أشرت في مقالي السابق إلى تطور أنماط الإنتاج من النمط الزراعي إلى النمط الإنتاجي ثم النمط الإنتاجي المُرَكب فالنمط الإنتاجي الرَث. وهو تطور نتج عن تناقضٍ تراكمت آثاره عبر الزمن. فلم يعد الإنسان يعتمد فقط على العمل في الأرض -كوسيلة وحيدة من وسائل الإنتاج- لكنه صار يقوم بإنتاج الأدوات التي تُنتج بدورها سلعًا. بمعنى أن الإنسان صار ينتج وسائل الإنتاج ذاتها. ذلك حتى وصلنا إلى نمط إنتاجيٍ آخر مُركَب في تكوينه يقوم فيه الإنسان بأداء نشَاطَين؛ وهما إنتاج وسائل الإنتاج كنشاط أساسي، بالإضافة إلى تدوير المال؛ ليُنتِج مزيدًا من المال كنشاط ثانوي، ليتطور هذا النمط مُتحَوِلًا إلى ما أطلقت عليه وصف “النمط الإنتاجي الرَث”
“الرَث” هو وصف للنمط لا للإنتاج الذي يقوم فيه الإنسان بأداء ثلاث أنشطة؛ تمثلت في تدوير المال لينتج مزيدًا من المال، بالإضافة إلى عمله في استخراج الثروات الطبيعية، كنشاطين أساسيين. مع استمرار عمله لإنتاج وسائل الإنتاج كنشاط ثانوي.
كان الفرق إذن بين النمط الإنتاجي المُركَب والنمط الإنتاجي الرَث يكمن في ترتيب الأولويات ليصير إنتاج وسائل الإنتاج نشاطًا ثانويًا في النمط الإنتاجي الرَث بعدما كان نشاطًا أساسيًا في النمط الإنتاجي المُرَكب، وليظهر تدوير المال ليلد مزيدًا من المال كنشاطٍ أساسي يضاف إليه نشاط استخراج الثروات الطبيعية بنفس المرتبة.
ويشير هذا الأمر إلى مسألة بالغة الأهمية في فهم مسألة “التطور”. وهي أنه ليس شرطًا مُسَلَمًا به أن يكون التطور دومًا بالإيجاب. فسياق التطور يحتوى سَلبًا يبرز باعتباره تناقضًا -في ذاته- مع الإيجاب. وهما يتعايشان ويتصارعان ليحدث تركيب جديد حيث لا شيئ أُحاديٌ بشكلٍ مُطلق. ومن هنا كان انطلاقي في فهم التناقض و طبيعته المتشابكة، وفقًا لإجتهادات فلاسفة وعلماء تعلمنا على أياديهم فضيلة “التَفكُر” في الظواهر بغرض تحليلها وتفكيك عناصر تكوينها لأجل فهم الواقع والتعامل معه.
نعود إلى النمط الذي يحكم الكون الآن..”النمط الإنتاجي الرَث” الذي بدأت ملامحه في التَبَدى مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حين كان تصنيع آلات الحرب وما يرتبط بها من صناعات مدنية مُحرِكًا أساسيًا للإنتاج ازدادت حدته مع سباق التسلح أيام الحرب الباردة، لتأتي حرب أكتوبر التي أدركت أمريكا وحلفاؤها في الناتو على إثرها أهمية النفط القصوى كسلاحٍ سياسي لا كمجرد سلعة تحكم التعامل عليها آليات اقتصادية فحسب، لتضع أمريكا-كيسنجر قواعد جديدة لتنظيم أعمال استخراج النفط. ذلك بما يخدم مصالحها وحلفائها لِتَحول دون استخدام النفط -باعتباره مصدر الطاقة الأهم حينذاك- كسلاح سياسي من خلال السيطرة على عمليات استخراج النفط بواسطة الشركات الأمريكية العملاقة، والتحكم بالكميات المُنتَجَة. وبالتالي أسعارها من ناحية، واحتجاز الفوائض الهائلة الناتجة عنه لتدويرها في دول الناتو من ناحية أخرى. مع ترسيخ النماذج الاستهلاكية بمجتمعات دول النفط؛ للحيلولة دون تحقيق تقدم صناعي جاد بتلك المجتمعات من ناحية ثالثة.
ذلك مع إطلاق أيدي حلفاءها (أمريكا) بالناتو لنهب ثروات المجتمعات الفقيرة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية من ناحية رابعة. إضافةً إلي تزكية صراعاتٍ دامية مذهبية وعرقية دامية في مناطق متعددة من العالم لتسويق ما تنتجه من سلاح من ناحية خامسة.
كانت الفوائض النفطية أكبر من إمكانات الانفراد بإستثمارها لدى مجتمعات دول الناتو؛ لتنشأ الحاجة إلى ملاذات آمنة تُحَوَل إليها الفوائض الزائدة دون أعباء، فازدهرت كارثة “الأوفشور” التي ثَبَّتت مفهوم المال الذي يلد مالًا بلا جهد حقيقي ولا قيمة مضافة. ثم كان انهيار جدار برلين الدرامي؛ لتنفرد أمريكا وحلفاءها من بعده بالكون ويتحقق التطور “سَلبًا” على أرض الواقع بنهاية القرن الماضي، لتترسخ عناصر “النمط الإنتاجي الرَث” إلى أن حلت الأزمة المالية الكاشفة في 2008، فعالجتها أمريكا وحلفاؤها بأدواتٍ “اشتراكية” نوعًا ما (تأميم البنوك والشركات المالية الخاسرة مثالًا). ذلك بغرض إطالة عُمر النمط البائس.
في الوقت الذي كانت فيه أمريكا وحلفاؤها غارقين حتى الثمالة في تضميد الجراح، كانت قوى أخرى تعمل في هدوء لفرض نفسها على العالم الجديد؛ فتظهر الصين وروسيا وآخرون كلاعبين جدد لدى كل منهم حسابات وطموحات تعززها أوراق ضغط دولية وأقليمية.
أتت من بعد ذلك أزمتي كورونا ثم أوكرانيا لتنكأ كل منهما مزيدًا من الجراح وليتجَلى انكشاف “النمط الإنتاجي الرَث” بكل آثاره المُدَمِرة على النظامين المالي والاقتصادي، وما يرتبط بهما من خراب بالطبيعة والمناخ والقيم الإنسانية، التي استقرت منذ ما يزيد عن ثلاثة أرباع القرن.
كان لإنسان المجتمعات الفقيرة النصيب الأكبر من المعاناة. فبعدما نهب الاستعمار التقليدي ثرواته الطبيعية قبل الاستقلال، ترك من بعده الكمبرادوريين لينهبوا ما تبقى من تلك الثروات، ثم يقومون بتحويل فوائضها للخارج، حيث كان الأوفشور الكارثي في الانتظار مُرَحِبًا، وعندما حدث الانكشاف مؤخرًا تضاعفت معاناة إنسان المجتمعات الفقيرة، بِحُكم فقره المالي من ناحية وعدم قدرته على تعويض ما حَرَمَتْه منه آثار التطبيق المحلي السلبية للنمط الرث من ناحية أخرى. ثم محاولات القوى الكبرى لتظهير خسائرها إليه من ناحية ثالثة. ذلك في الوقت الذي كانت ومازالت تلك المجتمعات ترزح -ثقافيًا- فيه تحت أعباء الماضي بكل ملامحه التى تجاوزها الزمن.
وعلى الرغم من كل هذه الخسائر إلا أن تطورًا إيجابيًا بالمجتمعات الفقيرة مازال ممكنًا يتم في سياقه وقف النزيف والحيلولة دون مزيد من تدهور الأحوال، ثم بناء هيكل دول حديثة تجد لها مكانًا تحت شمس المستقبل الذي ربما يشهد تبدلًا جوهريًا في موازين القوى العالمية، شريطة أن تفهم تلك المجتمعات الواقع من خلال الدراسة العلمية للتناقضات والمخاطر التي أفرزها تَجَلى ظواهر وآثار إنكشاف النمط الرث.
وأرى أن رهان تلك المجتمعات الفقيرة في هذه اللحظة التاريخية لبناء دُوَلِها الحديثة يمكن أن يتركز في مسار أساسي تندرج تحته تفاصيل ترتبط بخصوصيةِ تركيبة كل من تلك المجتمعات. ويتمثل هذا المسار في “التنمية” بمفهومها الشامل Comprehensive Development بما يتجاوز مفهوم النمو “Growth” الذي أُسست قياساته على احتساب الزيادة في الناتج المحلي. وهو ما التهمته الزيادة السكانية بتلك المجتمعات الفقيرة؛ فساهمت في احتجازه دون تطور بِدَفعٍ من مفاهيم ثقافية تَمَاهَى فيها الفكر المَاضَوي مع الموروث الشعبي، فحدث ما حدث من انقطاع للتقدم.
وأزعم أن الركائز الأساسية للتنمية في جانبها الاقتصادي، تتمثل في ثلاث مسارات فرعية تحمل في طياتها قِيمًا أخلاقية مُتداخلة ومُتَسِقة كنا دومًا ما ننادي بها في طروحاتنا لاستشراف المستقبل، إلى أن حَلت أزمتي كورونا وأوكرانيا، فدفعت آثارهما باتجاه ضرورة إيلاء العناية الواجبة لتلك المسارات التي تتمثل باختصار شديد (ربما يمكن أن أتناولها في مقالات تالية بقدْرٍ أكبر من التفصيل). وذلك فيما يلي:
1) تطوير التصنيع وتوسيع نطاقه لتأمين وظائف دائمة وتوفير سلع تُنتَج محليًا والاستغناء بالتالي عن الاستيراد وما يستنزفه من موارد النقد الأجنبي.
2) تحديث الزراعة وتعظيم رقعتها لضمان اكتفاء ذاتي من المحاصيل الغذائية.
3) تخفيف عبء الديون السيادية من خلال التفاهم مع الدائنين لخفض ما يتم سداده من أصل هذه الديون وفوائدها إلى نسبة محدودة من النواتج المحلية بِدُوَل تلك المجتمعات حتى تتمكن من الإنفاق على المسارَين الأول والثاني لتجد لنفسها مكانًا تحت شمس المستقبل.