في هذا الجزء من المقال نثبت أن واحدًا من أهم قرارات السياسة الخارجية المصرية وبالتالي العربية في عهد مبارك كان أيضا نتيجة تكاد تكون مباشرة لأزمة اقتصادية تعرضت لها مصر خصوصا في العشرية الاولي من حكمه.

وعلى الرغم من أن الإنصاف يقتضي القول بأن جزءا مهما من أزمة مبارك كانت نتيجة لميراث السادات الثقيل من الديون الخارجية المدنية والعسكرية ( 30 مليار دولار ) وأن مبارك كان أكثر حساسية تجاه الاقتراض وارتفاع الدين مقارنة بسلفه إلا أنه   في النهاية استمر في الاستدانة حتى ارتفعت ديون مصر الخارجية  بعد خمس سنوات من توليه الحكم الـ 45 مليار دولار.

انضمام مبارك للتحالف الأمريكي لإخراج العراق من الكويت

وبدأت الأزمة تشتد في عام ٨٦ مع انخفاض كل موارد النقد الأجنبي من بترول وسياحة وتحويلات المصريين في الخارج وعائدات للقناة انخفاضا كبيرا وواجه مبارك نفس الموقف الذي واجهه السادات بعد عشر سنوات بالضبط وهو العجز عن سداد الدين وتفاقمت الأزمة في السنوات التالية حتى بلغت  ديون مصر نحو ٤٨مليار دولار عام ١٩٩٠ وفي ( ٢ أغسطس من نفس العام  )  قام نظام صدام حسين بخطيئة غزو الكويت التي وجد فيها الرئيس مبارك الفرصة لفك حبل  الأزمة الاقتصادية الذي بات  يمسك بخناق النظام السياسي ويهدد استقراره. قاد مبارك اجتماع الجامعة العربية الذي قطع الطريق عمليا على حل عربي لإنهاء الأزمة بين العراق والكويت كما نجحت مصر والعرب في حلها عام ١٩٦٣ بدون تدخل اجنبي ، ساعدها على ذلك حماقة التصرفات الدبلوماسية العراقية آنذاك.

ووافق مبارك تحت ضغط الديون المتراكمة وترنح الاقتصاد المصري وقتها على انضمام مصر إلى التحالف الدولي بقيادة أمريكا لإخراج العراق من الكويت  مضعفا -من الناحية العملية و بوزن مصر المعنوي أي مقاومة عربية ذات وزن لهذا القرار .

وإذا كانت خطيئة غزو العراق للكويت قد خرقت ثقب سفينة الأمن القومي العربي فإن انضمام مصر وسوريا وغيرهما الي التحالف الدولي لاخراج العراق من الكويت- والذي تطور لاحقا بعد عقد الي احتلال العراق كله  – قد  أغرق هذه السفينة وقوض النظام الإقليمي العربي برمته.

و. النتيجة  من قرار الانضمام للتحالف الدولي في عاصفة الصحراء كانت مكافأة مبارك بخفض ديونه سواء من الأمريكيين او نادي باريس او الدول العربية إلى ٣٤ مليار ١٩٩١ و٢٤ مليار ١٩٩٤ بل وهناك بعض التقديرات تقول أن مجموع ما أعفيت منها مصر بعدما سماه بيان من الخارجية المصرية “موقفها القوي من غزو الكويت”  بلغ ٤٣ مليار دولار بما في ذلك إعفاءها من الديون العسكرية الأمريكية .

لقد  فتح هذا القرار الذي أتخذه مبارك تحت ضغط الازمة الاقتصادية   مع تطورات أخرى إقليمية  الباب على مصراعيه لما شاهدناه ونشاهده  من صراعات عربية /عربية وصراعات مذهبية أو إثنية في البلد العربي الواحد وباتت الدولة الوطنية او القطرية العربية نفسها مهددة وأصبحت دول مثل ليبيا وسوريا والعراق واليمن تواجه خطر التقسيم أو الحرب الأهلية  والاخطر هو نشوء تحالفات بين بعض الدول العربية واسرائيل ضد دول عربية وإسلامية  !!

امتناع مصر عن ممارسة كامل نفوذها الإقليمي بعد 25 يناير و30 يونيو

قد يكون الأصح في وصف تأثير الأزمة  الاقتصادية المصرية على مرحلة ما بعد  ٢٥ يناير و٣٠ يونيو أنه توجه عام أكثر مما هو قرار سياسي واحد .  فكما أورث السادات جزءا من  أزمته الاقتصادية لعهد مبارك أورث مبارك  جزءا من أزمته الاقتصادية للمرحلة الممتدة منذ ١١فبراير ٢٠١١ وحتى الآن .وبالتالي ظلت الأزمة الاقتصادية والحاجة إلى الدعم  الخارجي عنصرا حاكما لتوجهات وقرارات السياسة الخارجية

 

هذا التوجه يمكن وصفه بامتناع مصري غير معلن عن استخدام كامل نفوذها الإقليمي واتخاذ سياسة حذرة شبه منسحبة في صراعات الإقليم  باستثناء الصراعات المهددة مباشرة لامنها مثل الوضع في ليبيا التي تكفل إنذار القاهرة  الحاسم  باعتبار خط جغرافي إقليمي في داخل ليبيا بمثابة“خط احمر ”  للأمن القومي المصري بإعادة معظم الأمور إلى نصابها.

نظرة واحدة  باستخدام منهج “تحليل الخطاب”  السياسي المصري بمستوياته القيادية والتنفيذية تستطيع بسهولة ان تدلنا علي استحواذ الاوضاع والازمة الاقتصادية علي الجزء الأعظم من هذا الخطاب  . هذا الاستحواذ للازمة الاقتصادية على أولويات التفكير السياسي يضع قضايا السياسة الخارجية ومكانة الدولة الإقليمية والدولية في مساحة محدودة واكاد اقول هامشية  الأداء المصري في ال ١١ عاما الاخيرة رغم ان حيوية السياسة الخارجية وفاعلية الدور في المنطقة يؤثر ايجابا في اتجاه الدول الأخرى على التسابق على الاستثمار أو تقديم المنح والقروض الحسنة والميسرة للدولة الفاعلة.

انكفاء مصر النسبي على مشكلاتها الاقتصادية أدي في السنوات الأخيرة إلى “تمدد ” أدوار إقليمية لقوى عربية حديثة العهد كدول  ليست لديها لا المقومات الجيو سياسية أو التقاليد المستقرة في السياسة الخارجية  أو التمرس باستعمال أدواتها أو  حتى درجة الاستقلال النسبي عن المركز الغربي الذي أشرف على تكوينها ورسم حدودها ومسارات نخبها الحاكمة منذ الاستقلال .

وعلى الرغم من ادعاء هذه النخب ان عصر قيادة مصر والدول الكبرى في العالم العربي قد انتهى وان  القيادة انتقلت لدولهم بسبب الوفرة المالية ومستويات البنية التحتية والرعاية الصحية التي حققوها مقارنة بتراجع في دول مثل  مصر والعراق وسوريا وحتى لبنان  كانت سابقة في هذه المجالات وفي مؤشرات التنمية عموما . الا ان ما نراه بعد سنوات من نتائج للانسحاب النسبي في الدور المصري وتقدم مجموعة الدول قليلة الخبرة  ولكن المانحة اقتصاديا ينذر بخطر كبير علي مقومات الأمن القومي المصري نفسه . فقد جرى في ظل هيمنتهم على القرار الخارجي العربي ومؤسسة الجامعة العربية تحويل الصراع  العربي / الإسرائيلي   وهو التهديد الحقيقي للأمن القومي العربي إلى صراع عربي /فارسي وصراع مذهبي سني / شيعي اذا تواصلت عملية دفعه الحالية  غير العاقلة إلى مرحلة حافة الهاوية فإنه سيشعل الحرائق ليس فقط في المنطقة ولكن داخل كثير من الدول العربية التي هي” موزاييك” عرقي وطائفي .

لانهم غير مؤهلين للقيادة فقد وضعوا نفوذهم وهو مالي بالاساس في الكفة الاسرائيلية إي استبدلوا الدور المصري الإقليمي بدور اسرائيل وبدلا من ان يكون التوازن والتنافس  الإقليمي بين قواه الاصيلة العرب وإيران وتركيا خرج العرب من المعادلة ومعهم مصر وأصبح الصراع على الهيمنة الإقليمية بين تركيا وايران واسرائيل “وهي قوة غير اصيلة “مع رجحان نسبي في كفتها ليس فقط بسبب  الدعم الأمريكي الخاص وعناصر تفوقها العسكري والتكنولوجي الكيفي ولكن أيضا لإن من تولوا بدرجة أساسية  إدارة الشأن العربي بعد و منذ ٢٠١١ في ظل” حذر الدور المصري وكمونه” أصبحوا ملتحقين بالنفوذ الإسرائيلي عبر اتفاقات ابراهام واتفاقات ثنائية عسكرية واستخباراتية بالغة الخطورة على أمن مصر والامن العربي الجماعي.

هذا المقال إذن هو تفاعل مع الدعوة للحوار السياسي تفاعل يشير الي اهمية مراجعة سياسة الحذر والكمون والامتناع عن ممارسة تحمي مصالح مصر وتحمي  دورها ، ويشير ايضا الى  ضرورة إعادة التوازن بين القضايا السياسية  والقضايا الاقتصادية  والأهم من ذلك  تقوية ظهر الدولة المصرية عبر إشعار الجميع ان مصر فيها اصوات متنوعة  ورأي عام  حاضر قد لا يتقبل مجددا ان يتم الضغط علي مصر- كما حدث مع السادات ومبارك – لاتخاذ  مواقف في السياسة الخارجية  تحت ضغط  الأزمة الاقتصادية قد تخفف من هذه الضائقة علي المدى القصير ولكنها تضر بمصر وأمتها على المدى  الطويل .