هل تحتاج مصر إلى “اقتصاد حرب”؟.. سؤال يبدو ملحًا حاليًا في خضم التحديات شديدة الصعوبة التي يمر بها الاقتصاد المحلي. جراء استمرار الحرب “الروسية- الأوكرانية”، والرفع المتتالي لأسعار الفائدة عالميا التي ستسحب السيولة “الأموال الساخنة” من الأسواق الناشئة. وتزيد أعباء الاستيراد وتلقي بمزيد من الضغوط على الجنيه المصري.

يسير الاقتصاد العالمي، حاليًا، بخطى ثابتة نحو الكساد العظيم الذي حدث عام ١٩٢٩ حينما انهارت سوق الأسهم. وتبعه انخفاض النمو الاقتصادي عالميًا ومتوسط الدخل الفردي وعائدات الضرائب والأسعار والأرباح. بينما انخفضت التجارة الدولية بأكثر من 50%، وارتفعت نسبة البطالة في الولايات المتحدة إلى 23% وارتفعت في بعض البلدان لتصل إلى 33%.

التقارير الصادرة من المؤسسات الدولية لا تخل من تحذير الاقتصاديات الناشئة والدول المدينة والمستوردة ومن بينها مصر من تداعيات رفع أمريكا الفائدة التي تعني معا جذب الأموال الساخنة. ومنح الدولار المزيد من القوة، ما يرفع أعباء الاقتراض والدين الخارجي ويزيد من تكلفة الاستيراد.

يشير “اقتصاد الحرب” في تعريفه المجرد إلى مجموعة من إجراءات الطوارئ التي تتخذها الدولة لتعبئة اقتصادها للإنتاج خلال فترة الحرب. لكنه مفهومه اتسع ليضمن  التدابير التي تتخذها الدولة خلال الأزمات كي يصمد اقتصادها خلال هذه الظروف الاستثنائية. وذلك عبر اعتماد نظام إنتاجي يعمل على توفير الموارد الاقتصادية لضمان استمرارية التماسك على المستوى الداخلي المدني.

اقتصاد النكسة

“اقتصاد الحرب” بمفهومه الواسع ليس بعيدًا على مصر  فبعد النكسة. تعرض الاقتصاد بضربة عنيفة بفقدان مصر لإيرادات قناة السويس التي مثلت حينها 4% من الناتج المحلى الإجمالي ذلك العام. بجانب التضرر العنيف لقطاع السياحة، والاحتياجات التمويلية الضخمة لإعادة بناء القوات المسلحة. وخلال تلك الفترة ارتفعت معدلات الاستهلاك وتشجيع المنتجات المحلية وخفض الاستيراد وتبني موازنات تقشفية.

تطبيق “اقتصاديات الحرب” يتضمن تدخلاً قويًا من الدولة فى الاقتصاد، أو بمعنى آخر ركن الاقتصاد الحر على الأرفف. لمعالجة النقص في سلع أساسية، إضافة إلى تثبيت الأسعار وفرض الرقابة التموينية المشددة. أو وتقنين بعض المواد الأساسية السلع الاستهلاكية الأخرى فتعمل على توزيعها بموجب البطاقة التموينية.

قبل أسابيع، كلف مجلس الوزراء مجموعة اقتصادية متخصصة من الوزراء. للعمل على وضع خطة للتعافي والخروج من آثار الأزمة العالمية، عبر حزمة من الإجراءات المحفزة للاستثمارات الأجنبية. والمحلية، والعمل على توافر مختلف السلع في الأسواق، وبأسعار مناسبة. في خطوة أثارت انتقادات لاقتصار تشكيلها على وزراء من الحكومة فقط وبالتالي لن تخرج بالجديد.

ضخ دماء في المجموعة الاقتصادية أمرًا ملحًا لوضع حلول خارج الصندوق

أيمن فودة، الخبير الاقتصادي، يقول إن الاقتصاد المصري يحتاج إلى إجراءات استثنائية. وتغيير سريع في المجموعة الاقتصادية ذاتها، ودخول أسماء جديدة لديها حلول لمعالجة المشكلات. فتعاملها مع ملف الاستيراد لم يفرق بين السلع الوسيطة التي تدخل في إنتاج منتج يتداول محليا أو صالح للتصدير. وتم وضع عراقيل أمام بعض المصانع في الاستيراد باشتراط أن يكون مصدر الدولار من نفس نشاط المستورد. ما يهدد بتوقفها عن العمل وزيادة البطالة وخروج منتج محلي لصالح استيراد آخر كامل.

يضرب فودة مثالاً على تضارب القرارات الاقتصادية التي أثرت على البورصة المصرية مرآة الاقتصاد التي ينظر لها المستثمر الأجنبي والمحلي. قبل أن يتخذ قراره بدخول الأسواق، فالرقابة المالية تقرر وقف أي سهم يحقق ارتفاعًا يتجاوز الحدود القصوى 10%. وفي الوقت ذاته تترك أي سهم يهبط حتى لو كان 20%، كما لو كانت تشجع على الخسارة وليس الربح.

يقول إن المجموعة الاقتصادية في عزلة عن المستثمرين فالبورصة تتراجع منذ أبريل 2018. وهناك أسهم فقدت 80% من قيمتها، وعندما تصعد 10% يتم إيقاف العمليات ما يمثل مشكلة لأي مستثمر أجنبي. خاصة في ظل وجود أسواق منافسة قوية مثل دبي التي حققت من مارس 2020 إلى اليوم ارتفاع بنحو 200%. بينما البورصة المصرية فشلت للوصول لمعدلات ما قبل كورونا.

يؤكد فودة ضرورة إعادة النظر في التشريعات المنظمة لسوق المال والشركات والاستثمار للوصول لصيغ مستقرة لا تتغير لجذب المستثمرين الأجانب. وعودة هيئة سوق  المال لدعم السوق فسلطات الرقابة المالية حاليًا مراقب فقط. وأن يكون وقف الأكٍواد المتهمة بالتلاعب في البورصة بعد تحقيقات وقرارات قضائية. اعتبر أن  التضارب في القرارات سبب تراجعا في أسهم من مستويات 600 جنيه في 2008 إلى 6 جنيهات حاليا. رغم ارتباطها بشركات عقارية ضخمة لها محفظة أراضي بالمليارات.

وأكد أن الدين الخارجي ارتفع بصورة تتطلب وجود فكر جديد يقوم على حشد الموارد المحلية لفتح الشركات. ومنحها إعفاءات ضريبة واستغلال حجم السوق المحلية الضخمة التي تضم 100 مليون نسمة في جذب الاستثمار الأجنبي. ووضع محفزات جاذبة لرؤوس الأموال المحلية والعربية التي حال نجاحها ستكون خير جاذب للاستثمار الأجنبي.

ارتفع الدين الخارجي لأكثر من 145 مليار دولار بنهاية الربع الثاني من العام المالي الحالي. وبارتفاع بنحو 6% يعادل 8.1 مليار دولار -بحسب بيانات البنك المركزي الصادرة في 19 أبريل الحالي. وخلال تسع سنوات قفزت قيمة الديون الخارجية على مصر بما يزيد على 100 مليار دولار. إذ قفزت من مستوى 34.4 مليار دولار في 2012 مقابل 147 مليار دولار في نهاية ديسمبر 2021.

هدم معوقات الاستثمار الثمانية.. بداية الطريق لجذب رؤوس الأموال الأجنبية

يقول الخبير الاقتصادي هاني توفيق إن معضلة الاقتصاد في أن مصر بلد تنتج أقل مما تستهلك، وتصدر أقل مما تستورد. وتدخر أقل بكثير من المطلوب للاستثمار وعمل عناصر الإنتاج بأقصى طاقة ممكنة. والحل في إزالة معوقات الاستثمار الثمانية وعلى رأسها عدم إتباع سياسة سعر صرف مرنة تأخذ فى الاعتبار التضخم السنوي. أسوة بكل عملات العالم، لتسمح بتخفيض تدريجي فى سعر الصرف يجذب الاستثمارات الأجنبية والعملات الصعبة. التي نحتاج إليها سواء عن طريق زيادة الاستثمار الأجنبي أو التصدير أو السياحة. ويكون ذلك التخفيض مصحوباً بحزمات مالية تعاون المتضررين “مؤقتا” من تخفيض سعر العملة. مع التأكيد على أنها “مؤقتة” لحين تدريب وإعادة تأهيل الشباب على العمل المستدام في الاستثمارات الجديدة. فيزيد الدخل وتنخفض المشاكل وتنخفض معها الحزم المالية.

أظهرت بيانات البنك المركزي المصري أن صافي الاستثمار الأجنبي المباشر حقق أدنى مستوى له في آخر 5 سنوات خلال عام 2021 ليبلغ نحو 5.1 مليار دولار مقابل 5.9 مليار دولار في عام 2020، بتراجع 12.5%. بعدما كانت أكبر متلق لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في إفريقيا بحصة تبلغ 14.8% من إجمالي التدفقات  عام 2020 احتلت بها الترتيب الثاني عربيًّا بعد الإمارات.

وطالب توفيق بإعادة في ترتيب أولويات الإنفاق الحكومي فى صالح البشر سحباً من رصيد التوسع فى الحجر (يقصد التوسع العمراني). وتوجيه الدفة نحو افتتاح مصانع ومزارع جديدة ذات صفة الاستدامة. وإتباع سياسات مالية ونقدية محفزة للاستثمار  المحلى والأجنبي المباشر وغير المباشر. وبدء تخارج الدولة من المشروعات والشركات غير الإستراتيجية، تركها بالكامل للقطاع الخاص. فلن يأتي مستثمر فى مصر سواء أجنبي أو مصري لينافس أو يزاحم المنظم والرقيب. مع استثمارات إضافية تتضمن نتاج، وتشغيل مستدام، وتصدير، وزيادة الناتج المحلي. وخفض عجز الموازنة، والدين العام، وزيادة الاحتياطي النقدي.

تلقت الحكومة توجيهات لمواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية، تتضمن تعزيز دور القطاع الخاص للمشاركة بصورة أكبر في التنمية الاقتصادية. من خلال برنامج إطلاق مبادرة دعم وتوطين الصناعات الوطنية للاعتماد على المنتج المحلي وتقليل الواردات. ووضع برنامج لمشاركة القطاع الخاص في الأصول المملوكة للدولة بمستهدف 10 مليارات دولار سنويًا لمدة 4 سنوات.

وتجمع الدراسات الاقتصادية على وجود معوقات كثيرة يعاني منها الاستثمار أصبح أهمها تكلفة التمويل نتيجة ارتفاع سعر الفائدة. كما أدى تحرير سعر الصرف إلى انخفاض سعر العملة وزاد من تنافسية الاقتصاد. لكن يجب الأخذ في الاعتبار أن تلك الميزة تتآكل إذا استمرت معدلات التضخم المرتفعة. علاوة على أن جزءا كبيرا من المكونات يتم استيراده مما يؤدي إلى زيادة التكلفة.

لكي يخرج الاقتصاد من أزماته المستمرة تحتاج مصر إلى استثمار أجنبي مباشر. يستهدف صناعات محددة وسياسات واضحة ومستقرة تشعر المستثمر بالاستقرار بما ينعش معه الاستثمار المحلي بالتبعية. وتوفير المعلومات وإيجاد خريطة استثمار حقيقية في سياق سلاسل القيمة وليست قطاعات بأكملها. وإيجاد محفزات تجذب المستثمرين للقطاعات التي تريد الدولة تنميتها.

المواطنون يجب أن يتعايشوا مع فترات صعبة والدولة عليها تعزيز الرقابة على السوق

الخبير المالي أحمد العطيفي يقول إن مشكلة الأسواق الناشئة ليس في ارتفاع الفائدة الأمريكية فقط. لكنها سلسلة مترابطة ومتوالية من ارتفاع أسعار الطاقة والأغذية والسلع وانخفاض قيمة العملات أمام الدولار. وارتفاع العوائد على السندات الأمريكية وارتفاع تكلفة التمويل وتذبذب أسعار الذهب. وتغيير  خطة الاستثمار فى أدوات الدين فى الأسواق الناشئة.

يضيف العطيفي أن الآمال معقودة في مصر على عوائد الغاز وعودة السياحة وارتفاع عوائد قناة السويس. التي ارتفعت متأثرة ليس بالتجارة ولكن بالرسوم الجديدة على ناقلات الغاز وأنظمة رسوم الجديدة. لكن الجنيه المصري سيتأثر طبعًا مثله مثل كل العملات رغم انه استبق الحدث عند ارتفاع الفائدة سابقًا. لكن بدون جدال البنك المركزى يملك أكثر من سيناريو فى مرونة سعر الصرف. ما يعني أننا قد نرى انخفاضًا وارتفاعًا وتذبذب فى سعر الصرف بمعنى لا يوجد استقرار حاليًا حتى تضح الرؤية نسبيًا.

رغم تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على السياحة المصرية. لكن هناك بوادر للتعافي فمصر جاءت في المرتبة الثانية بزيادة في عدد الوافدين الدوليين. خلال الربع الثاني من عام 2022، بحسب آخر بيانات مؤسسة “فوروارد كيز” المتخصصة في مجال استشارات السفر الجوي واتجاهات تحليل اتجاهات حجز تذاكر الطيران.

أضاف أن مصلحة الدولة تمامًا في تنفيذ إصلاحات سريعة وقوية تخدم سوق المال لجذب الاستثمار الأجنبي. أو المحافظة على ما تبقى من الأجانب واستثمارات المصريين تعويضا عن التضخم مع أهمية عدم التدخل فى آليات السوق. فتعويم مارس الماضي لم يؤثر على الأسهم ولكن أثر على الأسعار ورفع التضخم. كما أن المواطنين عليهم نتعايش على الوضع لأنه ليس محليا فقط بل عالميا فى المقام الأول. مع رقابة الدولة على الأسواق والاهتمام بملفي الصناعة والزراعة.

إجراءات قاسية للحفاظ على العملة تتضمن تضييقا على الاستيراد

الدكتور أحمد زكي حسين متولي، عميد كلية التجارة بجامعة قناة السويس سابقًا. يطالب بترشيد الاستيراد وتقليل فاتورة الواردات عن طريق الدولة متمثلة فى البنك المركزي للمحافظة على العملة الأجنبية. لكن ذلك يعني فقدان كثير من المستوردين لكثير من وظائفهم حال استمرارهم بالشكل الحالي. ويبقى الحل في تحويل نشاطهم لاستيراد منتجات أساسية أو اتجاههم لزيادة التصدير أو الدخول للتصنيع أو ترك وتغيير المهنة.

يتوقع متولي حدوث تقص فى السلع المستوردة فى السوق المصرية وارتفاع أسعارها بشدة. ما يتطلب الاعتماد كلًيا على السلع المصنعة محليًا مع تحسين جودتها حتى إن استغرق الأمر وقت طويل. ويشير إلى وجود اتجاه عام للانكماش الاقتصادي واختفاء المشاريع الصغيرة في توجه عالمي سائد خلال الفترة القادمة. ويبقى الحل في ترشيد الاستهلاك والإنفاق والبعد عن الإسراف مع تحسين جودة المنتج المحلى وتصديره والاهتمام أكثر وأكثر بالبحث العلمي والتخصصية في الإنتاج. أي أنتاج السلع والخدمات وخلق ميزة تنافسية تجعل الاقتصاد متفرد ومطلوب فى كافة الأسواق العالمية. فمستقبل معظم السلع يتأرجح بين سلع ستختفي تماًما ولن تعود وأخرى قد تعود تدريجيا بعد عام 2024. وسلع ترتفع فجائيًا وأخرى بالتدريج فالأزمة الاقتصادية الحالية تعصف بكثير من الاقتصاديات لم نراها منذ أزمة الكساد العظيم ١٩٢٩.

لكن الدكتورة عالية المهدي، عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الأسبق بجامعة القاهرة. تطالب بتغيير أولويات الدولة 180 درجة من الاستثمار العقاري إلى الاستثمار الصناعي والزراعي. وتوفير حوافز مالية وغير مالية في المجالات المستهدف تنميتها. مضيفة أن الحلول النقدية (البنك المركزي) وقتية ولا تنشط الاقتصاد الحقيقي المستهدف تنميته في الفترة المقبلة.

يجمع خبراء المال والاقتصاد على أن الفترة المقبلة شديدة الصعوبة على الاقتصاد المصري. وتحتاج لإجراءات وفكر استثنائي للخروج منها بشكل آمن ووضع قواعد يمكن البناء عليها لاقتصاد متين. لا يتأثر بالأحداث الدولية ولدي جميع الاحتياجات الأساسية التي تغنيه عن الاحتياج الخارجي أو تقلبات أسواق الاستيراد.