يخوض الصحفيون في تونس معركة متجددة للحفاظ على مكاسب حرية التعبير ورفض ما اعتبروه حملة تضييقات وملاحقة ورقابة على أعمالهم. خاصة في ظل التدابير الاستثنائية الموجودة حاليا. والتي تركز كل السلطات في يد الرئيس. والتي بدأها بحملة على الإعلام وتعتيم على تداول المعلومات. مما يُهيئ المناخ لتفشي الأخبار الزائفة والمضللة.
وقد سجلت تونس تراجعاً في التصنيف العالمي لحرية الصحافة لسنة 2022 الصادر عن منظمة “مراسلون بلا حدود”. لتحتل المرتبة 94. مسجلة بذلك تراجعاً بـ21 نقطة مقارنة بتصنيفها العام السابق.
وأكدت المنظمة في تقريرها أن تعقب الصحافيين أصبح أمرا شائعا في تونس. وأن عشرات الصحافيين -بمن فيهم مراسلو وسائل إعلام دولية- تعرضوا للتعنيف خلال تغطيتهم مظاهرات احتجاجية.
وأشار التقرير إلى ارتفاع وتيرة الهجمات اللفظية ضد الصحافيين ووسائل الإعلام من قبل السياسيين.
وذكر التقرير أن الإطار التشريعي لحرية الصحافة “غير متكامل ولا يوفر سوى الحد الأدنى من الحماية للصحافيين ولوسائل الإعلام”. وأن القضاء التونسي بصدد إصدار أحكام على معنى نصوص قانونية متوارثة من عهد الرئيس المخلوع بن علي. عوض الاستناد إلى تشريعات ملائمة لحرية الصحافة والحق في الإعلام.
إحصائيات الاعتداء على الصحفيين في تونس
من جانبها دعت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إلى مسيرة حاشدة تحت شعار “حرية الصحافة والتعبير” يوم الخميس 5 مايو 2022. وذلك بمشاركة ناشطين من المجتمع المدني.
وأعلنت النقابة في تقريرها السنوي عن واقع الحريات الصحافية بتسجيل 214 اعتداءً على الصحافيين خلال العام الماضي. مبرزة أن الأشهر الثلاثة الأصعب على الصحافة التونسية والصحافيين كانت شهر يوليو. الذي سجل في الفترة الممتدة بين الخامس والعشرين والحادي والثلاثين منه 20 اعتداءً على الصحافيين. أي بنسبة ثلاثة اعتداءات يومياً. ثم شهر سبتمبر الذي شهد توترات واعتداءات عنيفة على الصحافيين تلاه شهر يناير 2022.
وحمَّلت النقابة في بيان لها رئيس الجمهورية -قيس سعيد- مسؤولية التراجع في تصنيف تونس لحرية الصحافة. وأشار بيان النقابة أن هذا التراجع جاء نتيجة ارتفاع وتيرة الانتهاكات ضد الصحافيات والصحافيين والمحاكمات والتوقيف واستمرار إحالة المدنيين للقضاء العسكري. فضلا عن انغلاق السلطة وتعتيمها على المعلومات.
أحداث مهدت للتوترات
بعد ثمانية أشهر من تعليق عمل البرلمان التونسي حل الرئيس قيس سعيد في 30 مارس الهيئة التشريعية. وذلك عقب ساعات فقط من عقد أعضاء في البرلمان جلسة افتراضية عبر الإنترنت للتصويت على مشروع قانون يعكس “الإجراءات الاستثنائية” الصادرة منذ توليه السلطة. فقامت السلطات بحظر تطبيقات الفيديو عبر الإنترنت مثل”زوم ومايكروسوفت تيم” في جميع أنحاء تونس خلال الجلسة الافتراضية على الإنترنت.
وأجرى البرلمان 123 مشروع قانون للتصويت في نهاية المطاف عبر منصة GoToMeeting” چو تو ميتينج“. وقد بدأت منذ ذلك الحين تحقيقات ضد أعضاء البرلمان الموقوف عن العمل بتهمة “التآمر على أمن الدولة”.
بعدها أخذت حدة الصدام تتصاعد وأكد عدد من الصحفيين أنهم “يواجهون مشكلا في استخدام تطبيق زوم وملاحقات أمنية”.
ويواجه العشرات من النقاد والصحفيين الاعتقالات بسبب حريتهم في التعبير الشهر الماضي. حيث سُجن الوزير السابق ورئيس نقابة المحامين عبد الرزاق الكيلاني بسبب خلاف بينه وبين ضباط الأمن الذين منعوه من الوصول إلى المستشفى في يناير 2022.
إقامة جبرية ومنع من السفر
وقالت سلسبيل شلالي -مديرة منظمة هيومن رايتس ووتش في تونس- إن عشرات المنتقدين تم وضعهم قيد الإقامة الجبريّة أو منعهم من السفر. وأن الكيلاني تم إيداعه سجن المرناقية. واختتمت بأنه لا أمان لأي شخص ينتقد السلطة في تونس حاليا.
وذكرت “سلسبيل” في تعليقها أنه تم اعتقال الصحفي خليفة القاسمي من “راديو موزاييك” في 18 مارس الماضي. وذلك بعد أن رفض الكشف عن مصادر المعلومات في تقاريره الأخيرة حول اعتقال مجموعة من المشتبه بهم في الإرهاب.
وأُفرج عن “القاسمي” في وقت لاحق لكنه لا يزال يواجه تهماً بموجب قانون مكافحة الإرهاب في البلاد.
كانت تلك الأحداث قد دفعت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بالدعوة للإضراب في 2 أبريل الماضي إذا لم تحقق الدولة مطالبها المتعلقة بتدهور الأوضاع في قناة الوطنية الحكومية. فيما كثف المجتمع المدني في الأسابيع الأخيرة جهوده مع احتجاج إعلاميين على اعتقال الصحفيين وتقليص الحريات الصحفية.
وتعليقا على الأحداث حمل نقيب الصحفيين التونسيين مهدي الجلاصي الرئيس التونسي قيس السعيد مسؤولية هذا التراجع في التصنيف. كما أدان سعي بعض الأطراف إلى السيطرة على وسائل الإعلام مثلما تمت السيطرة على كل مؤسسات الدولة.
ووصف ذلك بأن هناك قرارا سياسيا واضحا للتعتيم على المعلومة وعلى رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة الانفتاح على الإعلام وعلى الشعب. مطالبا أن يكون هناك تعهد واضح من السلطة ينهي الانتهاكات في حق الصحافة والصحافيين ويعاقب كل المعتدين بالفعل وليس بالشعارات وإطلاق حوار حقيقي حول واقع الإعلام.
خريف الصحافة التونسية
هذا المشهد المتوتر وصفه الكاتب الصحفي المتخصص في الشأن التونسي كارم يحيى في مقال له بموقع “نواة” بأنه “خريف الصحافة”. معربا عن قلقه على مستقبل الصحافة في تونس. والتي يري أنها قطعت مسافة مهمة بين الدول العربية في حرية الرأي والتعبير. وأن الوضع الحالي يثير مخاوفه من اتساع دائرة التقييد التي تؤثر على مكتسبات ربيع الثورة لاعتبارات المكايدة السياسية أو الخلاف الفكري والثقافي أو حتى النمط المجتمعي.
وانتقد “كارم” في مقاله موقف النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في مواجهة الإجراءات الاستثنائية للرئيس قيس سعيد من 25 يونيو إلى 13 سبتمبر 2021 وصولا إلى ما فعله بالقضاء ومجالسه. كما أدان موقف النقابة وجهودها في محطات خطيرة هددت حرية الصحافة وحقوق الصحفيين في تونس قبل تلك الأحداث. ومنها إغلاق مكتب قناة “الجزيرة” في 26 يونيو 2021 حتى الآن. واعتقال الصحفي عامر عياد ومحاكمته أمام القضاء العسكري نوفمبر 2021 في قضية نشر مشهورة بـ“قضية قصيدة الشاعر أحمد مطر”. فضلا عن إغلاق قناة “الزيتونة” التليفزيونية. متسائلا: “هل تميز النقابة في دفاعها عن الصحفيين بسبب انتماءاتهم السياسية والفكرية أو توجهات وسياسات وسائل الإعلام التي يعملون بها؟”.
وانتقد موقف النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين أيضا من محاكمة الرئيس المنصف المرزوقي ـاختلفنا أو اتفقنا معه ـ والحكم بسجنه أربع سنوات وسحب جواز سفره الدبلوماسي لمجاهرته بآراء معارضة للرئيس سعيد وتوجهاته.
وتخوف “كارم” من العودة إلى الأوضاع القانونية لما قبل مراسيم وقوانين الثورة المحررة للإعلام. مقترحا خلال مقاله أن تقوم نقابة الصحفيين التونسيين مع رياح “الخريف” التي تهدد حرية الصحافة وحقوق الصحفيين في تونس أن تجري النقابة نفسها مراجعة بشأن الاتهامات بتمييزها سياسيا عند الدفاع عن الحقوق والحريات بين هذا وذاك من الصحفيين بخاصة والمواطنين بصفة عامة.
انعكاس الوضع السياسي على الصحافة
كان الرئيس التونسى قيس سعيد أعلن فى كلمة ألقاها خلال مأدبة إفطار على شرف أهالي الشهداء من المؤسستين العسكرية والأمنية في رمضان الماضي. أنه لن يتحاور مع أي أحد كان يريد أن يضرب الدولة. ولن يعترف بمن باعوا الوطن أو من يحاولون ذلك.
وأكد أنه لا اعتراف بمن يقايض الوطن بالسلطة. ولا اعتراف ولا مفاوضات مع أناس لفظهم التاريخ. قائلا: “أرفعها لاءات ثلاثة. لا حوار ولا اعتراف ولا صلح إلا مع الوطنيين الصادقين”.
كما انتقد “سعيد” مواقف الانزعاج الخارجية من الأوضاع فى تونس. رغم تقديمه كل الضمانات من أجل تحقيق انتخابات نزيهة.
المحلل والكاتب السياسي المتخصص في الشؤون العربية والدولية مصطفى السعيد أرجع أزمة الحريات الصحفية في تونس إلى ارتباك المشهد السياسي على حد وصفه. وانعكاسه على الصحافة.
واعتبر ذلك ناتج الأداء المخيب للأحزاب السياسية التقليدية ودخولها في سجال طويل مع حزب النهضة الذي دفع بدوره للحشد والتظاهر وإحداث أزمة كبيرة برفضه مشاركة الأحزاب المدنية الأخرى. وانتهت بأزمة البرلمان.
احتقان وانقسام سياسي
تصاعدت الأزمة أيضا مع الرفض الشعبي للنهضة -بحسب “السعيد”- وتبع ذلك دخول الرئيس في مواجهة مع البرلمان. ما زاد حدة الاحتقان السياسي والانقسام بالشارع. جزء مؤيد للرئيس وجزء مع حزب النهضة وثالث مع الأحزاب.
هذا الانقسام نتج من عدم قدرة الأحزاب على تقديم مخرج وحل للأزمة مع تمسكها بالرفض.
أيضا فشل الرئيس في تقديم بديل مقبول ومتماسك يشق طريقه كـ”دليل مؤسسي” قادر على إنجاز مهامه السياسية وفقا لـ”السعيد”.
وقال “السعيد” لــ”مصر 360″ إن إصرار الرئيس على رفض الحوار الوطني واستمرار الأحزاب في عملية الحشد والشحن جعل كل طرف من أطراف اللعبة السياسية في تونس يستخدم أدواته في الضغط على الأطراف الأخرى. وكان من بينها الصحافة ووسائل الإعلام. فكل طرف يمتلك أدوات صحفية يستخدمها للضغط.
المناخ السياسي
وأشار السعيد إلى أن الصحافة بشكل عام تتأثر بالمناخ السياسي إذا كان منفتحا أو منغلقا. فالدولة تستخدم وسائلها لتعبر عنها وحزب النهضة يستخدم وسائله للضغط لخلخلة النظام ومهاجمته. مع خضوع بعض المؤسسات في الدولة لسيطرت حركة النهضة مثل مؤسسة القضاء. فلم يجد الرئيس مخرجا من حالة الحصار إلا بالضغط وحل البرلمان وتعطيل الدستور. كما لم تجد الصحافة مخرجا في التعبير عن الجهة التي تمثلها.
وأوضح أن كل فريق يحاول التضييق على الفريق الآخر. ومع اتساع السجال السياسي واستمرار الضغط كانت السلطة أكثر تضييقا من الأطراف الأخرى في استخدام وتقليص مساحة الحريات في الإعلام والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي. في محاولة منها لإنهاء الأزمات.
قراءة في سياق الأزمة
دنيا القليبي مقدمة برامج في إذاعة راديو كامبس قالت إن تراجع حرية الصحافة الذي أشارت إليه منظمة “مراسلون بلا حدود” مؤخرا بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة لا بد أن يقرأ في سياق الظرف السياسي الحالي. والذي يفرض إجراءات استثنائية معينة تعتبر عند البعض “تضييقا”. لذا يجب النظر إليه من زاوية أخرى. بأن هناك ضغوطا داخلية وخارجية وصراعات سياسية بين الأفراد أدت إلى هذا التغيير في وضع الحريات في كل المجالات.
وترى أن وضع الصحافة في تونس وإن شهد تراجعا فهو جيد بالمقارنة ببعض الدول العربية. فلا تزال الصحافة التونسية تحافظ على مكتسباتها فيما بعد 2011. وأن التقييد لم يتجاوز 5 حالات لصحفيين تم الإفراج عنهم. وأن السلطات لم تمارس الاعتقالات ضد الصحفيين مثل بلدان شقيقة أخرى.
أزمة قناة الزيتونة
وعن أزمة قناة الزيتونة قالت “دنيا” لـ”مصر 360″ إن القناة وضعها غير قانوني وتمويلها من جماعة الإخوان. التي تقوم من خلالها ببعض أعمال التحريض على رئيس الدولة. لذلك تم تحويل الصحفي عامر عياد لمحاكمة عسكرية. موضحة أن غلق القناة كان بقرار الهيئة العليا للإعلام التي أعلنت أن القناة “غير مرخصة”.
واعتبرت الأحداث التي تتعرض لها تونس بعد قرارات 30 مارس اختبارا لكل المؤسسات والأحزاب لقياس قدرتها على تحمل الضغوط في الوضع الراهن وإظهار الانحيازات إن كانت لمصلحة الدولة أم لمصلحة الأفراد.
وترى أنه لا مجال لفرض قيود جديدة على الصحافة. مؤكدة أن الدولة حريصة على ذلك. بل وضعت ضمانات تشريعية لحماية الحرية ومنع الاختفاء القسري والاعتقالات التي كانت تتم قبل 2011. وفي نظرها لم تعد تلك الممارسات موجودة الآن. وأنه سيتم عرض هذه الضمانات في الاستفتاء من خلال الدستور في يوليو القادم.
هشاشة الاقتصاد التونسي
وأرجعت “دنيا” حالة الاحتقان الحالية بين السلطة والصحفيين وبعض المؤسسات إلى هشاشة الوضع الاقتصادي والاجتماعي. وقالت إن العديد من المؤسسات الإعلامية التونسية ما زالت ترتبط ببعض جهات تمويلها. منها ما هو سري وما هو علني. وهذا أمر يجب أن يخضع لمسار التصحيح على حد قولها. باعتبار أن التمويل يؤثر في قرار الوسيلة الإعلامية فيجعلها تخدم الجهة الممولة مثل حزب النهضة الذي يستغل أي ضعف في مؤسسات الدولة التونسية لإثارة البلبلة وتوجيه اللوم.
من جانبه أكد الرئيس التونسي قيس السعيد على صفحة رئاسة الجمهورية تمسكه بحرية التعبير وحرصه على أن يكون الإعلام حرا. خاصة أن تونس لديها نصوص متعلقة بحرية الصحافة منذ أكتوبر .1884
وأكد رئيس الجمهورية أن حرية التعبير يجب أن تكون مسبوقة بحرية التفكير. مبينا أن الفكر الوطني هو الذي يسعى إلى الحفاظ على الدولة ومؤسساته. وأشار إلى أنه “لا مجال لفرض قيود على الصحافة”. وأن الأهم هو أن يتحمل كل طرف مسؤوليته في هذا الظرف الذي تعيشه تونس.