أصاب الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الأسواق العالمية بصدمة. بعد قراره رفع أسعار الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية للتعامل، مع أسوأ تضخم تشهده البلاد منذ 40 عامًا. فهي المرة الأولى منذ 22 عامًا التي يرفع فيها البنك المركزي أسعار الفائدة بذلك القدر دفعة واحدة.
يثير القرار تساؤلات حول تحديات الاقتصاد الأمريكي. إذ جاء بإجماع جميع الأعضاء الـ 12 في اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة المعنية بوضع السياسات. وجاء بعد قرابة الشهر من رفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الاقتراض القياسي بمقدار ربع نقطة مئوية للمرة الأولى منذ أواخر عام 2018.
يعاني الأمريكيون من ارتفاع التكاليف والتضخم في جميع المجالات. بداية من محال البقالة إلى أسعار الغاز، ما يدفع لاحتياطي لاتخاذ إجراءات للحفاظ على استقرار الأسعار. وهو ما دفع رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، إلى توقع رفع جديد بنصف نقطة مئوية خلال الاجتماعات القليلة القادمة. قائلاً: “التضخم مرتفع للغاية.. ونحن نتفهم المصاعب التي يسببها. ونحن نتحرك بسرعة لخفضه مرة أخرى”.
باول قال إن الغزو الروسي لأوكرانيا والأحداث المرتبطة به تخلق ضغطًا تصاعديًا إضافيًا على التضخم. ومن المرجح أن تؤثر على النشاط الاقتصادي، بجانب عمليات الإغلاق المتعلقة بالوباء في الصين التي قد تؤثر على سلاسل التوريد المتضررة بالفعل. ما قد يسبب زيادة الضغط على أسعار المستهلكين في الأشهر المقبلة.
رفع الفائدة 7 مرات
تتوقع وحدة المعلومات الاقتصادية أن يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة سبع مرات عام 2022. لتصل إلى 2.9% في أوائل عام 2023. وبدءًا من يونيو/حزيران. يخطط المسؤولون أيضًا لتقليص محفظة أصولهم البالغة 9 تريليونات دولار. وهي خطوة سياسية من شأنها زيادة تكاليف الاقتراض.
خفضت أمريكا معدلات الفائدة لما يقرب من الصفر في مارس/أذار 2020 عندما ضربها الوباء. لكنها جاءت بعد سنوات من معدلات منخفضة للفائدة جعلت دول العالم غير مستعدة لارتفاع مفاجئ في التضخم. وحتى وقت قريب، كان بنك الاحتياطي الفيدرالي يعتبر ارتفاع الأسعار أمرًا “مؤقتًا”. وتوقع انخفاضها مع تعافي الاقتصادات من الوباء قبل أن تتغير جميع الحسابات.
أزمة اقتصادية خانقة في أمريكا
وصل التضخم الآن إلى أعلى مستوى له منذ 40 عامًا في الولايات المتحدة. وقفز مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 8.5% مدفوعًا بارتفاع أسعار البنزين والسكن والمواد الغذائية. كما ارتفعت التكاليف المتزايدة للسلع والخدمات الأساسية عن متوسط رفع الأجور. كذلك ارتفعت معدلات الرهن العقاري بأسرع وتيرة لها منذ عقود بنحو نقطتين مئويتين.
ارتفعت أسعار جميع السلع الاستهلاكية 7.9%، وهو أكبر ارتفاع منذ 40 عاما. وقفزت أسعار البنزين إلى 4.25 دولار للجالون وهو أعلى مستوى منذ 14 عاما. وأسعار المواد الغذائية بنسبة 7.9% وهي أكبر قفزة منذ يوليو/تموز 1981. وارتفعت أسعار محلات البقالة 8.6% وهى أكبر زيادة منذ أبريل/نيسان 1981.
توجد مخاوف من أن الاحتياطي الفيدرالي قد يدفع الاقتصاد إلى الركود. خاصة من بنك أوف أمريكا الذي يرى أن الاحتياطي الفيدرالي قد يضطر إلى رفع الفائدة بما يتجاوز 3% لتهدئة التضخم. ما يجعل الاقتراض أكثر تكلفة، وتأتي تلك المخاوف من بيانات رسمية تؤكد تباطؤً نشاط التصنيع في الولايات المتحدة.
قرارات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، رغم استهدافها السوق الداخلية، لكن تأثيرها أصاب الدول النامية بعنف. ووصلت إلى المحال التجارية في سريلانكا، والمزارعين في موزمبيق، والأسر في البلدان الفقيرة حول العالم. بداية من ارتفاع تكاليف الاقتراض إلى انخفاض قيمة العملات.
إيريك ليكومبت، المدير التنفيذي لشبكة تستهدف خفض الفقر العالمي. قال إن القرارات الأمريكية ستضغط على جميع أنواع البلدان النامية”. بينما طالبت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا. بنك الاحتياطي الفيدرالي، وغيره من البنوك المركزية -التي ترفع أسعار الفائدة- بدراسة المخاطر غير المباشرة على الاقتصادات الناشئة والنامية الضعيفة.
بحسب خبراء اقتصاد، فإن عمليات رفع الفائدة بالولايات المتحدة ستؤدي لأضرار بعيدة المدى. بإبطاء الاقتصاد الأمريكي، وتقليل شهية المستهلكين الأمريكيين للسلع الأجنبية. كما أنها تؤثر على الاستثمار العالمي، بسحب المستثمرين الأموال من البلدان الفقيرة والمتوسطة الدخل. واستثمارها في الولايات المتحدة.
تأثير عنيف على العملات الناشئة
رفغ الفائدة الأمريكية وارتفاع الدولار سيؤدي لهبوط العملات في الأسواق الناشئة ما يجعل دفع ثمن الأغذية المستوردة وغيرها من المنتجات أكثر تكلفة خاصة في ظل اختناقات سلسلة التوريد والحرب في أوكرانيا التي عطلت شحنات الحبوب والأسمدة ودفعت أسعار الغذاء في جميع أنحاء العالم إلى مستويات مثيرة للقلق.
للدفاع عن عملاتها المتدهورة ، من المرجح أن ترفع البنوك المركزية في البلدان النامية الفائدة لتعاني هي الأخرى من أضرار اقتصادية عنيفة، بإبطاء معدلات النمو وارتفاع معدلات البطالة ورفع عبء تكلفة الاقتراض، بجانب إجبار الحكومات المدينة على إنفاق المزيد من ميزانياتها على مدفوعات الفوائد ويقلل نفقات مواجهة كورونا.
بحسب صندوق النقد الدولي فإن 60٪ من البلدان منخفضة الدخل هي بالفعل في “أزمة ديون” أو قريبة منها وبعضها بلغت فيه مدفوعات الديون إلى نصف حجم اقتصاداتها الوطنية.
سجل سيء مع الفائدة
يتمتع الاحتياطي الفيدرالي بسجل سيء في التعامل مع الفائدة ففي منتصف التسعينيات خاصة خلال عهد رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي ألان جرينسبان الذي قضى عشرين عاما كرئيس للاحتياطي الفيدرالي سبب مشكلة لغالبية البلدان النامية، فأول اجتماع له رفع سعر الفائدة بواقع نصف نقطة وبعد شهرين فقط من توليه مهام منصبه انهارت سوق الأسهم.
في عهد جرينسبان، كانت الولايات المتحدة قادرة على إدارة التضخم بشكل جيد وتجنب الركود، لكنها في الوقت نفسه أحدثت تداعيات ضخمة على الأسواق الناشئة، وما تبع ذلك كان سلسلة من الأزمات المالية في المكسيك وروسيا وفي النهاية عبر معظم أنحاء آسيا.
يقول روبن بروكس، كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي، إن العديد من بلدان الأسواق الناشئة تتمتع بوضع مالي أقوى بكثير مما كانت عليه في التسعينيات وعزز الكثيرون احتياطياتهم من العملات الأجنبية، والتي يمكن للبنوك المركزية استخدامها لشراء ودعم عملات بلدانهم أو سداد مدفوعات الديون الخارجية في حالة حدوث أزمة.
لكن بعض البلدان لا تزال عرضة للصدمات المالية. من بينها تلك التي تعتمد بشكل كبير على النفط المستورد وسلع أخرى ولديها احتياطيات منخفضة مقارنة بما تدين به لدول أخرى، بمعنى آخر يمثل القرار ضربة أخرى للبلدان التي لا تزال تعاني من ديون كبيرة وأعداد كبيرة من الفقراء وارتفاع أسعار المواد الغذائية.
رفع الفائدة وتحديات عربية
رفعت البنوك المركزية في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والبحرين والكويت وقطر أسعار الفائدة المرجعية بعد تحرك مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لرفع سعر الفائدة الرئيسي بمقدار نصف نقطة مئوية بسبب ربط عملتها بالدولار الأمريكي، باستثناء الكويت، التي يرتبط دينارها بسلة عملات.
كما رفع البنك المركزي السعودي سعر اتفاقية إعادة الشراء (إعادة الشراء) بمقدار 0.5 نقطة مئوية إلى 1.75% وسعر إعادة الشراء العكسي 0.5% إلى 1.25% إلى 1.25%، كما رفع البنك المركزي الإماراتي سعر الفائدة الأساسي على تسهيلات الإيداع لليلة واحدة بمقدار نصف نقطة مئوية.
بينما رفع بنك الكويت المركزي سعر الخصم بنسبة 25 نقطة أساس إلى 2% من 1.75% ، اعتبارًا من اليوم الخميس، رفع مصرف البحرين المركزي سعر الفائدة الرئيسي لسياسته على تسهيلات الودائع لمدة أسبوع واحد بمقدار 50 نقطة أساس إلى 1.75% من 1.25%. كما رفعت سعر الفائدة على الودائع الليلية إلى 1.5% من 1%، وكذلك مصرف قطر المركزي الذي زاد سعر الفائدة على الودائع بمقدار نصف نقطة مئوية إلى 1.5%، ورفع معدل الإقراض بمقدار مساوٍ إلى 2.75%.
ماذا سيفعل البنك المركزي أمام ارتفاع الفائدة؟
بنوك الاستثمار الرئيسية في مصر تجمع بأن البنك المركزي المصري سيرفع الفائدة في اجتماعه القادم بنسبة تتراوح بين 1 و2% لمواجهة التضخم والضغوط الناتجة على سعر الصرف من رفع الفائدة على الدولار، ومنع نزوح الأموال الساخنة إلى الخارج والتي تبحث عن فرص استثمارية ذات فائدة عالية.
تقول حنان رمسيس، محللة أسواق المال، إن لجنة السياسة النقدية في البنك المركزي سترفع الفائدة في اجتماعها المقبل لمواجهة الآثار السلبية التي قد تنجم عن انخفاض قيمة الجنيه مقابل الدولار الأمريكي بعد رفع الاحتياطي الفيدرالي الفائدة بجانب كبح جماح التضخم، مرجحة أن يكون الرفع ما بين 200 و300 نقطة أساس، للإبقاء على الفائدة الحقيقة (الفرق بين الفائدة ومعدل التضخم).
تضيف رمسيس أن رفع الفائدة سيكون أمرًا ضروريا لمواجهة ارتفاع الدولار أمام الجنيه، لكنه في الوقت ذاته سيحمل أثرا سلبيا على البورصة بنزوح السيولة منها إلى البنوك للاستثمار الأقل مخاطرة وأعلى عائد، كما ستلقي بأعباء ثقيلة على الموازنة العامة للدولة، فالمالية هي المقترض الأول من البنوك وكلما زادت الفائدة ارتفعت أعباء الاقتراض الداخلي، كما أن الاقتراض الخارجي سيكون أكثر تكلفة مع ارتفاع قيمة الدولار أمام الجنيه وارتفاع الفائدة عالميا بشكل عام.