في نهاية التسعينات من القرن الماضي. زار الرئيس الراحل حسنى مبارك قناة الجزيرة القطرية. أثناء الجولة التي قام بها داخل مقر القناة، وقتها، وصفها بأنها “علبة الكبريت اللي مولّعة الدنيا”. كان الرئيس الراحل يقصد أن تلك القناة صغيرة الحجم تسبب العديد من المشكلات بالشرق الأوسط. وفق ما نقلت صحيفة Financial Times البريطانية.
يُرجع كثيرون بداية التألق القطري على الساحة العالمية إلى “علبة الكبريت” التي تأسست عام 1996. لكن، بنظرة أكثر اتساعًا، نجد أن الإمارة الصغيرة في الشرق الأوسط تمكنت من تحقيق التوازن بين اللاعبين الأقوياء. ربما لذلك فشلت الكثير من محاولات تحجيمها أو القضاء على دورها.
تضم الأراضي القطرية “قاعدة العديد الجوية الأمريكية”، إحدى القواعد الرئيسية بالمنطقة. ما جعلها تتمتع باتفاق دفاعي، ووضع “حليف رئيسي من خارج الناتو” مع الولايات المتحدة. في الوقت نفسه، استطاعت الحفاظ على علاقات ودية مع إيران. بل، ونجحت في استضافة كبار قادة الجماعات التي صنفتها الولايات المتحدة “إرهابية”. بما في ذلك حماس.
أدارت قطر كل هذه الملفات، مع الاستمرار في تمويل وترويج قناة الجزيرة. والتي تعمل بشكل روتيني على دفع الرسائل المعادية لإسرائيل والولايات المتحدة. والموالية لإيران، وجماعة الإخوان المسلمين.
اقرأ أيضا: قطر وبايدن.. وساطة تبحث عن حل لإيقاف الصراع الخليجي الإيراني
أمريكا تدفع الشرق الأوسط نحو “التقطير”
يبدو الشرق الأوسط محبطًا من التقلبات الشديدة في السياسة الإقليمية للولايات المتحدة. وتملأ حكوماته الشكوك المتزايدة بشأن ثبات الدعم العسكري الأمريكي. لذا، فإن بقية دول الخليج في طور ما يمكن تسميته بـ “التقطير”. أي التحوط في رهاناتهم ضد القوة الأمريكية، واللعب مع طهران. عقد صفقات اقتصادية وأسلحة مع الصين وروسيا. بينما هناك دولة واحدة على وجه الخصوص تستغل هذا الاتجاه لصالحها، وهي إيران.
كما ترى دانييل بليتكا ،الزميلة في معهد أمريكان إنتربرايز، في تحليلها الأخير. تضافرت عدة قوى لتسريع عملية التقطير في الخليج. كان العامل الرئيسي هو ميل الرئيس الأمريكي باراك أوباما بعيدًا عن المنطقة خلال فترة ولايته. ثم تم تعزيز هذا التحول – ومن المفارقات – من خلال تأييد خليفته دونالد ترامب لترتيب اتفاقيات إبراهيم. والتي كانت تهدف جزئيًا إلى استبدال اعتماد دول الخليج على القوة الأمريكية بالتحالفات مع إسرائيل. وقد توج كل ذلك بحرص الرئيس جو بايدن على العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني في عهد أوباما.
بالنسبة لشركاء واشنطن التقليديين في الخليج -لا سيما الإمارات والسعودية والبحرين– فإن كل شيء يدور حول مسألة من سيدافع عنهم ضد إيران ووكلائها. في عهد أوباما كانت الإجابة واضحة في أذهانهم: ستكون الولايات المتحدة إلى جانب إيران. لكن، كثيرين اعتقدوا أن أوباما كان انحرافا. انتعش الأمل في عهد ترامب، لكن سرعان ما أصبح واضحًا بعد الهجمات التي رعتها إيران على منشآت نفطية سعودية رئيسية. أن حتى أشد أعداء إيران ضراوة في البيت الأبيض لن ينطلقوا للدفاع عن الرياض.
تقول بليتكا: غني عن القول، أن فريق بايدن -الذي يتألف من مسؤولين سابقين في إدارة أوباما. ونائب الرئيس الذي جعل التنديد بالسعودية عنصرًا أساسيًا في سياستها الخارجية- لن يكون عاملا في التحسن. وبذلك عزز عصر التحوط في الخليج.
تحولات واشنطن وحذر الخليج
في العام السابق لتفشي الوباء، كانت الولايات المتحدة مصدرًا صافيًا للغاز، وأكبر منتج للنفط في العالم. بالاقتران مع النمو السكاني في أماكن مثل السعودية، والتقلبات الهائلة في أسعار النفط. والقطاعات العامة الكبيرة بشكل مذهل، والمطالب الأخرى على الخزانة العامة. فإن معظم حكومات الخليج صارت تخشى أمنها الاقتصادي في المستقبل.
تضيف بليتكا: يوجد في أعينهم أيضًا عدو الشعب الأول. الرجل الذي تفاوض على الاتفاق النووي مع إيران في عهد أوباما، والذي يخدم الآن خطط المناخ في إدارة بايدن، جون كيري. من وجهة نظرهم -كما أسر لي العديد من القادة الإقليميين- سعى كيري ذات مرة لإخضاع القوى السنية في الخليج من خلال رفع مستوى إيران. وهو الآن يعزز تلك الخطة من خلال محاولة تدمير منتجي النفط لصالح مكاسب بيئية في السماء.
مما لا شك فيه أن تحولات واشنطن قلبت الحسابات التقليدية لحلفائها الخليجيين رأساً على عقب. وسارعت إيران في تحمل هذا الفراغ. منذ الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979. تعاملت معظم دول الخليج مع طهران على نحو متقطع، والعكس صحيح. لكن تسامحهم مع خدع إيران في الخارج كان محدودًا، ونادراً ما أسفرت المحادثات الثنائية عن تقارب جدي.
كان أحد أسباب ذلك هو مخاوف السعودية القوية والمتنامية بشأن طموحات إيران في الهيمنة الإقليمية. جربت الرياض مجموعة متنوعة من السياسات لاحتواء التهديد الإيراني. بما في ذلك محاولة في الثمانينيات والتسعينيات لمحاكاة رعاية إيران للإرهاب لصالحها. من خلال تمويل تنظيم القاعدة، والاعتراف بحكومة طالبان في التسعينيات في أفغانستان، وتصدير التطرف الوهابي. لكن، هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وضعت حداً لهذا النهج.
اقرأ أيضا: آسيا الوسطى.. بين الانسحاب الأمريكي وأمن الخليج ومصالح إيران
في الشرق الأوسط.. إما “معنا أو ضدنا”
أدى خيار “معنا أو ضدنا” الذي وضعته الولايات المتحدة والرئيس جورج دبليو بوش في أعقاب هجمات مركز التجارة العالمي. إلى تخلى النظام الملكي السعودي عن سعيه لبناء نسخة سنية من الجمهورية الإسلامية. وعلى مدى العقد والنصف الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت المملكة في إعادة تشكيل نفسها كقائد لكتلة إقليمية مناهضة لإيران تدعمها الولايات المتحدة. مما أدى إلى خنق المحاولات العرضية من قبل جيران الخليج لإصلاح العلاقات مع طهران.
تضمنت المحاولات الأولى التي قامت بها الرياض للتوصل إلى إجماع خليجي بعد أمريكا على مقاطعة إيران. وحظر لا طائل منه تقريبًا على قطر. فضلاً عن حرب كارثية في اليمن.
يلفت تحليل الزميلة في معهد أمريكان إنتربرايز إلى أنه في كل حالة، برزت رغبة الرياض في توضيح وتأكيد أولويات سياستها الخارجية المستقلة. لوقف ترويج قطر للمنشقين السعوديين والإخوان المسلمين. ولمنع الحوثيين المدعومين من إيران من شن هجمات عبر الحدود على السعودية. ربما كانت الحالة الثانية منطقية. لكن في كل حالة، كانت هناك نتائج عكسية، لدرجة أن المؤيدين الأوائل -بما في ذلك الولايات المتحدة وجيران السعودية في الخليج- سقطوا.
كان الإماراتيين أول من أدرك أن المستقبل بقيادة السعودية من غير المرجح أن يعمل بشكل جيد. وفي النهاية، أدرك ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان -إلى جانب بقية دول مجلس التعاون الخليجي- أنه من الأفضل أن تتبنى المملكة استراتيجية تحوط. تتضمن علاقات أفضل مع موسكو وبكين. وكذلك مزيد من الانفتاح على الحديث مع إيران.
زعزعة استقرار اللاعبين في الشرق الأوسط
كانت أكثر المظاهر المروعة لاستراتيجية التحوط الجديدة هذه هي الانتقادات السعودية والإماراتية. التي حظيت بتغطية إعلامية جيدة لدعوات البيت الأبيض التي تسعى إلى إعادة تعبئة النفط بعد الحظر الذي فرضته روسيا. بل، واختار كلا الزعيمين -بن سلمان وبن زايد- التحدث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد أن غزا أوكرانيا.
كانت هناك خطوات أخرى أيضًا. مثل الشراء الإماراتي لطائرات التدريب الصينية ، ومشروع ميناء صيني -متوقف مؤقتًا- بالقرب من أبو ظبي. وكذلك مصنع صواريخ باليستية تدعمه الصين في السعودية. وبالطبع، امتنع كلاهما عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على معاقبة روسيا على غزوها لأوكرانيا.
من وجهة نظر طهران، خلقت واشنطن فرصة. وكالعادة، سارعت القيادة الإيرانية إلى استغلالها. فطالما كان النظام الإيراني قلقًا بشأن التطويق. وبينما كان يعمل بنجاح غير عادي لزعزعة استقرار مجموعة متنوعة من اللاعبين في الشرق الأوسط -من بينهم لبنان وسوريا والعراق واليمن- فإن جيرانه الخليجيين كانوا دائمًا أصعب من الانهيار.
تقول بليتكا: لقد وجدت طهران تاريخياً أن الجهود المبذولة لإثارة المعارضة الداخلية. في أماكن مثل المملكة العربية السعودية والبحرين، قد باءت بالفشل. وعندما اكتشفت القيادة الإيرانية أن تصدير عدم الاستقرار إلى جيرانها الخليجيين -الأكثر ازدهارًا- كان أمرًا صعبًا للغاية. فقد تبنت نهجًا أكثر دقة لاقى نجاحًا مدهشًا.
على مدار العام الماضي. توسطت الحكومة في العراق -المحاصرة بين طهران وواشنطن- في محادثات انفراج بين إيران والسعودية. كانت هذه المحادثات المتكررة متقطعة في أحسن الأحوال. لكن بغداد، بناءً على طلب من طهران، سعت إلى استمرارها. بالمثل، عقد اجتماع رفيع المستوى -غير عادي ولكنه مهم- في ديسمبر/تشرين الأول الماضي، في طهران. بين كبير مسؤولي الأمن القومي الإماراتي والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي.
خسارة النفوذ الأمريكي
لا ينبغي تفسير حماس طهران لإجراء محادثات مع جيرانها الخليجيين أو استعدادهم للمشاركة على أنه تحول جذري. في الواقع، لا يزال القادة الإماراتيون والسعوديون غير واثقين من إيران. وتواصل إيران من جانبها التحريض ضد جيرانها السنة. ولكن، مع اتساع الهوة بين الولايات المتحدة ورفاقها السابقين في دول مجلس التعاون الخليجي -والتي تجلت بفشلهم في دعم إمدادات النفط الأمريكية أو معاقبة روسيا على غزوها لأوكرانيا- واصلت إيران عرض الحوار.
تلفت الزميلة في معهد أمريكان إنتربرايز إلى أن رغبة طهران في الاستفادة من التحوط في الخليج استراتيجية ذكية. تقول: لا يعني ذلك أي تغيير في طموحات إيران الإجمالية لنفسها ووكلائها. لكنه يؤكد استعدادًا للعب اللعبة التي تمتلك قطر حقوق الطبع والنشر لها.
تضيف: على المدى القصير، قد يقلل هذا الاستعداد من حرب الاستنزاف المفتوحة بين السنة والشيعة في المنطقة. ويعزز هيمنة إيران على العراق ولبنان واليمن. والأهم من ذلك بالنسبة للولايات المتحدة، أنه يعني خسارة شبه كاملة للنفوذ في المنطقة.