“جهاد النفس هو الجهاد الأكبر”. هكذا يؤمن أتباع المذهب الصوفي. وهم يرون أكبر معاركهم مع الشيطان. معركة التحرر من وساوسه التي يحاول بها أن يلف القلب والعقل بغمام التطرف والأفكار المسمومة. ولعل هذا أكبر ما يواجهه الإسلام حاليًا وبه تتشوه صورته. ولهذا اختار صناع “جزيرة غمام” لرسالتهم الدرامية معركة الخير والشر؛ والمواجهة الفكرية بين عرفات وخلدون.
عن الجزيرة والغمام
منذ اللحظة الأولى أراد صناع العمل لمسلسلهم البعد عن ربط أحداث العمل بمكان وزمان محددين. ولهذا كانت رمزية الجزيرة؛ تلك المنطقة المنعزلة عن محيطها، والتي تعاني غمامًا لف عقول سكانها وجعلهم فريسة لأفكار الشيطان “خلدون”. وقد رأى فيهم فرصة لنشر أفكاره. ذلك إلى أن وقعت المواجهات الفكرية بينه وبين “عرفات” ومنهجه الفطري البعيد عن المغالاة.
للجزيرة حكاية ترجع إلى جد العمدة، الذي أرغم أهلها على صيد البحر لأيام ثلاثة، كانت الجزيرة تعوم خلالها في بحر من الظلمة. وقد لفتها الغيوم الكثيفة. وفي هذا إشارة أخرى على سطوة وطغيان الرأسمالية، التي توجه الناس من أجل تعظيم ثرواتها. فتذهب النسبة الأكبر من نتاج عمل الناس إلى ديار العمدة، ولا يتبقى للناس سوى الفتات.
الشيخ محارب.. والشيخ يسري.. وعرفات.. أبناء ثلاثة بالتبني للشيخ “مدين”، الذي توفي تاركًا ورائه إرثًا قسمه ثلاث بين أبنائه الثلاثة؛ فالمشيخة لـ “محارب”، والدار لـ “يسري”. أما عرفات فله المسبحة الخاصة بالمشيخة. وهو البطل الذي يظهر على مدار الحلقات راضيًا، يدعو للحب وعدم التفرقة، يرى أن القوة لا تأتي إلا بنقاء القلوب. وهو يتجه إلى الأطفال، وقلوبهم النقية التي لم تتلون بمطامع الدنيا.
خلدون طرح البحر في جزيرة غمام
ليس كل طرح البحر جميل، ولا كل ما يلفظه الماء إلى أرض الجزيرة طيب؛ وهكذا هو خلدون زعيم “الغجر”، الذين ألقاهم البحر إلى الجزيرة، فاستقطعوا من أرضها، وكانوا أشبه بحشائش شيطانية ملأت أرضًا انحسرت عنها المياه. وفي الحكاية إسقاط على ما عانته مصر خلال السنوات التي تلت ثورة يناير 2011.
للشر أهله وعشيرته، ولا سلطة تتحقق لخلدون على الجزيرة إلا بالتفرقة بين أهلها، والنخر في جمعهم. وهو يسعى إلى كتاب “السر” الذي أورثه الشيخ مدين لعرفات، وبه من الأسرار ما يمس كل شخص على الجزيرة.
صراع الخير والشر.. الخط الدرامي الرئيسي لجزيرة غمام
الخط الدرامي الرئيسي في “جزيرة غمام” صراع الخير والشر. والأخير هذا تجده أيضًا في الشيخ محارب، الذي يمثل “الفكر المتطرف” الطامع في السلطة بقوة الشرع على الآخرين، والذي إذا لزم الأمر يستخدم السلاح الذي اشتراه من “الغاشي” طريد الجبل، بعد سرقة أموال صندوق النذور بالجامع. وهو يبرر منهجه لتلاميذه بأن السلطة حق لهم.
للشيخ “يسري” -ضمن أحداث المسلسل- رمزية أخرى تعبر عن هؤلاء الذي يستخدمون الدين لخدمة أهدافهم. وهم يتسلقون وينافقون ويقفون خلف صاحب كل ذي سطوة، يستمدون قوتهم من قوته. وهكذا يفعل “الشيخ يسري” داعمًا لـ”الشيخ محارب”.
ممثلًا للسلطة يقف العمدة “العجمي” مفضلًا في هذه المعركة الروحية/الدينية الشيخ عرفات ومنهجه المتصوف المعتزل للاشتغال بالسياسة العازف عن لعب دورها في مقابل الشيخ محارب وتطرفه والشيخ يسري المتسلق باسم الدين.
هل الصوفية “سفينة نوح” التي نحتاجها؟
الزوبعة والسفينة رمزية أخرى، اختتم بها صناع العمل رسالتهم. وكأنهم يريدون أن يطرحوا سفينة “الصوفية” حلًا لمواجهة التطرف. هكذا أظهرت مشاهد الحلقة 29 “عرفات” يستعد لمواجهة الزوبع.
يجتمع عرفات بأطفال الجزيرة ويطلب منهم أن يعاونوه على صنع سفينة للنجاة من الزوبعة. ويبدأ في صنعها مؤكدًا أنه لن ينجو من هذه السفينة إلا من يحبه ويثق فيه.
التصوف في مصر
هو أحد مراتب الدين الثلاثة (الإسلام، الإيمان، الإحسان)؛ هكذا يعرف أتباع التصوف منهجه. وهو مقام الإحسان وتزكية النفس من كل الشوائب والكره والبغض.
وفي مصر تنتشر الطرق الصوفية في العديد من المحافظات، ويقترب عدد مريديها ومحبيها إلى 10 ملايين. وهو عدد يشجّع القوى السياسية المتنافسة على التقارب مع الطرق الصوفية. وكذلك هو أمر لا يجعلهم بمعزل عن الأحداث السياسية التي شهدتها البلاد، وإن أثر المتصوفة في الأوقات الحاسمة البعد عن التمثيل السياسي أو التزاوج مع العمل السياسي كما فعل غيرهم من أتباع المذاهب الفكرية الأخرى.
ووفق مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، شهدت الخريطة الصوفية المصرية تطورات متعددة منذ أن ظهرت في صورتها الأولى في القرنين الثالث والرابع من الهجرة. لكن تعد فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين المرحلة الأهم في مسارها. حيث شهدت خلالها بلورة وتثبيت لهيكلها التنظيمي، وأصبحت أكثر انتشارًا وقبولًا في المجتمع المصري.
وخلال تلك الفترة لم يعد الانتماء للطرق الصوفية مقصورًا على الفقراء فقط بسبب الظروف الاجتماعية. فقد شهدت تزايدًا في إقبال الفئات الاجتماعية ذات الإمكانات. ما أدى إلى تواجدها في كل بقاع الإقليم المصري من شماله إلى جنوبه.
ويمكن القول إن اتساع أو ضيق نطاق الخريطة الصوفية المصرية تحكمت فيه مجموعة من العوامل، يتمثل أهمها في حدود العلاقة بين السلطة والمتصوفة، إلى جانب مدى سيادة حالة الانتعاش للتيارات الدينية الأخرى التي تنسب نفسها للإسلام.