هذا عصر الإعلام والصورة والتحليل السريع، تنتقل إلينا الأخبار والمعلومات والأحداث في اللحظة نفسها التي تحدث فيها، لقد بات كل شيء مُسجلًا: مرئيًا ومسموعًا، ولكن هذا الامتياز غير المسبوق لم يجعل عصرنا أكثر شفافية أو استنارة كما يُفترض؛ فكل حدث أو كل صورة يرافقها كثير من التفسيرات والتأويلات التي تقوم عليها مراكز دراسات ولجان نشطة، تستهدف توجيه عقولنا نحو هذه الوجهة أو تلك، وذلك باستخدام أشكال مختلفة من الحجج والمغالطات التي تستميلنا إليها وتسيطر بها علينا.
وهذا ما جعلنا عصرنا -من هذه الزاوية- عصر التوجيه العام، ونجوم الإعلام الذين يمارسون التأثير على العقول ليل نهار، طبقًا لخدع وحِيَل مُحدَّدة ومدروسة، وبالإلحاح المستمر عليها تصبح جزءًا من الثقافة العامة، فتشوّش علينا سبل الفهم الحقيقي للقضايا التي نتناولها، سواء أكانت تخصّ الوضع العام أم تخصّ العلاقات الإنسانية الطبيعية بيننا وبين أبنائنا وأصدقائنا.
لماذا نتحاور؟
كل حوار له غايات، ولا يمكننا أن نتحاور من أجل الحوار في ذاته، ولكننا نفعل ذلك لنتعاون على الوصول إلى الحقيقة أو إلى ما نتصور أنه الحقيقة. فنحن نكتب ونتكلم لنستميل المستمعين والقُرّاء إلى أفكارنا، والاستمالة هدف كل كتابة، ولا يمكننا أن نستميل الناس أو القُرَّاء بالمغالطات الصورية وإلا لانتفى الهدف من التحاور أو الكتابة، وهو التعاون على الحق أو على فهمه وتقريبه..!
سأحاول هنا ذكر بعض هذه المغالطات التي يمارسها الإعلام، أو نمارسها نحن فيما بيننا من حوارات وسجالات يومية، سواء أكانت مباشرة أم كانت عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
يُقدّم “عادل مصطفى” في كتابه التبسيطي: “المغالطات المنطقية فصول من المنطق غير الصوري” عشرات البنى الهيكلية لهذه المغالطات، التي تؤثر على طريقة تفكيرنا أو تمارس علينا من قبل بعض الجهات أو الأفراد، وسوف أقدم هنا بعضها، محاولًا الإضافة إليها وتعزيزها بالأمثلة والنماذج من واقع حياتنا.
الأول: تجاهل المطلوب أو الحيدة عنه
وهذه الحُّجة أو القضية كثيرة التداول في الإعلام وفي حوارات المسؤولين، وفيها يتجاهل المسؤول السؤال الذي يجب أن يردّ عليه، ويفضل أن يردّ على سؤال آخر لم يسأله أحد، ورغم أن كلامه في الموضوع الآخر قد يكون صوابًا أو حقيقة، إلا أنه يتجاهل السؤال الأول.
مثال:
- “لا تكلمونا عن حقّ الناس في إبداء الرأي، فنحن لدينا مشاكل كبيرة في التعليم والصّحة والإسكان..الخ”.
وهنا لا يوجد جواب عن السؤال الأول، وهو “الحقّ في التعبير عن الرأي” كما تكفله القوانين والدساتير المدنية، وبدلا من الإجابة عن هذا السؤال يتجاهل المسؤول المطلوب هنا، ويتحدث عن قضية أخرى، هي بذاتها صحيحة أو صادقة ولكنها ببساطة لا علاقة لها بالسؤال المطروح.
ثانيا: “الحُجّة الشخصية” أو حجة آد هومنيوم” “ad hominem”
وهي من أكثر الحجج دورانا في الفضاء الاجتماعي؛ وفيها لا نناقش الفكرة وإنما ننتقد حاملها أو نطعن فيه، فيبدو، بالتداعي association، كأن حُجَّته قد دُمِغَت، مثل صاحبها. والحقّ أنك قد تُسدِّد سهام النقد إلى خصمك، إلى شخصه، كأن تُشكِّك في: دوافعه أو في صدقه وإخلاصه، وربما اتهمت نواياه وأغراضه… ولكن هذا كله لا يعني أن حُجّته قد انتهت أو أنك قد رددتها عليه؛ إذ تبقى كما هي قائمة ومؤثرة، قد تحوم حولها الشكوك– بفضل هذه الاتهات- فترة من الوقت، ولكنها تبقى كما هي قضية (حُجّة) سليمة في حاجة إلى الرّد.
مثال:
- أنا لا أهتم بتقارير الصحافة (المعارضة) عن تراجع الأحوال المعيشية، فأنتم تعرفون أنهم (يرتزقون من جهات خارجية) أو يقول: (إنهم جهلة لا يعرفون الحقيقة أو صعوبة المشكلة)..!
في هذه المغالطة، يتجاهل المسؤول الموضوع الذي هو تردي الأحوال المعيشية، ولم يناقشه من الأساس، واتجه إلى اتهام حامل الموضوع أو كاتب التقرير الصحفي.. ولكن هل هذا ينفي أن بعض الصحفيين يفعلون ذلك، أي يرتزقون من جهات أجنبية؟ أو أنهم لا يعرفون صعوبة المشكلة؟ بالطبع لا، ولكنه ليس موضوع النقاش، فسبّ الصحفيين أو التقارير الصَّحفية التي تتحدث عن تراجع الأحوال المعيشية لن يجعل هذه الأحوال أفضل، وسوف يظل التقرير بلا ردّ أو بلا جواب.
ثالثا: “أنت أيضًا تفعل ذلك..!”
وهذه إحدى المغالطات الذائعة، ويمكنك أن تجدها في ردّ ابنك عليك حين تنصحه قائلا: لا يجب أن تدخن، فيرد عليك قائلا: أنت أيضًا تفعل ذلك ..!
فالحقيقة أن ما أقوم به من خطأ لا يجعل نصيحتي لك بعدم التدخين خاطئة أو غير صادقة، وردك عليّ بأنني أدخن لا يجعلك على صواب، أو باختصار: “اجتماع الخطأين معًا لا يصنع صوابًا”.
وهذه القضية (الحُجّة) فيما يبدو شديدة الذيوع على ألسنة الشعراء وفي الأمثال الشعبية، فيقال مثلا “اللي بيته من إزاز ميحدفش الناس بالطوب”. وفي الشعر، يقول أبو الأسود ناصحًا المعلمين والمُربين:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ
والحقيقة أن موقف المتكلم/ الناصح في هذه الحُجّة قد يكون ضعيفًا، فلا شك أن حجتنا أو قضيتنا ستكون أقوى إذا كنا على مثالها وطبقًا لما يلزمها أو تقتضيه من أخلاق، ستكون نصيحتنا لأبنائنا بعدم التدخين أشد إقناعًا لهم إذا كنا نحن لا ندخن، ورغم ذلك فإن انحرافنا هذا ونصحنا بما لا نلتزم به لا ينقض حجتنا، كما أنه لا يجعل الرد علينا: أنت أيضًا تفعل ذلك ردًا صائبًا.
ويمكن بالتأكيد أن تشاهد هذه الحجة في الفضاء العام، كما في هذا المثال:
- لا تحدثونا عن قسوة الأمن في التعامل مع المتظاهرين؛ فإنكم تشاهدون في أوروبا وفي فرنسا وهي معقل الديمقراطية كيف تعامل الأمن بالأمس مع المتظاهرين..!
- لدينا فساد في بلادنا، وكذلك يوجد فساد في كل بلاد العالم، ومنها البلاد المتقدمة.
- أنا لست متعاطفًا مع أوكرانيا، فالعالم لا يتعاطف مع السوريين أو الفلسطينيين..!
رابعًا: الاقتداء بالصفوة والنُّخبة
وهذه النخبة قد تكون فنية أو رياضية أو سياسية.. ويمكن ملاحظة تأثير هذه الحُجّة في عالم الأعمال والتجارة والاستثمار، كأن نقول مثلا:
- إن النجم الرياضيّ فلان يستخدم ماركة كذا في العطور، أو أن الطبقة الغنية تفضل مصيف كذا… ليستخلص المتلقي بنفسه أن هذه الماركة هي الأفضل وأن هذا المصيف أكثر راحة وإمتاعًا.
خامسًا: التلويح بالعلَمَ
وفي هذه المغالطة تجد المتكلم يلجأ إلى المشاعر القومية أو الوطنية لتدعيم حجته، أو لينال من موقف آخر باعتباره منافيًا للوطنية أو القومية. إنه يبدو حين يتكلم وكأنه يلوِّح بالعَلَم في وجه محدثه، رغم أن الموضوع قد يكون اقتصاديًا أو اجتماعيا يحتاج إلى نقاش أهدى ومعرفة أدق بالمقدمات والمعطيات.
وقد لا تحتاج هذه الحُجّة إلى أمثله، فأنت تشاهدها كثيرًا وخاصة عقب ثورة يناير وإلى اليوم، فتجد الجميع يرفع شعار الوطنية أو يلوّح بعَلَم البلاد في وجه الجميع دون أن يجلس ويتناول القضايا المطروحه بالنقاش الفعلي، وهذه بالتأكيد إحدى المغالطات الهروبية التي يغطي بها المتكلم على عجزه، وأحيانًا على تآمره على الحقيقة، ومن المفيد هنا أن نتذكر عبارة صموئيل جونسون: “الوطنية هي آخر ملاجئ الأوغاد”. أو نتذكر المقولة الشعبية التي تعلق على مثل هذه الحجة بقولها: “شغل حلق حوش”..أو “شغل بلوتيكا”..!
سادسا: اتجاه الريح
وهذه المغالطة تتصل بهؤلاء الذين لا يثبتون على مبدأ أو موقف، ويسمحون لأنفسهم باستبدال المبدأ طبقًا لما تقتضيه مصالحهم، إنهم على استعداد لتغيير كل شيء، وكل ما يفعلونه أنهم يراقبون “اتجاه الريح”، ثم يتركون أنفسهم للسير معها، وليس أسهل من مواجهة هذه الحُجّة؛ إذ تتقوض بمجرد عرض التناقضات ومقارنة الوضع الحالي بما كان، وهذا بحد ذاته كفيل بتقويض مصداقية هؤلاء، حيث يظهر الخصم بمظهر الكاذب الذي لا يناصر الحق أو الوطن أو أيّ قيمة، وإنما يوالي مصالحه ويدافع عنها…
وقريبًا من هذه الحُجّة قولنا: “إنه يعرف من أين تؤكل الكتف”، وإن كانت تدل على المهارة في الوصول إلى الهدف، دون أن يترتب على ذلك بالضرورة، ابتذال المبدأ أو التنقل بين المبادئ المختلفة.
*
هذه بعض النماذج العامة للمغالطات المنطقية، وهناك غيرها بالتأكيد مما سنقف إزاءه في مقالات تالية، ولا غاية من ورائها غير أن نمتلك الحق في الفهم، وأن نواجه الحجة أو القضية من حيث هي، بعيدًا عن تجاهلها أو سبّ قائلها، ليس لأن ذلك زيف فحسب، وإنما لأن ذلك يوهمنا أننا نعالج مشاكلنا سواء أكانت عامة أم خاصة، ونحن في الحقيقة نُزيِّف وعينا بالقضية وموضوعها.