من المعروف قطعاً أن سلطة الرقابة القضائية على دستورية القوانين تنعقد بحسب الأصل العام للمحكمة الدستورية العليا، وذلك كأصل عام مستقر عليه في كافة الأنظمة القضائية الدستورية، وتعد الرقابة الدستورية هي الوسيلة الأفضل للحفاظ على قيمة وسمو القاعدة الدستورية على باقي القواعد القانونية التي تليها في الدرجة من حيث سلم الترتيب القانوني للقاعدة القانونية، والرقابة على دستورية القوانين بحسب الأصل العام هي عمل قانوني يهدف إلى الوصول إلى حالة من التناغم والانسجام بين القوانين العادية وقواعد الدستور، وبالتالي فإن الرقابة على دستورية القوانين ما هي إلا وسيلة يكفل بها واضعو الدستور في البلاد ضمان الاحترام الكامل لجميع بنوده وقواعده سواء من قبل السلطة التشريعية أم التنفيذية.
وإذا ان القضاء الدستوري يكون الهدف النهائي من اللجوء إليه هو القضاء بدستورية النص المعروض عليه أو بعدم دستوريته سواء من النواحي الشكلية أو الموضوعية، ويترتب على هذا القضاء إما بقاء النص، أو إصدار شهادة وفاة لهو لعدم صلاحيته للبقاء على قيد الحياة، وهو الأمر الذي يكفل ضمان الحقوق والحريات وتحقيق العدل والمساواة التي جرى النص عليها في الدستور، فحق التشريع وإن كان من الحقوق الأصيلة للسلطة التشريعية إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن تتعدى هذه السلطة على غيرها من السلطات داخل الدولة، فمن غير المسموح قانونًا لها أن تتجاوز الصلاحيات الممنوحة لها، كما أن السلطة التنفيذية هي الأخرى يجب أن تكون جميع الأعمال والقرارات التي تصدر عنها متفقة مع أحكام الدستور وإلا كانت غير مشروعة وجديرة بالإلغاء.
لكن هل يقف أمر الرقابة على مدى دستورية النصوص القانونية واللوائح عند حد المحاكم الدستورية فقط، أم أنه يمتد ليشمل المحاكم العادية أيضا على مختلف أنواعها ودرجاتها؟ وللإجابة على هذا التساؤل لابد فيه من النظر بشكل أعمق من الطريقة التقليدية في التفكير في مدلول الرقابة الدستورية، وأنه وبشكل موجز فإن حد الرقابة على مدى توافق النصوص التشريعية مع الدستور لا يكون واقفاً بشكل حاد عند حدود ودور المحكمة الدستورية العليا، بل إنه يمتد بشكل مختلف إلى المحاكم العادية، وربما بطريقة أو بحدود ونتائج مختلفة عن الرقابة المخولة للمحكمة الدستورية العليا، وهذا النوع من الرقابة أطلق عليه الفقه القانوني ما يسمى ” رقابة الامتناع “، وهي ما تعني امتناع المحاكم العادية عن تطبيق النص القانوني محل الجدل أو الخلاف عن التطبيق في الحالة القضائية المعروضة عليها، ويقتصر الحكم في الدعوى حال اقتناع المحكمة بالدفاع المقدم فقط على الامتناع عن تطبيق القانون لتعارضه مع أحكام الدستور، كما أنه ذو حجية نسبية، إذ يقتصر أثره على أطراف الدعوى فقط، فإن هذا القانون يبقى قائما و موجودا، و يمكن للمحاكم الأخرى أن تطبقه إذا لم يدفع بعدم دستوريته أمامها، وعلى هذا الطريق سار القضاء المصري في ظل دستور سنة 1923 نظرا لعدم وجود أي نصوص دستورية أو تشريعية تنظم حق القضاء في مراقبة دستورية القوانين( ). وقد حسمت محكمة القضاء الإداري تردد القضاء المصري في هذا المجال في حكمها الشهير الصادر بتاريخ 10 فبراير 1948، مقررة حق المحاكم في بحث دستورية القوانين، وصاغت أسانيدها بعبارات دقيقة محكمة مما جعل هذا الحكم من الأحكام الكبرى الشهيرة في تاريخ القضاء المصري، ومما جاء في حيثياته أنه: ومن حيث أنه ليس في القانون المصري ما يمنع المحاكم من التصدي لبحث دستورية القوانين سواء من ناحية الشكل أو الموضوع، وقد قدمت هذه المحكمة تسبيبا رائعا لهذا الحكم يستند الى المفهوم السليم لمبدأ الفصل بين السلطات وضرورة احترام كل منها للمبادئ التي قررها الدستور حال قيامها بوظائفها، وإلى تحديد وظيفة المحاكم إزاء تعارض قانون عادي مع الدستور، بما مؤداه أن المحاكم تملك الفصل عند تعارض القوانين في أيها الواجب التطبيق إذ لا يعدو أن يكون هذا التعارض صعوبة قانونية مما يتولد عن المنازعة فتشملها سلطة المحكمة في التقدير لأن قاضي الأصل هو قاضي الفرع.
وهذا النوع مقرر لكل أنواع المحاكم، ومفهوم رقابة الامتناع أن لجميع أنواع المحاكم أن تبسط رقابتها على القرارات بقوانين، أو ما عداها من قوانين حتى تلك الصادرة عن المجلس التشريعي، وذلك من أجل أن تتحقق من شرعية هذه القوانين المرتبطة بالنزاع المعروض عليها، وتوافقه مع أحكام الدستور سواء من حيث الشكل أو من حيث موضوع القانون ذاته. فإذا تحقق للمحكمة مخالفة القانون لأحكام الدستور يقتصر دورها على مجرد الامتناع عن تطبيقه، دون أن تملك إلغاؤه أو القضاء بعدم دستوريته، وفي هذه الحالة تكون حجية الحكم نسبية قاصرة على أطراف النزاع، والنتيجة الحتمية لهذا النوع من الرقابة الجزئية لا يمتد لغير الدعوى المعروضة، ولكنه يلفت الانتباه على وجود قصور في نص قانوني أو لائحي يجب على المشرع أن يعيد النظر إليه بيد التعديل أو الإلغاء.
ويتطلب هذا النوع من الرقابة وعي قانوني رفيع المستوى لدى أطراف الخصومة القضائية بما يسمح لهم بدراسة القوانين المنظمة لدعواهم، ومعرفة مدى ملامتها وتناسبها أو توافقها مع القواعد الدستورية لأعلى، وإن لم يكن هذا الوعي ليس مطلوباً فقط من أطراف الخصومة، ولكنه يجب أيضا أن يتوافر لدى الهيئة القضائية المنظور أمامها الدعوى، لكون هذه الرقابة منعقدة بحسن سير العدالة، وقاعدة تدرج القاعدة القانونية وسمو الدستور عليها جميعها بما يضمن سلامة الحكم وسلامة القانون ذاته، ومن أحدث التطبيقات التي أطلقتها المحاكم العادية لهذا النوع من الرقابة هو ما صدر من محكمة جنح الأزبكية في الجنحة رقم 12299 لسنة 2012 ، والصادر بجلسة 10/12/2012 ، والذي امتنعت فيه المحكمة عن تطبيق الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ 8 ديسمبر لسنة 2012 ، بل أنها قد اعتبرته مجرد عمل مادي، وقد جاء في حيثيات ذلك الحكم أنه “ولما كان ما سبق وكانت المحكمة قد بينت أنه ليس لرئيس الجمهورية أن يصدر نصوصا دستورية دون استفتاء الشعب عليها طالما لم يمنعه ثمة مانع قهري من ذلك، وإن وجد فعليه أن يستفتي الشعب عليه في مدة ستون يوما كما هو مستقر عليه والتسليم بغير ذلك يناقض الشرعية الدستورية ويعصف بمبدأ الفصل بين السلطات والحريات. وعلى ذلك فلما كان ما صدر بما يسمى إعلانا دستوريا هو في حقيقته عملا ماديا يحمل اغتصابا للسلطة فيجعله منعدما لا يرتب ثمة أثرا عليه، ولما كان القرار رقم 386 لسنة 2012 بتعيين المستشار طلعت إبراهيم محمد عبد الله نائب رئيس محكمة النقض نائبا عاما لمدة أربع سنوات هو أثر من آثار العمل المادي سالف الذكر وهو ما نص عليه العمل المادي الصادر في 8 ديسمبر لسنة 2012 ويطاله الانعدام لابتنائه على غصب السلطة، ومن ثم يجوز لأي جهة قضائية التعرض له وقول كلمتها فيها دونما اعتداد بالاختصاص الإداري ولا ينال من ذلك إلغاء هذا العمل بآخر، إذ أنه يناله كل ما سبق ولا يعتد به طالما لم يستمد شرعيته من الشعب بالاستفتاء عليه ولا يحمل ثمة حصانة”.
ونحن نأمل في زيادة الوعي القانوني وتفعيل تلك الرقابة بشكل أكثر جدية، ولا تكون مجرد نظرية علمية مهجورة تطبق في كل عقد من الزمن.