقل أهمية في رأيي عن ملف العفو الرئاسي، ويستحق منا جميعًا نظرة اهتمام كبيرة تُفضي إلى الافراج الفوري عن كل الذي قضوا فوق الشهور الستة حبسًا احتياطيًا في اتهامات هي في حقيقتها تتعلق بحرية الرأي والتعبير.

**

مهم وضروري ومفيد أن يكون الحوار مفتوحًا، يشارك فيه المجتمع كله، وأتصور أن يأخذ الحوار الوطني شكل ورش حوار متعددة الموضوعات، فيها ما يخص السياسي، ومنها ما يختص بالاقتصادي، وبعضها يهتم بالشأن الاجتماعي والثقافي، مع تلازم مسارات الحوار على كافة الموضوعات، ثم تشكيل ورشة حوارية جامعة وشاملة تناقش مخرجات الورش الحوارية المختلفة.

الحوار رهنٌ بمناخه دائماً، والمناخ الموضوعي يقود الى التفاهم، والتفاهم يصنع التلاحم الوطني، ومتطلبات الحوار وضماناته بسيطة ومنطقية وضرورية لإنجاحه ـ إذا صدقت النوايا ـ في أن يحقق نقلة حقيقية، وأخشى ما أخشاه أن نشارك جميعًا (حكومة ومعارضة وقوى المجتمع المدني) ـ بحسن نية ـ في تفريغ مضمون الجمهورية الجديدة من محتواه، أو نؤدي بطريقة تعاملنا إلى إفراغ خطوة الحوار من جدواه.

**

وأنا أختم هذا المقال خطر ببالي وقائع الحوار المقتضب بين الإسكندر المقدوني والمفكر الجالس أمامه ذات صباح مشرق، وقف القائد قبالته يستعرض قوته وهو يحاوره، فقال: أنت تعرف أنني أستطيع أن أمنحك ما تريد؟، فقل لي ماذا أستطيع أن أقدم لك؟، فأجابه المفكر ببساطة وصدق وبتلخيص مُعجز:

 ـ «أبعد ظلك عن شمسي».

حينها يتحقق للحوار مناخاته، وتتوفر له ضماناته.

**