منذ اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية تصطف البلدان الغربية في قالب وحد ضد الأوليجارشية الروسية ــآخر عدو يمكنه تهديد قيم المجتمع المفتوح بعد انهيار الشيوعيةـ تضع أعينها على الصين. الحليف الأقرب في المصالح للروس. وأكثر البلدان رغبة في تغيير النظام الدولي أحادي القطبية وتفكيكه لصالح بناء نظام أقطاب متعددة يٌخدّم على مصالح القوى الصاعدة.
لكن جاءت المفاجأة من الهند. التي اقتحمت المشهد عنوة وخطفت الأضواء من كل حلفاء روسيا بعد أن أخرجت لسانها للغرب وزادت من تحالفاتها التجارية مع موسكو. وهنا لجأت أوروبا فورا إلى لعبة المصالح -العصا والجزرة- التي تجيدها بامتياز في محاولة لإبعاد النظام الهندي عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
أزمة أوكرانيا.. طعنة في الظهر للغرب
وجهت الهند طعنة في الظهر للغرب وتغافلت بشكل واضح عن الأزمة الأوكرانية. فمنذ بدء الحرب وهي تمتنع عن التصويتات الإجرائية المتعلقة بالنزاع لإدانة الأعمال العسكرية الروسية. ولم تبد أي اهتمام في الأزمة الدائرة إلا بكيفية تقديم المساعدة لما يقرب من 20 ألف طالب هندي في أوكرانيا وترحيلهم إلى بلدهم.
لم تكتف نيودلهي بتجاهل الصيحات الأوروبية للانضمام إليها. بل فتحت الباب على مصراعيه للنجاة من العقوبات الغربية. التي تشكل تهديدا خطيرا على المديين القريب والبعيد للاقتصاد الروسي. إذ لا يرى الغرب تصورًا غيرها لإجبار بوتين ونظامه على وضع حد للمأساة الأوكرانية دون التورط في صراع مفتوح معه. ووضعت الهند آلية لتسهيل التجارة بين البلدين باستخدام العملات المحلية ـالروبل والروبيةـ مثلما يرغب بوتين بعد تراجع حصيلة الدولار في المخزون الروسي بفعل الأزمة الدائرة.
ويبدو أن الغرب تفاجأ بثنائية الهند وروسيا وقوة العلاقة الآخذة في الصعود بينهما. حين حلت أزمة أوكرانيا فقط. والتي جعلت أوروبا تقسم العالم إلى معسكرين ـمع وضدـ سياساتها. بينما واردات الهند من روسيا خلال العام الماضي تكشف وحدها حجم الارتفاع الكبير إلى ما نسبته 8.69 مليار دولار مقارنة بإجمالي الواردات البالغة 5.48 مليار دولار خلال الفترة نفسها من السنة المالية 2020-2021.
وارتفعت أيضا صادرات الهند إلى روسيا لتبلغ 3.18 مليار دولار. مقارنة بـ2.65 مليار دولار عن الفترة ذاتها من عام 2021. وهي أرقام مربكة دون شك للتحالف الأوروبي الهندي. الأمر الذي دفع أورسولا فون دير لاين -رئيسة المفوضية الأوروبية- للمسارعة بزيارة الهند والتحذير من الشراكة المتزايدة لأحد حلفائها الكبار مع روسيا. دون أدنى مراعاة للمحنة الأوروبية والدولية التي ترتبت على الأزمة الأوكرانية.
اعتبرت أورسولا المساندة الهندية لروسيا “تهديدًا واضحا لكل من الهند وأوروبا”. إذ تشكل أي محاولة لعمل توازن الآن في العلاقات بين الغرب وموسكو زيادة في معدلات الجفاء الغربي تجاه الهند. التي تدير منذ سنوات ديمقراطية معيبة تبعدها كل يوم عن المعسكر الغربي لصالح معسكرات شمولية معادية للديمقراطية بالكلية.
جزرة التكنولوجيا الحديثة
ورغم التهديدات المبطنة إزاء توسع الشراكة بين روسيا والهند. فإن رئيسة المفوضية لجأت في الوقت نفسه إلى أسلوب العصا والجزرة. وحاولت من جديد لفت انتباه قادة الحكومة الهندية خلال كلمة لها عبر حوار Raisina وهو مؤتمر سنوي هام يعقد في نيودلهي. إلى مغانم العلاقة الوثيقة مع الاتحاد الأوروبي التي تخدم المصالح الاستراتيجية للهند والقيم المشتركة بينهما.
ودون أن تتورط في مزيد من العبارات الخشنة أرسلت أورسولا رسائل تكشف فيها عن مستقبل علاقات الغرب مع بلدان العالم خلال العقد القادم. والتي ستتمحور حول الديمقراطية والحكم الرشيد والأمن والسلم العالمي.
والاتفاق مع هذه القضايا فقط هو الطريق الذي ستعزز البلدان من خلاله العلاقة مع الاتحاد الأوروبي وشركائه في العالم للفوز بالتحديثات والتقنيات الغربية المتفوقة دائما على الجميع. لا سيما في أهم مورد للحياة بالمستقبل ـالتكنولوجياـ وخلفها الاستثمارات بكل أنواعها.
وكان واضحا خلال كلمة رئيسة المفوضية الأوروبية أن قضايا السلام والأمن من المنظور الغربي أصبحت مُهددّة بشكل غير مسبوق بسبب خروج دول عدة من نادي الديمقراطية. وانعكس ذلك على انتظامهم في شراكة بلا حدود مع روسيا. رغم الخطر الذي يشكله غزو أوكرانيا على مستقبل النظام العالمي. الذي يضمن حتى الآن أفضل علاقات قانونية بين الدول على أسس الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والسوق الحرة.
العلاقات الهندية الأوروبية.. ماذا تعني لكل منهما؟
حسب الموقع الرسمي للاتحاد الأوروبي يعتبر الاتحاد ثالث أكبر شريك تجاري للهند بعد الولايات المتحدة والصين. إذ استحوذ على 11.1٪ من إجمالي التجارة الهندية بإجمالي 62.8 مليار يورو وفقا لآخر إحصائيات للاتحاد لأرقام عام 2020.
في المقابل تحتل الهند المرتبة العاشرة لشراكات الاتحاد الأوروبي بـ 1.8٪ من إجمالي تجارة السلع.
وتحتل تجارة الخدمات بين الاتحاد الأوروبي والهند مرتبة عالية للغاية وتبلغ 32.7 مليار يورو. أما حصة الاتحاد في تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى الهند والتي كانت تقف عند حدود 8٪ خلال العقد الماضي ارتفعت أيضا لأكثر من الضعف وأصبحت تزيد على 18٪ خلال العقد الحالي.
بهذه الأرقام لا يزال الاتحاد الأوروبي أول وأهم مستثمر أجنبي في الهند بجهود ما يزيد على 6 آلاف شركة أوروبية توفر لنيودلهي 1.7 مليون وظيفة بشكل مباشر. فضلا عن 5 ملايين وظيفة بشكل غير مباشر في مجموعة واسعة من القطاعات. وهي جملة مصالح من شأنها حال زيادة الفتور في العلاقة بينهما تهديد الاقتصاد الهندي وتفوقه على جيرانه.
مستقبل التعاون الهندي مع روسيا
رغم التهديدات الواضحة من أوروبا للهند حال استمرار تعاونها مع روسيا لكن هناك جملة أسباب تجعل نيودلهي تعاند في هذه القضية تحديدًا التي يلعب التاريخ والعاطفة الوطنية دورًا حاسما فيها. إذ لا ينسى المجتمع الهندي استخدام الاتحاد السوفييتي حق النقض في عدة مناسبات لحماية بلاده من مختلف القرارات التي قدمها الغرب لإدانتها وتكبيلها بالعقوبات. وقضية كشمير وغزوها وتداعيات الصراع على الاقتصاد الهندي وسمعة البلاد مستمرة في أذهان الجميع حتى الآن.
كذلك لا تنسى ـالحكومة اليمينيةـ برئاسة ناريندرا مودي القومي المتطرف حرب عام 1971 مع باكستان وموقف الغرب المعادي لها في الأزمة. الذي أدى بشكل رئيسي إلى انشطار بنجلاديش عنها. بجانب جملة مواقف تاريخية معادية جعلت الهند تفضل مساندة المصالح الروسية. إذ امتنعت عن التصويت على إدانة الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1968. وغزو أفغانستان بعد ذلك بنحو عقد من الزمان. كما صوتت ضد إدانة الأعمال الروسية في الشيشان وأبخازيا.
أسباب بقاء الهند في الحيز الروسي
ضمن الأسباب القومية للهند للبقاء في حيز روسيا يأتي التصنيف الغربي السلبي لها. والذي يعتبرها أرضا خصبة للصراع النووي. من هنا ـحسب رؤيتهاـ يتعامل معها بانتهازية شديدة ويحصرها في خانة حليف دوره الأساسي التلويح للصين لقمع طموحاتها. دون سعي بنفس القدر لاحتواء الهند ودمجها مع المحور الغربي.
الآن ترد نيودلهي الصفعة للغرب وتتعامل مع أزمته ضد روسيا من منظور برجماتي ونفعي خالص.
فلماذا تنتظم في علاقة عدائية مع أحدهما ما دام يمكنها تنظيم علاقات جيدة بين الطرفين. لا سيما أن السياسة الخارجية الهندية لها تاريخ طويل في اللعب على التوازنات والتربح منها. وما دامت نجحت في إبقاء علاقتها مع الغرب وأعدائه معا على شاكلة إيران وكوريا الشمالية وغيرهما من بلدان لا تناسب الهوى الغربي.
أما القضية الأهم والتي ستحسم موقف الهند من البقاء في مربع بوتين فهي التقارب الشديد بين روسيا وباكستان للدرجة التي جعلت رئيس وزراء باكستان السابق عمران خان يزور موسكو في اليوم الذي غزت فيه أوكرانيا.
وهذا التقارب يشكل سيناريوهات كابوسية للهند ـألد أعداء باكستان ـ وبالتالي لا مفر من الحفاظ على الود مع موسكو باعتباره أسلم طريق لإبقاء معادلة الصراع مع إسلام آباد تحت السيطرة.