تمثل الدعوة للحوار فعل ايجابي يجب التوقف عنده … بل وإثارة ما يدعم الحوار ويعزز فرص نجاحه ، من كل الاطراف بلا استثناء ، كانت “مصر 360” فتحت عبر عدد من كتابها قضايا حول الحوار عبر عدد من الأقلام منهم : الأستاذ هشام جعفر والذي قدم رؤية متكاملة حول الحوار وألياته ثم مقالات  من الأستاذ محمد سعد عبد الحفيظ والأستاذ أحمد عابدين ، لكن انطلاق الحوار يتطلب مراجعة الذات مراجعة داخلية عميقة حتي لا يكون مجرد دعوة وقبول للحوار ثم انفضاض الجمع علي لا شيء، فالكل مطالب بهذه المراجعة خاصة إذا أردناه حوارا يقوم علي المصارحة والطرح من أجل المستقبل، فالأن يجب القول أن الماضي بسياساته لم يعد يصلح للمستقبل القادم، حتي لو حققت هذه السياسات شيئا من النجاح المحسوب، لأن التحديات القادمة كبيرة علي الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، إلي درجة أن نموذج الدولة الوطنية الذي عرفناه في حقبة ما بعد الاستقلال الوطني بات مهددا في ذاته ووجوده ، وبالتالي الأطراف التي تتصارع حول السيطرة والسلطة في أي بلد باتت هي علي المحك في المستقبل مع دولة تسلب إرادتها دون أن يدري الجميع أن هذا الإرادة التي تسلب تنزع فكرة الاستقلال الوطني من مضمونه .

إن ما نعتبره وهما سيصبح واقعا مفروضا علينا مستقبلا فالمواطنه الرقمية ستتيح الاستغناء عن شهادات الميلاد وجوازات السفر وشهادات الوفاة من الدول ، وهو ما يعني وفاة الدولة الوطنية علي مراحل بدءا من دخولها مرحلة الانعاش إلي نهاية عدد كبير من أدوارها، ولمن ينكر هذا الواقع القادم في خلال أربعة عقود علي الأقل ،عليه أن يفكر في الشركات التي تستخرج هذه الأوراق دون الحاجة للذهاب إلي المصالح الحكومية ، أو معدل تسارع انتشار البنوك الرقمية حول العالم وفي مصر ، وهو أمر لم يكن أحد يتخيله منذ عقدين ، واعتبره البعض وهما حين طرح في تسعينيات القرن العشرين ، فما هي تلك الدولة في المستقبل وعن أي مستقبل يجري الحوار حوله ؟

إننا علينا أن ندرك قبل أي حوار وطني أن الحرب في أوكرانيا ليست حربا علي أوكرانيا ، ولكنها حربا بين أطراف متعددة علي الأراضي الأوكرانية، حربا علي اعادة صياغة مستقبل العالم في ظل الفضاء الرقمي الجديد وصعود قوي إقتصادية في العالم تبحث عن نصيبها في الكعكة الدولية ، وسيجري حسم هذا كله في قمة العشرين في اندونيسيا التي لم يجري اختيارها عبثا بل جاء لأنها احدي القوي الصاعدة والتي تمثل حالة وسطية بين الشرق بطموحاته والغرب بالدفاع عن مكتسباته، وإذا لم تكن مصر جاهزة للدخول في حلبة الصراع في العالم الجديد ستصبح دولة تابعة لما سيقرره أقطاب هذه المرحلة وفواعله وعلي الجميع النظر لفاعل مثل الهند وموقفه الواعي لمصالحه في ضوء الصراع علي الأراضي الأوكرانية .

هذا يتطلب منا جميعا في مصر إدارة حوار علي أرضية وطنية ، وليس لمصالح حزبية أو شخصية أو لصالح أطراف خارج الوطن ، والنقد الذاتي لنا جميعا هو بداية الحوار ، ثم أجندته التي لا يجب أن تترك شاردة ولا واردة إلا وهي علي مائدته، ومائدة الحوار هنا أري أن تكون مكتبة الإسكندرية لسابق كونها فضاءا وطنيا محايدا نجح من ذي قبل في إدارة حورات جادة حول الاصلاح في الوطن العربي  أنتجت وثيقة الاصلاح العربي التي لو تم الأخذ بها لما حدث ما حدث في عام 2011 م .

إن أبرز متطلبات الحوار هو الاستجابة لمتغيرات السياق الزمانية والمكانية ، وبدون الاستجابة سيكون الحوار خارج مضمون السياق ومتطلباته وبالتالي ستكون نتائجة سلبية ، فحين حدثت نكبة 1948 م وحين لم تدرك مصر المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وصعود طبقة جديدة من المتعلمين تطلب نصيبها من الثروة والسلطة ، كانت  ثورة يوليو 1952 م ، وحين حدثت نكسة يونية 1967 م حدثت مراجعة في ظل ضغط من شباب الجامعات في مصر ، فكان بيان 30 مارس 1968 من الرئيس جمال عبد الناصر بيان مراجعة ونقد وبناء رؤية للمستقبل، ولا يظن أحد أن الرئيس أنور السادات حين قام باصدار دستور 1971 م وأطلق حرية تشكيل الأحزاب والحريات العامة والاقتصادية كان خارج السياق السابق بل في إطاره، وهو ما أعطي شرعية ثورة 23 يوليو قبلة الحياة، لذا فإن فهم معطيات السياق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدولية هو ما يعطي مصر الأمل في مستقبل أفضل يضمن السلم المجتمعي والأمن للجميع .

إن فقدان مصر طبقة سياسية نتيجة للتجريف واهمال بناء هذه الطبقة ، هو أكبر ما تعاني منه مصر اليوم وما لا يجب أن تعاني منه مستقبلا، لذا فإن أول أولويات هذا هو بناء هذه الطبقة من أسفل إلي أعلي وليس العكس، وهو ما يعزز الخيال السياسي الذي يؤدي لحل مشاكل الوطن خارج الصندوق ويحدث اختراقات في القضايا الصعبة خارج التوقعات، ولن يأتي هذا إلا عبر انتخاب العمد ورؤساء الأحياء والمدن ومجالس محلية لها صلاحيات حقيقية ، فضلا عن اعاددة الثقة في القطاع المدني في الدولة فلا أحد يحتكر الوطنية والاخلاص للوطن ، ومن هنا فإن اعادة انتخاب عمداء الكليات والجامعات أحد مفاتيح اعادة الثقة لهذا القطاع الهام ، الذي ذهب لسنوات في العديد من من كليات الجامعات إلي ترسيخ مبدأ ديكتاتورية أستاذ الجامعة وليس الرأي والمناقشة ، واقصاء الكفاءة العلمية لصالح أبناء الأساتذة ، حتي صارت الجامعات مضرب المثل في التوريت العائلي للمناصب وأصبحت بعض الأسر تحتكر أقسام وكليات جامعية ، وهو ما أضر فعليا بالحياة الجامعية والعلمية في مصر ، فالكفاءة لا التوريث في كل المجالات وليس في الجامعة فقط يجب أن تكون هي الفاصل في شتي مناحي الحياة ، إن التوريث الذي فشل فيه في مصر واحد فقط هو الرئيس السابق محمدد حسني مبارك ، مرض استشري في المجتمع المصري ، فنحن البلد الوحيد في العالم الذي به فساد معلن معترف به في التعينات هو نسبة تعيين أبناء العاملين في الشركات والقطاع الحكومي ، وإن جري الحد منه مؤخرا، وسد الأبواب أمام الأجيال الجديدة بعيدا عن المنافسة العلمية والكفاءة ، هو بمثابة دفع لهذه الأجيال إما إلي الهجرة أوالعزوف عن الوطن، وفقدان الثقة بكل ما فيه .

إن الحديث الدائم عن فاتورة دعم الطاقة وكونها عبء علي الموازنة العامة ، هو حديث عن اقصاء العلم والبحث العلمي بصورة غير مباشرة في مصر، فانخفاض تكلفة انتاج الطاقة من المصادر المتجددة المتوافرة في مصر يلغي نهائيا عبء دعم الطاقة ويخفض فاتورة الكهرباء للمواطن بصورة تصل إلي 80 % من التكلفة الحالية ، وهو ما يجعل مصر أيضا مصدره للطاقة وبالتالي يجب التحول كليا للطاقة المتجددة والتي تقدم لها الأن أوربا دعما ومنحا بلا حدود ، وهذه فرصة ذهبية لأرض الشمس والطاقة الهيدروجينية لانتاج كثيف من هذه النوعية .

إن التعليم هو مستقبل مصر ولا مستقبل بدونه وبالتالي فإن التعليم المجاني والمدعوم من الدولة أساسي ، وبالتالي فإن انسحاب الدولة التدريجي من التعليم منذ السبعينيات في القرن العشرين ، ولد في مصر مشكلات لا حصر لها متعلقة بكفاءة النظام التعليمي العام وبالتالي فرص الأجيال الجديدة من الطبقات المتوسطة والفقيرة ذات القدرات في الحصول علي حقوقها ، وهو إن تم فقدانه فهو يؤدي لمشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية علي المدي البعيد ، في ظل خروج الألاف من الشباب المصري ذا الطموح للهجرة خارج الوطن بصورة نهائية ، فافتقاد الفرص والطموح أدي لاستنزاف ثروات بشرية مصرية لصالح دول أخري ، وإذا كانت تحويلات العاملين في الخارج تمثل جانبا مهما في دعم الاقتصاد الوطني ، فإن الخطورة القادمة مع هجرة شباب الطبقة الوسطي والثرية هي نقل ثروات أبائهم بالميراث خارج الوطن وهي هجرة عكسية ستكون لأموال ضخمة جري تراكمها في الوطن عبر سنوات ، فقد كانت الأجيال السابقة تذهب للخارج لسنوات لتكوين أموال للزواج والستر، الأن رفاهية وجودة الحياة في العديد من الدول صارت جاذبة للأجيال الجديدة للاستقرار، وهنا يجب مناقشة معني الحرية السياسية والاقتصادية وحرية البحث العلمي دون أي قيود مسبقة أو لاحقة، هي الضمانة لاستقرار الكفاءات العلمية في الوطن لأن المنافسة الدولية لاجتذابهم صارت شرسة ، وإلا سيبقي في الوطن من هم دون المستوي الذي يستطيع أن ينهض بالوطن مستقبلا .

إن أي حوار لابد أن يضع تصورا لمستقبل الوطن بعيدا عن المهاترات أو النظرات الضيقة، فالقضايا السياسية والاقتصادية والسياسية لابد أن تكون علي مائدة الحوار وما سبق أردت به إثارة الأذهان للتفكير والتدبر وطرح أوراق عملية حول مستقبل مصر لا الاستغراق في الماضي والغرق فيه وما حدث فعل ماضي يجب تجاوزه مع الاستفادة من تجاربه كمخزن للخبرة التاريخية.