لسنا أحرار

هل تفاجئنا الجملة؟ هل تقريريته مزعجة؟

الحرية التي رسمناها عصفورًا يُحلق، وقرأنا الأشعار عنها، الحرية بين ضفتي كتاب، ولوحة فنان، وموسيقى ترتفع بسامعها لعنان السماء، تلك حرية الخيال، بينما الواقع حريته من نوع آخر، حرية تعرف القيود قبل أن تعرف البراح وهنا المشكلة.

الحرية

عندما زاوجنا بين مفهوم الحرية والطيران كنا ننظر نحو السماء، القبة الزرقاء المترامية الأطراف، نجد في الطير طموح، وفى السماء براح، فنرغب في سماء تحلق فيها كل أفعالنا، فنحن معلقون بالسماء نسعى صوب الحرية.

والحديث غير إدراكنا للواقع، فليست هناك حرية مطلقة، هناك دومًا قيود، هناك دوامًا قواعد، وهناك عشرات الحواجز علّ أولها أن حريتك تنتهي عند حرية الآخرين، حيث التقاطعات بين البشر تصنع عوائق ومحددات.

السُلطة والنفوذ والحرية

يرى البعض تحقق الحرية في بعض مظاهر الحياة مثل الكلام واللبس والأكل والحركة، لكنه وبالتجربة فليس كل انسان يمتلك القدرة ليُمارس حريته في سلوكيات بسيطة وشخصية مثل الأكل واللبس.

غادرنا منذ أيام قليلة شهر رمضان المبارك، وفى شهر رمضان تأكيدات كُبرى أن حريتنا مُقيدة بما نملك، فعلى الرغم من كل ما منحنا الله من تيسير على الإنسان في أداء العبادات، لكننا سنجد محل كشري يرفض أن تأكل امرأة وطفلها لأن آذان المغرب لم ينطلق بعد، بينما المقاهي والمطاعم ذات الماركات العالمية مفتوحة وبها روادها من يأكل ويشرب ويُدخن، والواقعة الأخرى ذاك الصيدلي الذي ضرب سيدة على وجهها لأنها غير محجبة، وبغض النظر أن المجني عليها في الحالتين سيدة مسيحية، لكن لو أنها مسلمة ربما اشتدت واقعة الاعتداء فأين هؤلاء من ممارسة الحرية في أدق خصوصياتهن؟

في مناطق أخرى لن تتعرض سيدة لمثل هذا النوع من الاعتداء، بل لن يجرؤ بالأساس سواء البائع أو الصيدلي على مثل هذا الاختراق، ذلك لأنه يُدرك أن السيدة في حماية نفوذها ومالها ومكانتها الاجتماعية، بما يجعلنا نسأل هل تقل مساحات الحرية عند الفقراء؟

في زمن ليس بعيد كان هامش الحرية الخاص بالسلوكيات الشخصية يسمح للضعفاء والفقراء بالتواجد، لكن البعض جعل من نفسه قيد على الآخرين، فما الذي يدفع مقدم خدمة إلى الاعتداء على زبون فقط لأنه يأكل أو يلبس ما لا يُعجب مقدم الخدمة؟ علّه الإحساس المضاعف بالقوة والذي يُمارسه البعض تجاه الحلقة الأضعف، في حين أن نفس الشخص لن يفعل ذلك إذا كان الزبون يمتلك من المال والنفوذ ما يجعل حدود حريته آمنة.

الحرية ومرونة الصدام

في فيلم أنا حرة (اخراج صلاح أبو سيف/ انتاج 1959) كانت فكرة الحرية مؤرقة للبطلة، تُريد أن تُصبح حرة، خرجت وقابلت أصدقاءها وعادت في موعد متأخر وبرغم أنها لم تقم بأى عمل غير أخلاقي إلا أن سُمعتها ساءت بين جيرانها، وبرغم مرور أكثر من سبعين عامًا إلا أن نفس الأفعال تواجهها نفس النتائج، فالنساء هن أول ضحايا القمع وكبت الحرية.

فماذا إن كان الانسان امرأة متوسطة الحال فهذا يعني أنها ستظل تُعاني نماذج متنوعة من الكبت، فلن تعرف الحرية.

إن مصادر الكثير عن الحرية هي الخيال، بينما الحرية الحقيقية مسئولية، التزام، أولها ألا تكون حرية فرد تؤذي آخر، فانتماء الانسان لجماعة يعيش بينها تخلق التزامات ومسئوليات تجاه المجتمع الذي يعيش فيه، فهي أيضًا مقيدة بإمكانيات الفرد وسلوكه.

سنجد أن الشخص المهذب الذي يعتني بالآخرين قد يحظى بهامش حرية أكثر من غيره، بينما في الطبقات الدُنيا يُصبح العنف والبلطجة أدوات لتحقق الفرد ما يرغب فيه، وهنا لا يعد ذلك حرية بقدر كونه اعتداء واضح على حقوق الآخرين.

فليس للحرية شكل محدد أو مساحة محددة، لكنها دومًا تأتي في سياق، فمع اعتبارات السلطة والنفوذ تظل هناك أيضًا مقيدات وحدود، فإذا كنت تستطيع أن ترتدي مايوه على البحر أو عند حمام السباحة، فإن ذلك لن يكون حرية إذا ارتدى الفرد نفس المايوه في مقهى أو السوق.

تُصبح الحرية مثل الماء يتشكل حسب الاناء الموجود فيه، ليست مُطلقة وليست مفتوحة، فإن كانت الحرية تتجلى في مظاهر السلوك (اللبس- الكلام- أنماط الحياة) فإن هذه المظاهر ليست كل الحرية، لكنها مجرد انعكاسات لأحد مفاهيم الحرية.

يحتاج الإنسان أن يكون مرنًا عندما يتعامل مع الحرية فيُراعي حقوق غيره، ويتعرف على حدوده التي لا تتسم بالثبات والجمود أبدًا، بل أنها متغيرة في كل فترة وتخضع لاعتبارات عديدة، فعلى راغبي ممارسة الحرية أن يتمتعوا بالمرونة، فالحرية في الحياة الواقعية ليست هي ذاتها في قصائد الشعراء.