في الثالث من مايو في كل عام يحتفل العالم باليوم العالمي لحرية الصحافة، ويتذكر الصحفيون العرب والمصريون بكل المحبة واحدًا من أعلام المهنة الأستاذ كامل زهيري، وهذا العام يحمل الموعدان همومًا تحيط بالصحافة، ومتاعب ترهق أصحاب المهنة، آخرها ما أظهره مؤشر حرية الصحافة، الذي تصدره منظمة مراسلون بلا حدود، والذي يقيم ظروف ممارسة هذه المهنة في 180 دولة، حيث تراجعت مصر إلى المرتبة 168 هذا العام، وكانت بالمرتبة 166 خلال عام 2021.

الصدفة لا تأتي إلا لمن يستحقها، تنطبق هذه العبارة أشد ما تنطبق على صدفة أن يتوافق ميلاد كامل زهيري مع الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة من كل سنة، والأمران يستدعيان إلى الذاكرة ذكريات متعددة، مع كبير الفرسان في بلاط صاحبة الجلالة، نقيب النقباء الذي ارتبط اسمه بنقابة الصحفيين حتى صار علمًا عليها، كما كان ملكًا متوجًا في دولة الكتابة والصحافة.

**

يذكرني الحديث المتداول هذه الأيام عن الحوار الوطني بمقال له في جريدة الأحرار وجه خلاله رسالة إلى الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب وقتها (1985) قال فيها كامل زهيري: «إيمانًا بأن الحوار الوطني المسئول هو طوق النجاة، وأن اصطناع الطاعة لا يقل ضلالة عن تصيد الخطأ، وإيمانًا بأن الاختلاف في الرأي ـ طالما طابت النوايا ـ هو دليل صحة وعافية، وليس نذير مرض عضال، فإنني أعلن صراحة رأيي في طريقة إعداد قانون الصحافة الجديد، إنني أعترض من ناحية الشكل والمضمون. ولن أناقش مواد القانون لأن العبرة كما يدرك كل دارس لقوانين الصحافة أن تتسق النصوص مع روح الدستور حتى لا تزهق روح الدستور بحبال مفتولة من الكلمات».

**

برع كامل زهيري في نحت التعبيرات، يطلقها من «ثقب الباب» فتجدها قد انتشرت على كل لسان، كان صاحب ومدير دار «سك الجملة»، ونقش التعبيرات القادرة على الحياة زمنًا طويلاً من بعده، وكثيرٌ من العبارات والكلمات الرائجة على ألسنة الصحفيين وفي كتابات الكثيرين هي من صناعة تلك الدار، وعليها خاتمه، وفوقها بصمته، يفاجئك كل حديث، أو كل مقال بعبارة مبتكرة، أو بتعبير مبتدع، يخرج منه على البديهة، كأنها سليقته التي لم يؤت خيرًا منها.

كان يصف الحال فيقول: «نعيش في مرحلة الكفاف الديمقراطي وهذا الكفاف قد يمنع الانفجار لكنه أيضاً يمنع الازدهار»، وكان دائمًا ما ينصحنا بقوله: «اقرأ كأنك تعيش أبداً، واكتب كأنك تموت غداً»، وكثيرًا ما كان يردد أمامنا أن: «الحرية ليست امتيازًا ولا حصانة للصحفيين، بل هي دفاع عن حق المواطن في أن يحصل على صحيفة على قدر كاف من الرأي والخبر، وهو ما يطلق عليه حق المواطن في الاعلام».

**

تبقى نقابة الصحفيين عند كامل زهيري هي نقطة البدء، وهي أول المكان، منها إلى مثلث الرعب، حيث نادى القضاة ونقابة المحامين على جانبي نقابة الصحفيين، ومن هذا المثلث ينطلق حديثه معنا إلى معالم «وسط البلد»، ومن النهر إلى الشاطئ، وعبر النهر حتى الجبل، وبينهما أحياء القاهرة القديمة، إلى العاصمة كلها، بكل تفاصيلها المعمارية وسماتها الحضارية، ومنها إلى مصر في محيطها العربي، إلى عواصم عاشها وعاشت فيه، تبدأ من شوارع نيودلهي في الهند، ولا تنتهي عند شاطئ السين في قلب العاصمة الفرنسية.

النقابة عنده أول الكلام وآخره، رغم كثرة الترحال، هي موطن المحبة، في قلبه لها مكان الصدارة، هي بيته، أو هي بيت العائلة الكبير، لا يشبهه في ولعه بالنقابة غير قليلين، النقابة عنده وعندهم كائن حي، ومعنى فصيح، لا يعرفه إلا العالمون بقيمة العمل النقابي، بل هي امرأة يذوب فيها عشقًا، ويهيم بها حبًا، وهي (زى الولية اللى ييجى عليها ما يكسبش)، قالها في مواجهة الرئيس أنور السادات، وكسبت النقابة، وخسر السادات مشروعه لتحويلها إلى نادٍ تابع لوزارة الإعلام.

**

عرفتُ واقتربتُ ـ بدرجات متفاوتة ـ من ثلاثة درسوا الحقوق ثم اتجهوا إلى الصحافة وندهتهم نداهة الكتابة فبرعوا فيها، وصاروا أعلامًا بارزة في دولة الكتابة، ومنارات شاهقة في عالم الصحافة، أولهم محمد عودة، وثانيهم أحمد بهاء الدين، وثالثهم كامل زهيري.

كان كل واحد منهم عميق الثقافة، موسوعي، متعدد الاهتمامات، شديد الوعي بوحدة المعرفة الإنسانية، توفرت لهم الفرصة والقدرة على التعرف على ثقافات العالم شرقه وغربه، مع اقتدار على هضمه واخراجه في صورة إبداع جديد، أضف إلى ذلك أن كل واحد منهم كانت به مَسْحَةٌ فنية من نوعٍ ما، أثروا حياتنا الفكرية والثقافية والفنية على مدار النصف الثاني من القرن الماضي.

**

وإذا ضممنا إلى هؤلاء الثلاثة محمود السعدني الذي شاء حظي أن أقترب منه أيضًا، فستجد نفسك أمام جوقة من كبار الكتاب، وفي نفس الوقت من أئمة الحكائين، تلبستهم موهبة الكلام، فأجادوا فنون الحكي الشفاهي، يتبارون في ذلك إن جمعتهم جلسة واحدة، لهم قدرات هائلة على جذب المستمعين إذا تكلموا، وكنت تتمنى لو أن الوقت امتد بك طويلاً حتى لا ينقطع كلام الواحد منهم، يتقنون فنون الكلام والحكي، يتنقلون بين التاريخ والفن، وبين الأدب والشعر، وبين حكايات الملوك وأسرار الرؤساء وكواليس السياسيين وملاعيب الصحفيين كأنك في بساتين يانعةً ثمارُها على الدوام.

تبقى نقابة الصحفيين عند كامل زهيري هي نقطة البدء
تبقى نقابة الصحفيين عند كامل زهيري هي نقطة البدء

من خلال حكاياتهم في أمسياتنا الممتدة حتى مطالع الفجر تعرفنا على الكاتب الكبير كامل الشناوي، وعلى الكبير متعدد المواهب وطاقة الابداع المتفجرة الأستاذ عبد الرحمن الخميسي، وشاء لي القدر أن أحضر جلسة حضرها الأستاذ الكبير أحمد بهاء الدين وهو ـ رغم خجله وركونه إلى الصمت في أحيان كثيرة، ورغم علمه بوجود واحد من «المتكلمة» الكبار مثل الأستاذ السعدني إلا أنه كان إذا تكلم أسهب، وإذا أسهب أسمع، وإذا أسمع أشبع، حتى لا يكون هناك مجال لكلام جديد.

**

عرفت كامل زهيري أستاذًا في المهنة، وكبيرا من كبرائها، وكنا ولا نزال تلاميذ نحبو في بلاط صاحبة الجلالة، وكان هو من اختارني لأكون أول سكرتير تحرير لجريدة «العربي»، وكان هو وقتها رئيس التحرير، واقتربت منه أكثر في مدة التحضير لإصدار الجريدة التي امتدت شهورًا، وكانت أحلامه تناطح السماء، وأعترف أنها كانت أكبر من الواقع الذي يحيط بجريدة حزبية ناشئة في ذلك الوقت، ولم يسعدنا الحظ بأن يكمل مسيرته مع «العربي»، وتلك قصة أخرى.

لا أعرف موضوعا واحدا أو حقلا من حقول المعرفة لم يتحدث فيه وحوله الأستاذ كامل زهيري بغزارة وعلم وتمكن، سافرت معه مرة وحيدة على متن أول طائرة كسرت الحصار الذي كان مفروضًا على العراق، وكان لي شرف ملازمته طوال الساعات التي أمضيناها في بغداد، وكان لي معه في تلك الأثناء حوار ممتد لم يكن يقطعه غير مصافحات مع هذا المسئول العراقي أو تعليقات سريعة مع أحد أعضاء الوفد الذي كنا في رفقته.

**

كانت لي معه حوارات مطولة، يسميها أحد أصدقائنا المشتركين حوارات ماراثونية، وكان أكثرها على الهاتف، وكنت استأذنه في تسجيل ما يسمح به من آراء حول بعض الشخصيات العامة، وكان مما قاله كامل زهيري عن الأستاذ هيكل إنه كان صحفياً بالمعنى الكامل للكلمة، يجلس يوميا ليلخص جلساته ويكتبها ويسجلها ويأرشفها، والحق أنه قدم نموذجا للصحفي بمعناه الكامل. وكنا نذهب إليه مع أحمد بهاء الدين، والآخرون يظنون أن حديثنا جرى حول السياسة، والحقيقة أنه لم يكن يتوقف عن الحديث عن المطبعة، عن ماكينة للصور، عن الفاكس الجديد الذي أحضره، إلخ إلخ.

ولعلك تستغرب إذا قلت لك أن «هيكل» كان متواضعًا جدًا، ولم يكن يظهر بأي شكل علني درجة أهميته وقربه من جمال عبد الناصر، حتى الكلام الذي كتبه فيما بعد، لم يحدث ولا مرة واحدة أن ذكره في حياة عبد الناصر، أذكر أنى شاهدته نازلاً من طائرة الرئيس وكان آخر النازلين بعد الرئيس والوزراء والمرافقين، كان يتقن التواجد في المنطقة التي يطلق عليها الفرنسيون منطقة «الأهمية الرمادية»، وأظن أنه علم أسامة الباز الحرص على التواجد في هذه المنطقة وقد أتقنها الباز بدوره.

هيكل أفاد الصحافة كمهنة، وجعل «الأهرام» مؤسسة كبيرة وعصرية، أصبحت الجريدة في عهده أهم صحيفة عربية على الإطلاق وصنعت لنفسها سمعة دولية، أعطاها من وقته وجهده وعرقه وفكره، بل أعطاها من أهميته، وأسبغ حماية على العاملين بالمؤسسة، إلى درجة أنى كنت أداعب «الأهراميين» كما كنا نسميهم بالقول: أنتم لستم «شركة شل» التي كانت تعطى خيرات لعمالها حتى يتميزوا على العمال الآخرين في الشركات الأخرى فلا ينضموا إلى الحركة النقابية العمالية.

**

عن الصراع عند قمة السلطة في مايو سنة 1971 قال كامل زهيري إن مجموعة مايو اغتروا بما في أيديهم من قوة، واعتمدوا على تنظيم سياسي ضعيف، أو كانوا هم قد أضعفوا فاعليته وتأثيره وقدرته على المبادرة والحركة، وبالغوا في قدراتهم، وتصوروا أن الاستقالة سوف تقيم الدنيا ولا تقعدها، وأثبتت الحوادث أن تكتيكهم كان خاطئًا، حتى في اختيارهم لأنور السادات أو انحيازهم إلى صف أن يكون هو خليفة لعبد الناصر جرى إيهامهم بأن المرشح الآخر سيكون زكريا محيي الدين وكانت ورقة زكريا فاصلة في إسراعهم إلى الاستقرار على السادات، وهيكل كان يحس من ناحيته بعداء التيار الآخر له، كان يعرف أنهم Block Him أو يسعون إلى التصدي له.

كنت أثق في على صبري وأحس أنه مثقف، ليس مجرد ضابط، تجد في مكتبه بقصر القبة لوحات فنية لكبار الرسامين، وأظن أن هيكل كان يجاملني كنقيب للصحفيين، وأتصور أنه كان يخشى أن أنضم إلى علي صبري في مواجهته، ولكني ظللت أحرص على استقلالية النقابة، وعندما كان البعض من زملائي أعضاء مجلس النقابة يطلب أن نأخذ موقفًا مساندًا لعلى صبري أو لهيكل كنت أقول لهم: أمثال هؤلاء عبارة عن «لوريات كبيرة» تسعى في الأرض، أما نحن فمجرد «موتوسيكلات».

**

أقول لك إن إحسان عبد القدوس كان يمكن أن يلعب مع السادات دور هيكل مع عبد الناصر، وكان يصلح لذلك، ولكن للحق أقول إن إحسان كانت لديه ذمة في السياسة، وهي شيء لا يحبه السادات ولا يستريح إليه.

أما أحمد بهاء الدين فقد كان خجولاً، يكتم في نفسه، وأكثر اتزانًا، كان كيمائيًا في الكلام، يستطيع تلخيص الموقف في كلمتين: «الدولة العصرية»، «الفجوة الحضارية بيننا وبين إسرائيل»، مشكلة بهاء وميزته أنه ظل حساسًا تجاه استقلاليته، ومعتزاً بنفسه، يقول لك: أنا مضطر أنشر صور جيهان السادات، لكنى لست كذلك بالنسبة لزوجة عبد العزيز حجازي.

وكان بهاء يؤيد عن اقتناع، وليس عن أوامر، وأعتقد أن الهزيمة هزَّت بهاء جدًا، وتركت داخله مرارة شديدة ـ أنا مثلاً ازددت تأييدًا لعبد الناصر بعد النكسة كنت أخشى من نتائج المؤامرة الإسرائيلية الأمريكية، ولكن بهاء كان قد ابتلع مرارة قاسية بعد يونية 1967.

**

الصحافة واستقلالها هي قضية القضايا عند كامل زهيري، والصحافة عنده حرة بالضرورة «من غير الحرية تصبح الصحف قصاصات من الورق، منقوشة بحبر أخرس، وهي لذلك في رأي الحكام حرية خطرة، ومن هنا كان تزاحم القوانين عليها، وقد يختلف مشرع عن آخر، ومن هنا كان الدفاع عن حرية الصحافة والصحفيين دفاعا شرعيًا، وليس هذا من مسئولية الصحفيين فقط، بل هو مسئولية الرأي العام».

حتى الرمق الأخير في حياته دافع كامل زهيري عن حرية الرأي والتعبير، وعن حق المواطن في المعرفة دون وصاية من أي سلطة، كان يؤمن أن حرية الصحافة هي علامة ديمقراطية أي نظام، وأنه لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية دون منظومة صحفية وإعلامية فاعلة ومؤثرة تُسهم إسهامًا ايجابيًا في ترشيد حركة المجتمع وتقويمها وتقييمها، واليوم ونحن نحيي ذكرى ميلاده الذي يوافق الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة تدفع بنا هموم المهنة وأحوال الصحفيين إلى أن نتذكر بيت المتنبي الشهير:

عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ    بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ؟

**