ارتفاع درجات الحرارة و/أو موجات الحر الشديدة تؤدي إلى تدهور الصحة النفسية والعقلية، ومع وجود أدلة مؤكدة على أن تغير المناخ يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض وزيادة حدة ووتيرة موجات الحر، نحن بحاجة ماسة إلى حلول جماعية لحماية أنفسنا من الحر وتدهور الصحة العقلية.

تؤكد البحوث والدراسات العلمية على وجود علاقة ارتباط بين التعرض للحرارة المرتفعة أو موجات الحر الشديدة وتدهور الصحة العقلية. يشير تقرير التقييم السادس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، الصادر في مارس الماضي، في الفصل السابع منه، إلى أن ارتفاع درجات الحرارة وموجات الحر هي من الأسباب المباشرة للوفيات والأمراض المرتبطة بالصحة العقلية.

يتضمن التقرير عرضا موجزا للدراسات السابقة حول العلاقة بين درجات الحرارة وانخفاض الرفاهية وتدهور الصحة العقلية. يقول التقرير أن الظواهر الجوية المتطرفة، ودرجات الحرارة المرتفعة لفترات طويلة، هي أسباب مباشرة للأمراض والوفيات المرتبطة بالصحة العقلية. وأن نقص التغذية والنزوح هي أسباب غير مباشرة للأمراض والوفيات الناتجة عن تدهور الصحة العقلية.

يستشهد التقرير بدراسة أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية. وجدت الدراسة أنه عندما تجاوز متوسط درجات الحرارة 30 درجة مئوية، مقارنة بالمتوسط الذي يتراوح بين 25-30 درجة مئوية، زادت مشكلات الصحة العقلية بنسبة 0.5 %. وأن ارتفاع درجة الحرارة درجة واحدة مئوية على مدى خمس سنوات أدى إلى زيادة قدرها 2% في مشكلات الصحة العقلية.

وفقا للتقرير، يرتبط ارتفاع درجة الحرارة بزيادة القلق والتوتر والاكتئاب وزيادة معدلات الانتحار، وزيادة عدد الزيارات لغرف الطواريء والعيادات والمستشفيات النفسية. وتربط الدراسات بين ارتفاع درجة الحرارة في الصيف وانخفاض السعادة. وكشفت دراسة أخرى عن أن زيادة المتوسط الشهري لدرجة الحرارة بمقدار درجة مئوية واحدة على مدى عدة عقود، أدى إلى زيادة معدلات الانتحار في الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 0.7 %، وزيادة معدلات الانتحار في المكسيك بنسبة 2.1 %.

في أغسطس الماضي أجرى باحثون تحليلا إحصائيا ل 53 دراسة حول علاقة درجات حرارة مرتفعة وموجات الحر والصحة العقلية، نشرت هذه البحوث المحكمة على خمس قواعد بيانات علمية معروفة خلال الفترة بين يناير 1990 ونوفمبر 2020، وتم تحديد مجموعة من حالات الصحة العقلية باستخدام التصنيف الدولي للأمراض (ICD-10). ودرس الباحثون أكثر من 1.7 مليون حالة وفاة، و 1.9 مليون حالة مرضية، بسبب درجات الحرارة المرتفعة وموجات الحر.

تشير النتائج إلى وجود ارتباط بين التعرض للحرارة المرتفعة وتدهور الصحة العقلية. وفقا للتقرير، تزيد درجات الحرارة المرتفعة وموجات الحر من المخاطر المتعلقة بالصحة العقلية، وتشمل هذه المخاطر: القلق والاكتئاب والضغط النفسي والفصام والاضطرابات النفسية العضوية والانتحار، وزيارة العيادات النفسية وأقسام الطواريء، ودخول المستشفيات النفسية.

أظهر التحليل أن زيادة درجة الحرارة بدرجة مئوية واحدة يؤدي إلى زيادة أعداد الوفيات والأمراض المرتبطة بالصحة العقلية، وأنه مع كل ارتفاع في درجة الحرارة بدرجة مئوية واحدة، زادت أعداد الوفيات المرتبطة بالصحة العقلية بنسبة 2.2 %، كما زادت معدلات الاصابة بالأمراض المرتبطة بالصحة العقلية بنسبة 0.9 %.

وبحسب التقرير، يعزي أكبر سبب للوفيات المرتبطة بالصحة العقلية إلى الاضطرابات النفسية الناتجة عن تناول العقاقير والمواد الكيماوية، والسبب الثاني هو الاضطرابات النفسية العضوية. وتشير النتائج إلى أن أكثر الفئات تعرضا لهذه المخاطر هم كبار السن ممن تزيد أعمارهم على 65 عاما، وكذلك، أولئك الذين يعيشون في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية.

وتكشف دراسة أخرى نشرت في دورية “جاما سيكيتري” (JAMA Psychiatry) في 23 فبراير الماضي كيف يؤدي ارتفاع درجة الحرارة إلى زيادة معدلات التردد على العيادات وأقسام الطواريء للصحة النفسية والعقلية. جمعت الدراسة بيانات أكثر من 2 مليون مريض على مدى فترة 10 سنوات.

تؤكد نتائج الدراسة أن الحرارة المرتفعة، المرتبطة بتغير المناخ، لا تؤثر فقط في الصحة البدنية، ولكن أيضا في الصحة النفسية والعقلية، تؤثر درجات الحرارة المرتفعة على الجسم والعقل والروح معا. ووجد الباحثون أن أعداد المترددين على أقسام الطواريء والعيادات والمستشفيات النفسية تزداد في الأيام التي تكون فيها درجة الحرارة مرتفعة، وتزيد حالات القلق والفصام وإيذاء النفس ومحاولات الانتحار. وعلى الرغم من أن الدراسة لم تفسر كيف تؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى تدهور الصحة العقلية، لكنها تقترح بعض التفسيرات التي قد تبدو منطقية، مثل القلق والتوتر والإجهاد الحراري والنوم المتقطع وعدم الراحة اثناء النهار.

قال نيك أوبرادوفيتش، عالم البيانات وكبير الباحثين في معهد ماكس بلانك للإنسان والتنمية، لموقع “ماشابل” أنه من الضروري فهم كيفية تأثير درجات الحرارة المرتفعة على الصحة العقلية حتى يمكن للسياسات العامة توجيه مساعداتها بدقة للفئات الأكثر تعرضا واحتياجا للمساعدة. فإذا كان العامل الرئيسي هو اضطرابات النوم مثلا، فيمكن للعلماء والمشرعين اقتراح أفضل السبل  لتحسين نوعية النوم الجيد ليلا في الليالي الحارة، من خلال تعديل مواعيد العمل والإجازات والعطلات الموسمية.

في الهند، بدأ الصيف هذا العام مبكرا، وكان شهر مارس الماضي هو أكثر الشهور حرارة على مدى 122 عاما بحسب إدارة الأرصاد الجوية الهندية. ضربت موجات الحرارة لعدة أيام عددا من الولايات، كانت أطول موجة حر هي تلك التي ضربت ولايتي راجستان ومادهيا براديش لمدة 25 يوما، وولاية هيمال براديش 21 يوما، وجوجارات 19 يوما، وجامو وكشمير 16 يوما، وسجلت العاصمة نيودلهي 15 يوما من الموجات الحارة هذا العام.

بحسب الأرصاد الجوية الهندية، يختلف تعريف الموجة الحارة من التلال إلى المناطق الساحلية والسهول: تكون الموجة حارة إذا تجاوزت درجة الحرارة في التلال 30 درجة مئوية، وفي المناطق الساحلية إذا تجاوزت 37 درجة مئوية، وفي السهول تكون الموجة حارة إذا زادت درجة الحرارة عن 40 درجة مئوية. إذا كانت درجة حرارة منطقة ما أعلى من المعتاد ب 4.5- 6.4 درجة مئوية فإنها تسمى موجة حر. أما إذا كانت أعلى من 6.4 درجة مئوية فإنها تسمى موجة حر شديدة.

في الوقت نفسه، زادت أعداد المترددين على مستشفيات الأمراض النفسية، فسجل المعهد المركزي للطب النفسي زيادة تتراوح بين 10-20 %، وهو إتجاه عادة ما كان يبدأ في أبريل ويستمر حتى نهاية يونيو، لكن يبدو أنه بدأ هذا العام مبكرا. ووفقا للدكتور راكيش جارويل، الأستاذ المساعد للطب النفسي، زادت حالات هوس الاضطراب ثنائي القطب في مستشفى رام مانوهار لوهيا بالعاصمة بنسبة تتراوح بين 5-10%.

كانت حالات هوس الإضطراب ثنائي القطب هي السبب الأول لدخول المستشفيات، بالإضافة إلى أعراض أخرى مثل الإثارة والهياج والعدوانية وتعاطي المخدرات والكحول. وازدادت حالات السلوك مرتفعة المخاطر أثناء موجات الحر بحسب الدكتور باسوداب داس مدير المعهد في تصريح لموقع “داون تو إيرث”. وقال مدير المعهد إن الأطفال وكبار السن معرضون لخطر الإصابة بالجفاف وعدم توازن “الكهارل” (الإليكتروليتات)، ما يؤدي إلى أعراض سلوكية، وأضاف أن موجات الحر، أدت إلى زيادة حوادث العنف الثنائي بين شخصين بحوالي 4%، وكذلك زيادة حوادث العنف الجماعي بنسبة 14%. وأن وجود مرض نفسي مسبقا يضاعف من خطر الوفاة ثلاث مرات أثناء موجات الحر.

وقال الدكتور أوم براكاش، أستاذ الطب النفسي في معهد السلوك البشري والعلوم المرتبطة بنيودلهي أن تأثير ارتفاع درجات الحرارة على الصحة العقلية ليس دائما تأثير مباشر وأنه يمكن أن يؤثر بطريقتين: يتناول مرضى الاضطراب ثنائي القطب عقاقير تحتوي على الليثيوم. تؤدي الحرارة المرتفعة إلى التعرق، فيطلب الجسم كمية أكبر من الماء. وفي حال عدم كفاية الماء يمكن أن يؤدي الجفاف إلى زيادة تركيز الليثيوم في أجسام هؤلاء المرضى، ما يزيد من احتمال إصابتهم بتسمم الليثيوم.

من ناحية أخرى، يؤدي ارتفاع درجة حرارة الجسم في الحر إلى زيادة احتمال أن يتوقف المرضى عن تناول الدواء، ما يمكن أن يعرض حالتهم للإنتكاس. وتزيد حالات إنتكاس مرضى اضطراب ثنائي القطب تزيد بنسبة تتراوح بين 30-40% في الأشهر الأكثر حرارة من العام. ويلفت راكيش النظر إلى أن التعرق الشديد في الأيام الحارة يمكن أن يؤدي إلى حدوث تغييرات في عملية التمثيل الغذائي، ويمكن أن يؤدي ذلك في بعض الأحيان إلى مضاعفات قد تؤدي إلى الوفاة خصوصا بين المرضى الأصغر سنا.

عموما، تسبب موجات الحر تذمرا جماعيا قد يصيب الملايين، وبينما يستطيع الأثرياء تكييف منازلهم ومكاتبهم وسياراتهم، وأن يذهبوا إلى المصايف والمنتجعات متي يريدون، وأن يشربوا النبيذ المثلج لتخفيف حدة الحرارة، لايستطيع الفقراء من الفلاحين وعمال المزارع والشوارع الوصول إلى أجهزة تكييف الهواء، ولا يذهبون إلى المصايف والمنتجعات، كما أن فرصهم في الحصول على الرعاية الطبية النفسية محدودة.

قد تكون أعداد المرضى والوفيات المرتبطة بالصحة العقلية الناتجة عن الحر وموجات الحرارة أكبر بكثير مما نظن، يقول أوبرادوفيتش، إن الاعتماد الحصري على السجلات الطبية في تشخيص حالات الصحة العقلية المرتبطة بالحرارة، ليس دقيقا ولا كافيا، لأن هذه السجلات تتجاهل هؤلاء الذين يعانون الاضطرابات العاطفية والنفسية والعقلية، لكنهم لا يذهبون إلى العيادات النفسية أو المستشفيات. على سبيل المثال، تخيلوا كم أم- أو أب- وحيد في غرفة مرتفعة الحرارة مع طفل يصرخ باستمرار أثناء موجة حارة، أو عدد كبار السن الوحيدين المحاصرين في غرف ضيقة مرتفعة الحرارة. كل هذه الأشكال من المعاناة وغيرها، التي يواجهها الملايين وتؤثر على حياتهم، لا يتم تشخيصها رسميا.

بالطبع، تعتبر القدرات والمهارات الفردية على التأقلم مع الحرارة المرتفعة ذات أهمية، لكنها ليست متاحة للجميع. وبالقطع، هناك مسؤلية على كل فرد في مواجهة تدهور الصحة العقلية المرتبطة بالحرارة، لكنها مسؤولية محدودة، بقدر ما يمكن للأفراد التأثير في السياسة والسوق من خلال إنفاقهم وتصويتهم. لكن لا يمكن للأفراد عبر تصرفاتهم وسلوكياتهم الفردية مواجهة الحرارة الشديدة أو موجات الحر. إن حماية الجميع من الأضرار الجسدية والنفسية والعقلية للحرارة وموجات الحر تعني أننا نحتاج إلى ما هو أكبر وأكثر من الجهود الفردية.

نحن في حاجة إلى حلول وقائية جماعية ومنصفة تركز على صحتنا النفسية والعقلية والقيام بإجراءات تفيد الجميع. على رأس هذه الإجراءات، وقف الاعتماد على طاقة الوقود الاحفوري وتقليل الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، وكذلك سن قوانين للبناء والتصميمات المعمارية ونظم التبريد التي تشجع على ترشيد استهلاك الطاقة، وسائل النقل المكيفة، بالإضافة إلى زيادة أعداد الأشجار والمظلات والمسطحات الخضراء والحدائق العامة، خصوصا في المدن، لتقليل امتصاص الحرارة بواسطة الطوب والإسمنت وأسفلت الشوارع. على الحكومات أن توفر الموارد اللازمة لحماية الصحة العقلية في درجات الحرارة المرتفعة، يمكن أن يتم ذلك عن طريق جلسات العلاج المجانية أو المدعومة مع أطباء وعلماء النفس المدركين لتغير المناخ وآثاره، أو من خلال رعاية الأفكار الجديدة ومجموعات الدعم التي يقودها المجتمع.

تؤكد نتائج البحوث التي عرضنا لها، وغيرها، أن درجات الحرارة المرتفعة وموجات الحر تؤدي إلى تدهور الصحة العقلية، ومن المرجح أن تتفاقم هذه المشكلات أكثر مع زيادة درجات الحرارة وتغير المناخ. عندما يتم تشخيص مليون شخص، أو أكثر، بأنهم غاضبون اليوم، أكثر من أي يوم آخر، فهذا أمر جلل ويستحق الإهتمام، حان الوقت للبحث عن حلول جماعية لحمايتنا من الحر وأعراض الجنون.